لماذا نعتقد أننا أفضل من الشخصيات المسرحية – عواد علي

انتظتر جودو
من مسرحية “في انتظتر جودو”

ثمة علاقة وشيجة بين مسرح العبث أو اللامعقول والسخرية والفكاهة، ففي العديد من النصوص التي تندرج ضمن هذا التيار كشف كتّابها عن عناصر الزيف والتصنع في سلوك الناس، بأسلوب تهكمي، ورسموا شخصياتها الدرامية على نحو يفضح تناقضاتها العميقة والفجوة الكبيرة بين تطلعاتها وحياتها التي تبدو تافهة من دون قيمة.

أطلق بعض النقاد مصطلح “الكوميديا المظلمة” على النصوص التي تندرج ضمن مسرح العبث أو اللامعقول، انطلاقا من مبدأين أساسيين تقوم عليهما، أولهما فشل اللغة في التواصل بين البشر، وعجزها عن تحقيق علاقات جيدة بينهم، وثانيهما أن التجانس بين الناس ظاهري فقط، أما في العمق فإن ثمة شرخا كبيرا يفصل بين كل واحد منهم. وسبب ذلك أن المدنية العشوائية، من وجهة نظر كتّاب مسرح اللامعقول، دمَّرت القيم الإنسانية الفاضلة، وأقصت العلاقات المبنية على التعاون والتآزر.

وركزت أغلب الدراسات التي اهتمت بالمنحى الكوميدي في مسرح اللامعقول على عناصر محددة فيه، كالرسالة والشفرة والسياق، مستفيضا في مقاربة مكوناتها الفنية وأبعادها الرمزية ومرجعياتها الاجتماعية والفلسفية والثقافية، أما عنصر المرسل إليه (المتلقي) فلم يحظ إلاّ باهتمام قليل، نادر، دشنه بعض نقاد جمالية التلقي الألمان، وخاصة فولفغانغ آيزر.

سلسلة من الخسائر

صامويل بيكيت في مسرحه يجعل المتلقي لا يشاهد موقفا كوميديا، بل يحدث له، وذلك لأنه يكتشف أن تأويلاته مستبعدة
صامويل بيكيت

اتخذ فولفغانغ آيزر الكاتب والمسرحي الأيرلندي صامويل بيكيت نموذجا لدراسة ظاهرة ضحك المتلقي في العروض القائمة على نصوصه المسرحية.

وخلص آيزر إلى أن هذه الظاهرة تميل إلى أن تكون فردية، ويصحبها، عادة، إحساس بعدم الراحة، ثم لا يلبث أن يختفي، وعزا ذلك إلى أن الكوميديا تنشأ من مواقف تنطوي على تعارض، ولا تنتهي بحسم الصراع إلى غالب ومغلوب، بل تنتج عنها سلسلة من الخسائر.

وهكذا يتولد عدم اتزان يشوب عالم الأحداث المسرحية، وينتقل هذا الإحساس إلى المتلقي مولدا إرباكا لملكاته العاطفية والمعرفية. ولا يحدث الضحك عن عدم الاتزان هذا فحسب، بل نتيجة لعملية الإرباك أيضا، وبذلك يتحول الضحك هنا، في ضوء مقولات هيلموت بليسنر النفسية في كتابه “الضحك والبكاء”، إلى واحدة من آليات الدفاع.

لكن آيزر استدرك متسائلا: ماذا يحدث لو تخلى العرض الكوميدي عن طبيعته الفكاهية غير الجادة المعلنة، أو أزاحها جانبا؟ وما الذي ينتج لو تحول العرض فجأة إلى الجدية مرة أخرى في اللحظة نفسها التي أدرك فيها المتلقي أن عدم الجدية هو وسيلته لتحرير الذات من قيودها؟ وأجاب آيزر بأنه في مثل هذه الحالات يصعب علينا تجنب التوتر، ويموت الضحك على شفاهنا.

إلاّ أن منظّر جمالية التلقي ربما غاب عنه، حين جعل “التعارض” السمة الأساسية للكوميديا، أن المواقف التي تنطوي على تعارض في الدراما ليست حكرا على الكوميديا، بل هي أكثر تجليا في التراجيديا، فأين نجد مواقف تتعارض فيها طبائع الشخصيات ورؤاها وأفكارها وأهواؤها، وتتقاطع مصائرها وتوجهاتها وخياراتها، أعمق مما نجده في تراجيديات مثل “أوديب ملكا”، و”أنتيغونا”، و”هاملت”، و”الملك لير”، و”ماكبث”؟

 كما أن الجزم بأن الكوميديا تنتج عنها سلسلة من الخسائر ليس صحيحا في جميع الأحوال، فالفعل الدرامي فيها قد يقوم على تخطي سلسلة عقبات لا تفضي إلى خسائر، بل إلى تسويات تكون الخاتمة فيها سعيدة.

وإذا كان بعض أنماط الكوميديا تنتج عنه خسائر ما، كالكوميديا المظلمة في كثير من مسرحيات تيار العبث، التي اختار آيزر منها أنموذجه في التحليل، فإن ذلك لا ينطبق على جميع أنماط الكوميديا.

فولفغانغ آيزر: الكوميديا تنشأ من التعارض وتنتج عنها سلسلة من الخسائر
فولفغانغ آيزر

يستخدم آيزر مصطلح “الوظائف السالبة”، الذي اجترحه يوري لوتمان، ليصف مسرحية بيكيت “في انتظار غودو” بأنها سلسلة من هذه الوظائف، ويعني بذلك أن مكونات المسرحية تحبط أي توقعات تقليدية للمتلقين، ويتوالى ضحكهم لإحساسهم بالاستعلاء والتفوق على الشخصيات التي لا تجد شيئا تفعله منذ البداية.

 لكن هذه الضحكات قصيرة المدى، إذ لا تلبث المسرحية أن تصيب المتلقين بمس كهربائي يقطع تيار الضحك حينما تناقض المعاني التي استخلصوها، أو تنفيها.

واستنتج آيزر من ذلك أن المتلقي في مسرح بيكيت لا يشاهد موقفا كوميديا، بل تحدث له الكوميديا، وذلك لأنه يكتشف، في أثناء مسار المسرحية، أن تأويلاته تقع في إطار ما يجب استبعاده. ولعل ما يقصده آيزر بـ”الاستبعاد” هو ما يجب على المتلقي طرحه جانبا من منظومة توقعاته، تلك التوقعات التي، غالبا ما، يهدف الفن التجديدي إلى كسرها، أو، بتعبير زميله هانز روبرت ياوس، إلى “تدمير معيارها القائم، لأن البعد الجمالي الأصيل يخرق أفق الانتظار”، وهو ما يسميه بالجمالية السلبية، أو الجمالية الانتقائية.

يحيل رأي آيزر، الذي يعزو ضحك المتلقين إلى إحساسهم بالاستعلاء والتفوق على الشخصيات، على فكرة الناقد الكندي نورثروب فراي، القائلة إن المتلقي في الكوميديا يرتفع فوق مستوى الفعل، ويراه من وجهة نظر عالم أعلى وأنظم، وهي الفكرة ذاتها التي أخذ بها الناقد الفرنسي باتريس بافيس.

ونعتت الباحثة الكندية سوزان بينيت تفسير آيزر للبنى الدرامية على أساس أنها أنظمة تتسم بعدم التحقق (أو باستخدام تعبير لوتمان “أنظمة ذات وظائف سالبة”) بأنه تفسير ساذج، معللة ذلك بأن المتلقي ربما لم يكن في البداية معتادا على مسرح العبث، كما قدمه بيكيت، ومن ثم اتسمت ردود أفعاله بالحيرة والتشوش، لكن من المؤكد أنه بعد ظهور كتاب مارتن أسلن عن مسرح العبث عام 1961، بل والأهم من ذلك، بعد توفر فرصة مشاهدة مسرحيات من نمط مسرحيات بيكيت، أصبحت المسرحيات العبثية مقبولة ومتوقعة.

مثلما يقوم المتلقي، من وجهة نظر آيزر، بعملية تشكيل معنى الأحداث في مسرحية “في انتظار غودو”، فإنه يقوم في مسرحية “لعبة النهاية”، لبيكيت نفسه، بعملية أداء تفرضها اللغة، الأمر الذي ينتج عنه أن يأخذ في هذه المسرحية مكان أبطال المسرحية السابقة، فيلعب دوري فلاديمير واستراجون.

كما ينتج عن ذلك وضع المتلقي في موقع منفصل عن الأحداث يمكّنه من أن يرى نفسه كلاعب لشخصية كوميدية، وهو دور تدفعه إلى القيام به خبراته السابقة في المشاهدة.

وهكذا يصبح المتلقي، على وفق هذا التصور، منتجا ومتلقيا للدراما في الوقت ذاته، ويتيح للنص إمكانية إيصال فكرة الشخصية المقلقة، التي تفتقد إلى المركز والوحدة، وذلك من خلال تجربة ذاتية يعايشها المتلقي في صورة مشروعات لبناء المعنى، لا تلبث أن تتخلق حتى تُطرح جانبا بشكل مستمر.

واستنتج آيزر من ذلك أن مسرحيات بيكيت تقوم دائما على إحباط توقعات المتلقي، ولذا يمكن وصفها بأنها تتبنى دائما اتجاها مخالفا للنظر إلى الجمهور بوصفه “جماعة تأويلية”، كما يذهب الناقد الأميركي ستانلي فيش. ويستهدي هذا التصور، كما أرى، بالمبدأ الظاهراتي الذي يعتقد بأن المتلقي يُدخل النص إلى شعوره، ويجعل منه تجربته الخاصة.

إلاّ أنه يستثير ملاحظة جوهرية هي أن انفصال المتلقي عن الأحداث، وهو مفهوم مركزي عند بريخت، يعني وضع مسافة بينه وبين ما يُقدم على الخشبة تحول دون تماهيه مع العناصر السمعية والبصرية التي تشكل عالمها (بما فيها المؤدون)، وتسمح له بمراقبتها ومساءلتها واتخاذ موقف منها، وليس العكس، أي الاندماج معها، ورؤية نفسه كممثل لإحدى الشخصيات على الخشبة، وخاصة المتلقي الذي يحدده آيزر، أي ذلك الذي يمتلك خبرات سابقة في المشاهدة.

مآخذ على آيزر

لعل آيزر يناقض نفسه هنا، فهو القائل إن القارئ، أو المتلقي يشكل موضوعات “متخيلة” في ذهنه على أساس فرضية “أفق التوقع”، وتكون هذه الموضوعات عرضة للتعديل، أو التكييف، بل سلسلة متواصلة من التعديلات “نحن نحمل في أذهاننا بعض التوقعات القائمة على ما نذكره عن الشخصيات والأحداث، غير أن التوقعات يجري تعديلها باستمرار، وما نذكره يجري تحويله كلما مضينا في قراءة النص”.

إن عملية التعديل هنا نابعة من موقف نقدي، ومساءلة للشخصيات والأحداث، ورفض لبعض المعايير التي تتبناها أو تقوم عليها، ومحاكمتها، واقتراح بديل عنها، فكيف يستقيم ذلك مع رؤية المتلقي نفسه لاعبا لشخصية ما؟ ربما في حال واحدة فقط هي تماهيه معها بعد أن أجرى عليها تعديلا في ذهنه، وكيّفها مع أنموذجه الذي رسمه لها في مخيلته.

ومما يؤخذ على تحليل آيزر، أيضا، أنه اعتمد على قراءة نصوص بيكيت، ولم يأخذ في الحسبان العروض المسرحية لهذه النصوص، وهو القائل في كتابه “فعل القراءة”، إن القراءة تختلف عن كل أشكال التفاعل الاجتماعي الأخرى لأنها عملية تخلو من موقف اللقاء وجها لوجه مع آخر، أما المسرح فينهض على لقاء المؤدين بالمتلقين وجها لوجه في موقف يزيد من تعقيده وجود دوال مادية ملموسة على خشبة المسرح (وإن تناقصت إلى حد العدم في مسرح بيكيت)، ولهذا يختلف نظام الاستجابة في المسرح عنه في عملية القراءة.

إن اختلاف فيش مع آيزر حول أي من العنصرين في نظرية التلقي له أهمية أكثر من الآخر، المتلقي أو عملية القراءة، جعله يلح على أن العمل الأدبي لا يوجد “فيه” كل شيء، أي أن الفكرة الذاهبة إلى أن المعنى “يلازم” لغة النص، بشكل من الأشكال، وينتظر من القارئ أن يجسده مجرد وهم موضوعاتي.

ويجد فيش أن آيزر كان ضحية هذا الوهـم، لكن الناقد الإنجليزي تيري إيجلتون يرى أن الخلاف بين فيش وبين آيزر خلاف لفظي إلى حد ما، مسوغا ذلك بأن فلاسفة العلم الذين قد ينكرون اليوم أن المعطيات المختبرية من إنتاج التأويل، قليلون جدا، فثمة فرق بين الفرضيات العلمية والمعطيات العلمية، على الرغم من أن كلتيهما “تأويلات”، من دون أدنى شك، وما تتخيله فلسفة العلم التقليدية من هوة سحيقة بينهما هو وهم بالتأكيد.

عواد علي العراق

(العرب)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش