“كين”.. مسرحية تقترح تأملا عميقا في كينونة الإنسان ومظهره

 

على خشبة “لوفر” بالعاصمة الفرنسية باريس تعرض الآن مسرحية “كين”، عن ممثل بارز كانت لندن كلها تهتف باسمه، ألا وهو إدموند كين. لكن نجاحه على الخشبة لا يعني أنه ناجح في حياته. وهذه المسرحية يلتقي فيها الكوميدي بالتراجيدي لتصوير هشاشة الممثل.

من مفارقات هذا الوضع المأزوم أن كثيرا من المسارح الفرنسية عبّرت عن ابتهاجها برفع الحظر منذ العاشر من يونيو الجاري، في وقت كانت كلها في العادة تستعدّ لعطلة صيفية مريحة، تعود إثرها إلى برمجتها الجديدة في مطلع الخريف. ولكن إقبال الجمهور الذي حرم شهورا طويلة من العروض المسرحية أنساها هذا الهمّ، شأن فريق ألان ساكس في استئناف عرض مسرحية “كين” على خشبة “لوفر” بالعاصمة الفرنسية باريس.

ولدت مسرحية “كين” من التقاء عدة أعلام. أولا، إدموند كين (1787 – 1833)، الممثل اللندني الذي كان نجم المسرح الملكي بدروني لين في مطلع القرن التاسع عشر، وتوفي على الخشبة وهو يؤدّي دور عطيل، وكان لغُلوّه الذائع الصيت، في المسرح وخارجه، ما دفع ألكسندر دوما الأب إلى استلهام سيرته في مسرحية تحمل اسمه، وكان قد ألفها لفريديريك لوميتر، أحد عمالقة المسرح في ذلك الوقت، فأخرجها وعرضت في مسرح المنوعات عام 1936.

ولما علم بها سارتر عن طريق نجم المسرح والسينما بيير براسّور تحمّس لإعادة كتابتها، لأن فكرة ممثل يؤدّي دورا ذاتيا إلى جانب دوره في المسرحية أعجبته، حيث رأى فيها مسرحا داخل المسرح.

المسرحية تجمع الكوميديا بالتراجيديا لتصوير هشاشة ممثل عرف المجد والبؤس معا، حتى فاض به القهر فقضى نحبه

بعد ذلك أخرجها جان كلود دْرُوُو عام 1982 لمسرح أتيني، وقام بدور البطولة فيها لوي جوفي، ثم تلاه الممثل والمخرج الشهير روبير حسين، وتقمّص دور كين النجم السينمائي الفرنسي جان بول بلموندو في مسرح مارينيي عام 1987. أي أن ألان ساكس، الممثل والمخرج البارز الذي أقبل على إخراجها هذه المرة، وجد نفسه رغما عنه في وضع مقارنة مع كل الأعلام الذين سبقوه.

هذه المسرحية التي اقترن فيها اسم الكاتب بالممثل حيث يشار إليها دائما بـ”كين دوما”، أرادها صاحب “الفرسان الثلاثة” اعترافا بممثل بارز عاش حياة متقلبة، عرف المجد والبؤس في آخر أيامه، حتى فاض به القهر فقضى نحبه، وهو يؤدّي أحد أدواره الشهيرة.

أما سارتر فقد ركّز على مآسي وعي منفيّ عن ذاته، مجبَر على أن يكون غير ما هو في الواقع، ووعي الممثل هنا هو مثال جليّ عمّن تتفجّر هويته من دَور إلى دَور.

فمن هو إدموند كين الذي يغري الكونتيسات الناضجات والبورجوازيات الفتيّات، سواء في صورة عطيل أم في صورة روميو، ويحوز إعجاب الأمراء وعامة الشعب معا، ويخلط حياته الخاصة وحياته الفنية على الخشبة في حمى الكواليس، ويملك الجرأة على السخرية جهارا من الأقوياء، وينشئ لنفسه مملكة وهمية ما فتئت تتآكل حتى هوت وهوى معها؟ هو كل ذلك.

ولئن كان سارتر غير راضٍ تماما عن عمله هذا، وكأنه يلوم نفسه على الاحتفاء بممثل تُجلّه الأرستقراطية، لاسيما أن الحرب الباردة كانت تقرّبه أكثر فأكثر من الشيوعية، فإن ألان ساكس تجاوز كل ذلك، وأبرز حرية الممثل الجنونية، مثلما أبرز شعوره بالوحدة والخواء الداخلي، بعد إسدال الستار، وانصراف الجمهور، وانطفاء الأضواء.

عرض مسرحي يسرد الوجه الآخر الخفي للممثل

عرض مسرحي يسرد الوجه الآخر الخفي للممثل 

فعندما يسدل الستار، ويجد الممثل نفسه وحيدا في حجرته، نكتشف رجلا يطفح بالشكوك، مع إقبال مفرط على الخمر، فضلا عن مطاردة الدّائنين إيّاه. ولم يفلح رغم نجاحه وتألقه في أن يحوز مكانا في المجتمع، فالأمراء والسفراء والحسان يحومون من حوله، ويتقربون إليه، ولكنه يحسّ في قرارة نفسه، وحتى في سلوكهم بعيدا عن الخشبة، أنه لن يكون أبدا واحدا منهم، فما هو في نظرهم سوى المشعبذ التي يُسَرّون برؤيته، ويعجبون بأدائه على الخشبة حدّ الافتتان، ويسعدون بقضاء سهرة معه، وهم على يقين من أنه ليس منهم، ولا يمكن أن يكون من طبقتهم.

في شخصيته غالبا ما يتداخل الإنسان والممثل، حتى صار لا يعرف بالضبط من هو. هل هو ذلك الشخص المسجل في الحالة المدنية يروح ويجيء مثل سائر رعايا المملكة البريطانية، أم هو مزيج من مختلف الشخصيات التي يتقمّصها؟

وفي ليلة ضاق صدره بخيبات غرامية، ووضعية مالية متردية، وشعور بأن العمر يجري وهو يتوهّم أنه لا يزال قادرا على تقمّص دور الفتى روميو، لاسيما أنه، بخلاف بطل شكسبير، دميم الخلقة، فانفجر في وجه الجمهور كله صارخا فيهم “تأتون هنا كلّ مساء وترمون باقات الأزهار على الخشبة وأنتم تهتفون ‘برافو!’ حتى خِلت أنكم تحبوّنني.. ولكنّكم في الواقع لا تُحبوّن إلاّ ما هو زائف”.

مسرحية “كين” تلخّص جوهر المسرح، وألكسندر دوما يكشف لنا عمّا وراء الديكور، حيث الكوميديا والتراجيديا، وحيث البحث عن المطلق والسلطة والعشق والجنون.. هي حكاية عن هشاشة ممثل يتمرّد ويتحدّى الجمهور. وقد جعلها دوما تحية إلى روح شكسبير، ومسرحا داخل المسرح سابقا بذلك بيرانديلّو، وهي إلى ذلك تقدّم للمتفرّج تنويعات عن الممثل ونداء حماسيا إلى كل أشكال المقاومة، وأنشودة صاخبة للحرية، تمزج الخيال الحامي والمتألق لدوما، والحداثة الجريئة لسارتر، وتقترح تأملا عميقا في الكينونة والمظهر.

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني