لا بدّ من تخليص الخطاب المسرحي من المتفرجين الذكور / عواد علي

التلقي المسرحي من منظور نسوي يعيد الاعتبار للمرأة على الخشبة وأمامها.

الكثير من الأعمال المسرحية ذكورية في عمقها، حيث ترسخ فكرة البطل الذكر بينما تقدم المرأة مشاركة في صناعة البطل أو في تأكيد الأفكار الذكورية أو نجدها تغوي الذكر أو يغويها، وغيرها من الحالات التي تشترك في ترسيخ فكرة المرأة التابعة للرجل، وهو ما ثار ضده المسرح النسوي، والذي ذهب إلى تغيير قواعد اللعبة المسرحية الذكورية، لكن ذلك يتطلب أيضا تغيير ذهنية المتفرج، ليتمكن من تقبل المسرح النسوي بكامل حمولاته الفكرية والجمالية.

عرفت الحركة النسوية موجات عديدة مذ كتبت الإيطالية – الفرنسية كريستين دي بيزان في القرن الخامس عشر كتابها “مدينة السيدات”، واستشهدت بها سيمون دي بوفوار بوصفها أول امرأة شجبت كراهية النساء، ودونت آراءها حول العلاقة بين الجنسين.

ويشير مؤرخو الحركة إلى أن المفهوم الأهم والمركزي، الذي أدى إلى تغيير الجدل الخاص بالمسألة النسوية، هو مفهوم “الجندر” (الجنوسة أو النوع الاجتماعي). ويعود هذا المفهوم إلى كتاب “الجنس الآخر” لدي بوفوار، الذي صار مرجعا للحركة النسوية العالمية، بالرغم من أنها لم تستخدمه بشكل مباشر، وإنما انبنى على مقولتها الشهيرة “المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة”.

وقد شهدت النظرية النسوية في مجال الأدب والفن، منذ الموجة النسوية الثانية، جدلا واسعا، هل أن كل ما تنتجه النساء من أعمال أدبية وفنية ذو محمول نسوي أم أن الإبداع النسوي هو فقط تلك التجارب القائمة على وجهات نظر نسوية بحتة؟

الناقدة الفنية والناشطة النسوية الأميركية لوسي ر. ليبارد حسمت هذا الجدل عام 1980 بأن الفن النسوي “ليس نمطا ولا حركة، بل هو نظام قيمي، استراتيجية ثورية، أسلوب حياة”. ومنذ ذلك التاريخ صار التمييز واضحا بين التجارب النسائية والتجارب النسوية في الفن والأدب والنقد.

مسرح نسائي ونسوي

 

                                                                                                                                                          تجاوز المرأة للدور الثانوي

 

في مجال المسرح يجب التمييز بين مفهومي “المسرح النسائي” و”المسرح النسوي”، بالرغم من أن أغلب النقاد يستخدم المفهومين على نحو عشوائي من دون تمييز، فالأول يشير إلى النشاط المسرحي الذي تقوم به فرق مسرحية تديرها النساء، حتى وإن كان تكوينها وجمهورها خليطا من الجنسين، ويغلب على إنتاجاتها العروض التي تؤلفها وتخرجها كاتبات ومخرجات متمرسات. ويستند هذا التحديد إلى منهج تلك الفرق المسرحية في العمل والإدارة، أي إلى ما يحدث وراء خشبة المسرح، لا إلى ما يُقدَّم عليها.

أما المفهوم الثاني فإنه يشير إلى التجارب المسرحية التي تحمل وجهات نظر نسوية تشكّل محاولات لتحدي التقاليد المسرحية (الذكورية) التي تسعى إلى قولبة صورة المرأة، وتعكس الأبنية الاجتماعية التي تحصرها في الأدوار الثانوية والتابعة، أو تروج لها بوصفها “قطعة تزيينية” أو “شيئا جميلا”.

وغالبا ما تكون هذه النتاجات المناهضة لقهر المرأة من إبداع نساء خرجن من معطف الحركة النسوية. ومن الواضح أن تحديد هذا المفهوم يستند إلى ما يحدث على خشبة المسرح، أو ما يُقدَّم عليها من خطاب مسرحي ذي طابع نسوي.

التلقي المسرحي النسوي

لم يكتفِ تيار النقد المسرحي النسوي بتقديم مقاربات وتحليلات لهذا الخطاب، أو تفكيك النتاجات المسرحية الذكورية فحسب، بل سعى إلى البحث في عملية التلقي المسرحي من منظور نسوي أيضا بهدف خلق وعي نقدي نسوي تجاه العروض المسرحية، وإيجاد متلقّ، أو متفرج نسوي مناصر لقضايا المرأة. ومن أبرز الناقدات النسويات اللائي بحثن في هذا الموضوع، الناقدة الأميركية جيل دولان.

بحثت جيل دولان، في كتابيها “المتفرج النسوي بوصفه ناقدا”، و”المتفرج النسوي في العمل: النقد النسوي على المسرح والشاشة” في وضعية التلقي النسوي، وآليات كتابة النقد الثقافي النسوي من خلال النظريات النسوية، مؤكدة على الاستجابات المتباينة للمتفرجين، تبعا لأيديولوجياتهم في ما يتعلق بالذكورة والأنوثة (الجُنوسة Gender)، والتحيز الجنسي (الجنسوية Sexism)، والعِرق، والطبقة الاجتماعية.

وسعت من خلال دراستها لما يسمى بالفرجة النسوية إلى تفكيك مفهوم الجمهور المقصود في العروض المسرحية السائدة الموجهة إلى البيض، أو أفراد الطبقة المتوسطة، أو الذكور، مستخدمة خطابات محددة داخل الفكر النسوي، إضافة إلى مسرحيات كتبتها نساء، أو كتبها رجال عن النساء.

تعمل أجهزة الأداء التي توجّه خطاب الممثل، من وجهة نظر دولان، على تكوين جمهور غير متبلور، مجهول الاسم، من دون ملامح، فالنص، الإضاءة، المكان، الملابس، وكلّ جوانب المسرح المادية مستغلة، أو متلاعب بها، بحيث تكون معاني الأداء مفهومة لمتفرج محدّد، ومبنية بطريقة محدّدة بمصطلحات خطابها.

وكان هذا المتفرج قد افتُرض، تاريخيا، أنه واحد أفراد الطبقة الوسطى، المشتهي للمغاير جنسيا. إن ذلك المسرح يخلق متفرجا مثاليا محفورا في المظهر الخارجي للثقافة المهيمنة، لذا فإن الأيديولوجيا التي يمثلها هي الافتراض المحفّز لنقد الأداء النسوي.

الجندر والتمثيل

 

                                                                                   جيل دولان سعت من خلال دراستها لما يسمى بالفرجة النسوية إلى تفكيك مفهوم الجمهور المقصود في العروض المسرحية

 

ترى دولان أن صانعي المسرح النسوي والنقاد قد عملوا، منذ إحياء النظرية النسوية الأميركية في الستينات، على إظهار الطبيعة النوعية – الجندرية (الجنوسة) للتمثيل المسرحي، وتعديل مصطلحاته جوهريا، وأن مسخ وضع المتفرج المثالي، كممثل للثقافة المسيطرة، يمكّن الناقدة المسرحية، أو الناقد المسرحي النسوي من الإشارة إلى أن كل جوانب الإنتاج المسرحي، وأنواع المسرحيات والعروض قد أفضت إلى أن تكون النصوص المقدسة (أو الطوباوية)، في النهاية، مقرَّرة بحيث تعكس أيديولوجيا المتفرج المثالي وتحافظ عليها.

ولأن نقد الأداء النسوي يركز على الفروض الأيديولوجية التي تخلق متفرجا مثاليا، فإنه، حسب دولان، مدمِّر (تخريبي) بالطّبيعة، فهو قائم على الاعتقاد بأن التمثيل، الفن البصري، المسرح والعرض، السينما، والرقص، تُخلق من معان أساسية ذات طابع أيديولوجي، لها نتائج، أو آثار مادية نوعية جدا.

القارئ المقاوم

تعتقد دولان بأن النقد النسوي يمكن أن يُرى بوصفه “قارئا مقاوما” يحلل معاني العرض المسرحي بقراءة مضادة للمسائل المقولبة، ومقاومة التلاعب بالنص.

وتشير إلى أن دراستها هذه تركز على عملية التفرج (التلقّي)، وهي تمثّل مسعى لتسليط الضوء على صالة المسرح، أو قاعة المشاهدة، إذا جاز التعبير، لتوضيح الاختلافات بين المتفرجين الجالسين أمام الإطار المسرحي. وتستنتج أن معظم وظائف العرض المسرحي التي توجه خطابها إلى متفرج نوعي – جندري قد حدد، ثقافيا، شفرات جنسوية لكي يعزز التقييد الثقافي، فالعرض المسرحي عادة ما يخاطب متفرجا ذكرا بوصفه موضوعا فعالا، ويشجعه على التماثل مع البطل الذكوري. ولذلك فهي تعترض على جعل المؤديات والمتفرجات سلبيات، وذوات غير متكلّمة.

تجد دولان أن فكرة معاينة المتفرجة هي مثل التمثيل في موقع نقدي دخيل حتما، فهي، أي المتفرجة، لا تستطيع أن تجد في العرض المسرحي ما يؤكد على كونها امرأة، بل أكثر من ذلك كونها عضوا في طاقم العمل، أو سحاقية، أو امرأة خضاب محرومة من خطابها. إنها ترى مؤديات جذابات يضعن مكياجا، ويرتدين أزياء لكي يغوين الرجال، أو بالعكس لكي يغويهن الرجال.

وطالما أن الرجال، بشكل عام، فعّالون، وأصحاب الشأن، فإن النساء يظهرن هامشيات، خارجات عن الموضوع بشكل غريب، باستثناء كونهن يشكلن نسقا مساعدا، أو مضمرا، أو إطارا تزيينيا (ديكورا) يزيد من لذة تحديق المتفرج الذكر ويقودها.

إن أهم ما في بحث دولان هو دراستها للمسارح وجماهيرها التي تعمل خارج الأنماط المسرحية السائدة، والتي تتجاوز الصيغ التقليدية في ما يتعلق بالتجسيد المسرحي لمسألة “الجنوسة”، لكن القضايا التي تثيرها تتجاوز، في مجملها، كما توحي بذلك، قضية الخصوصية الجندرية.

يُذكر أن جيل دولان أستاذة اللغة الإنجليزية في جامعة برينستون بولاية نيوجرسي، وأستاذة الدراسات المسرحية في مركز لويس للفنون، شغلت سابقا مناصب عديدة منها رئيسة قسم المسرح والرقص في جامعة تكساس بأوستن، ورئيسة جمعية المسرح في التعليم العالي، ورئيسة برنامج المرأة والمسرح، ولها مجموعة كتب مثل “الحضور والرغبة: مقالات في الجٌنوسة، الجنسانية والأداء”، “يوتوبيا في الأداء: العثور على الأمل في المسرح”، “المسرح والجنسانية” و”جغرافيا التعلم: النظرية والتطبيق، والنشاط والأداء”.

 

                                                                                                                                                غالبا ما يتم وضع المرأة في إطار ضيق

المصدر / العرب
https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش