كى تعيش ديكتاتورا .. دبر بنفسك المؤامرات ضدك د. حسن عطية

المصدر : محمد سامي موقع الخشبة

مما لا شك فيه أن الإبداع الفنى عمل ممتع ، ممتع لمبدعه ولجمهوره المتلقى ، غير أن المتعة ليست غاية فى ذاتها ، بل هى تصنع لكى تحمل شحنة عاطفية ومحتوى فكرى يستهدف التأثير على هذا المتلقى ، ونقل معارف وخبرات جديدة له ، بهدف إسعاده ودفعه لرؤية العالم بصورة أعمق ، وهذه عبقرية الفن عامة ، والمسرح المعتمد على الكلمة الموحية والصورة المعبرة خاصة ، ولا يمكن أن يتوجه المرء إليه ، وينخرط فى أتونه ، ألا وهو ذاته بأنه سوف يجد متعة جمالية توقظ مشاعره وتهز عقله ، وتخرجه من التجربة المسرحية غير ما دخلها ، أو المفروض ذلك مع الأعمال العظيمة .
وبالتأكيد من الصعب الفصل بين متعة الوجدان بجماليات راقية وحرفية متقنة وإبهار مصنوع ، وإثارة العقل بأفكار تمنح الحيوية لعقل الجمهور المرتبك بحكم تفاصيل الحياة الصاخبة ، فالمطلوب من العرض المسرحي أن يتقبله جامعا المبعثر فى الحياة حوله ، ورابطا بين التفاصيل بعد تكثيفها في صورة (جمالية) كاملة تقدم له ، من وجهة نظر مبدعه ، المجتمع الذى يعيشه ، والزمن الذى يتلقي فيه هذا العمل ، والحلم الذى يحلم بنحقيقه ، فى بنيات كوميدية أو مأسوية ، واقعية أو خيالية ، تتيح له فرصة التأمل وإعادة تقييم ما يعيشه والحكم عليه بعقل واع . ومن ثم فأن أمر العرض المسرحي هو اختيار فى البدء من المخرج لصياغة عمل جماعي يحمل رؤيته لذاته وفنه وجمهوره الذى يعرفه ويود التواصل معه .
وهو ما نراه بوضوح فى اختيار المخرج “هشام جمعة” للنص الدرامي (الحفلة التنكرية) ، والذى كتبه مؤلفه الروائى الإيطالي الشهير “البرتو مورافيا (1907-1990) عام 1941 ، كرواية خيالية تنتقد حكم الديكتاتور وتكشف تخوخه الداخلي ، وتميل لما يعرف بالديستوبيا (المدينة الفاسدة) ، وذلك فى ظل هيمنة النظام الفاشستى بزعامة (الدوتشى) “بنيتو موسيلينى” فى أيطاليا ، وتحالفه مع النازى الألمانى (الفوهرر) “أدولف هتلر” والأمبراطور اليابانى “هيروهيتو” وتحالفهم معا فى محور أشعل حربا عظمى (عالمية) مع الغرب ، كانت فى أوجها زمن كتابة الرواية ، فانعكست بالضرورة ملامح الزعيمين الإيطالى والألمانى المدانين من الغرب على هذه الرواية وبقية الأعمال الأدبية والفنية الغربية ، المناهضة للأنظمة الشيوعية والاشتراكية ، والعاملة على صياغة نماذج فاسدة تضعها فى مواهجه مع الحرية الليبرالية التى ينادى بها الغرب ، مثل الروائى الإنجليزى “جورج أورويل” وروايتيه الخياليتين (مزرعة الحيوان) 1945 و(1984) 48/1949 ، وقد قام “مورافيا” نفسه بإعادة كتابة روايته (الحفلة التنكرية) فى نص درامي للمسرح ، معتمدا على فكرتها الأساسية ، مغيرا من بعض وقائعها ، قدمته فرقة (البيكلو تياترو) بمدينة ميلانو عام 1954 ، مستغلا المناخ الملتهب فى أوربا تحت غطاء الحرب الباردة بين الغرب والشرق ، ومدينا الثورات الشعبية التى تأتى بالطغاة ، ونموذجها الرئيسي وقت ذاك – من وجهة نظر الغرب – الاتحاد السوفيتى وثورته البلشفية ، ومعه جمهوريات الموز الأمريكية لاتينية ، ومستفيدا من تعرفه عن قرب على طبيعة الحياة فى أمريكا اللاتينية وانقلاباتها السياسية التى غالبا قادها جنرالات الجيوش ، خلال لجوءه هاربا إليها من بلده التى صادرت روايته المذكورة ، وبصورة أدبية مما صاغته أمريكا اللاتينية من تيار سردي عرف ب (رواية الديكتاتور) ، بلور وجوده الأدبي فى البدء بأمريكا اللاتينية الروائى الجواتيمالي “ميجيل أنخل آستورياس” ، فى روايته الشهيرة (السيد الرئيس) 1946 .
الجنرال والدوقة
ينطلق عرض (الحفلة التنكرية) ، الذى ترجم نصه عن الإيطالية “سعد أردش” ، من قلب صالة العرض بمسرح السلام ، حيث يخرج منها ثلاثة شبان يرقصون ويمهدون بالغناء لما سنراه بفضاء المسرح ، الذى يغلق نصفه الداخلي ستار شفاف مكتوب عليه اسم المسرحية ، سرعان ما ينسحب لأعلي ، لتبدأ وقائع المسرحية فى أبهاء إيطالية باروكية استبدلها المخرج “هشام جمعة” ومصمم السينوجرافيا “محمد هاشم” بالأجواء الأمريكية لاتينية التى أجرى داخلها “مورافيا” وقائع مسرحيته ، مبتعدا كما هى عادة أعمال الديستوبيا عن المدن التى يعيش فيها وزمنها الراهن ، واضعين الجمهور بقصر الدوقة الثرية “جرونيا” (الرقيقة جيهان سلامة) ، التى تستضيف زعيم البلاد الجنرال “تيريزو ارنجو” (النجم محمد رياض) الذى وصل إلى الحكم بعد عشر سنوات من الحرب الأهلية ، وكذلك استضافة الماركيزة الجميلة اللعوب “فاوستا سانشيز” (المتألقة لقاء سويدان) متعددة العلاقات مع الرجال ، كى تقرب بينها والجنرال المتيم بها للاستفادة الاقتصادية من قربهما منه ، فضلا عن شخصيات أخرى كثيرة مستضافة وتستعد لحفل تنكرى ، شكلت له الدوقة لجنة كشتراة كى تمنجها هة أفضل ظهور تنكرى من بين شخصيات الحفل .
كان من الممكن أن يمر الحفل وملابساته كما كانت تريد الدوقة ، غير أن فكرة طرأت على ذهن الجنرال “تيريزو” ، الذى رأى أن الأمن مستتب بعد سنة من حكمه وذلك بشهادة رئيس شرطته “أوسفالدو شينكو” (الرائع محمد محمود) ، فقرر الاستغناء عنه ، مما ولد موقفا يتطلب من رئيس الشرطة ، رفيق كفاح الجنرال ، مواجهته بالقبول والغياب عن الساحة السياسية وفقدان المكاسب الاقتصادية التى جناها من منصبه ، أو التصدى له بذكائه البوليسى للخروج من هذا المأزق ، فينفجر الحدث الدرامي الذى يأخذنا فى مغامرة ساتيرية ، يعلن فيها “شينكو” قبوله قرار الاستغناء ، غير أن ما يحزنه أن ثمة مؤامرة تحاك ضد الحاكم ، أمسك ببعض خيوطه ، وكان يود أن يقبض على المتامرين قبل تركه منصبه ، فيقرر الجنرال بالطبع الإبقاء عليه ، فيتحرك الداهية “شينكو” الذى يمتلك حجما كبيرا من المعلومات عن حركة المعارضة ، فيتفق عبر مساعده “برو” (ويعنى الكلب فى لغة أمريكا الأسبانية) مع واحدة من حركات المعارضة العاملة على الانقضاض علي الحاكم والاستيلاء على السلطة ، وتتحرك الدراما حول هذه المكيدة المصنوعة ، والتى يدرك رئيس الشرطة أنه فى حالة نجاح الثوار سوف يؤكد لهم إخلاصه واتفاقه معهم ، وفي حالة فشلهم يقوم هو بالقبض عليهم وإثبات إخلاصه للحاكم ، ويجرى الحدث الدرامى خلال الاستعداد للحفلة التنكرية ، فيذهب “برو” (المجتهد أشرف عبد الفضيل) إلى بلدة قريبة لمقابلة أحد الثوار المتطرفين والمندفعين نحو الموت من أجل نصرة البروليتاريا ، ويدعى “سافيريو” ، موهما إياه أنه زعيم حزب مناهض للديكتاتورية ، قادم للتنسيق معه فى عملية الخلاص من الحاكم ، وذلك بتسهيل مهمة دخوله ومجموعته فى زى خدم لقصر الدوقة ووضع قنبلة فى حمام غرفة نوم الحاكم ، وبالطبع إذا انفجرت ومات الحاكم تخلص “شينكو” ممن كان يريد الاستغناء عنه ، وإذا لم تنفجر يقبض على المتآمر ، ويؤكد ولائه للحاكم .
الرواية والدراما
تثقل الرواية بتفاصيلها وشخصياتها الكثيرة على الدراما ، فتبرز شخصية “سباستيانو” (المجتهد أيضا خالد محمود) صهر الثائر “سافيرو” أو أخيه غير الشقيق ، وهو على النقيض منه ، لا يحب السياسة وغارق فى الحب ، ويعشق “فاوستا” ، يستمع مصادفة لحوار تم بين صهره “سافيرو” وتابع رئيس الشرطة “برو” يعرف منه أن الأول سيقتل الحاكم بقنبلة فى حمامه ، فيدخل القصر مشاركا الثوار لإنقاذ “سافيرو” والتقرب من “فاوستا” المتيم بها ، والذى لا يعرف أن “سافيرو” قد اكتشف اثناء الحرب وجود علاقة جنسية بين “فاوستا” وخادم يدعى “دوروتيو” ، يعرف الحاكم منه علاقته ب “فوستا” فيقرر تزويجهما ، وبينما يضع “سافيرو” القنبلة فى حمام الحاكم “تيريسيو” تدخل “فاوستا” الغرفة ومنها للحمام ، فتفاجيء بوجود “سافيرو” فتكتشف حقيقته كثورى ، فتصرخ فيقتلها ، ويسمع صراخها من الخارج الحاكم ، فيهجم على الغرفة ومعه رئيس الشرطة وتابعه “برو” الذى يقتل “سافيرو” ويحمل القنبلة للحاكم دليلا على أبادة المؤامرة ، فيلغى الحاكم عرس “فوستا” على “دوروتيو” ، ويكتفي بالاحتفال بجنازة “فوستا” ، لتسدل ستار العمق على العالم المستدعي ، ويخرج من الصالة الشبان الثلاث ينهون وقائع المسرحية ، ويزيحون الستار عن ممثلى العرض ليغنى الجميع أغنية تقول كلماتها “أزرع عيشك وانصر جيشك” ، بصورة حماسية رائقة صاغها الملحن المتميز “وليد الشهاوى” ، والذى صاغ بناء العرض موسيقيا بنجاح .
تترسب ملامح روائية كثيرة بأعماق شخصيات (الحفلة التنكرية) الدرامية ، وتتبلور بصورة واضحة فى صياغة شخصية الديكتاتور ، المصاغة بدورها بملامح مستمدة من شخصيتى الزعيمين الإيطالي والألماني فى متن الرواية الأولي ، وفى المسرحية بملامح طغاة أمريكا اللاتينية القادمين إلى السلطة عبر الانقلابات الشعبوية ، ثم ملامح شخصية الزعيم الروسى “ستالين” الذى توفي قبل عام واحد من إعداد هذا النص للمسرح ، وكان يمثل للغرب نموذج الطاغية الذى يقود دولة كبرى تشعل حربا باردة مع الغرب ، حتى بعد موته وشجب الإتحاد السوفيتى نفسه لزعيمه فيما عرف بفترة (ذوبان الثلوج) ، وفقا لرواية “أهرنبرج” المعروفة والمنشورة فى نفس العام 1954 .
ملامح روائية غربية صيغت فى أربعينيات القرن الماضى فى أوربا الغربية ، وملامح أخرى غربية أيضا مضافة وممتزجة معها صيغت فى أوج الحرب الباردة فى منتصف خمسينيات القرن الماضى ، يعيد المخرج “هشام جمعة” تقديم شخصيتها فى سياق ثقافى زمنى مختلف ، مقدما عرضا آنيا ساخرا ، يؤكد خلالها على وقفة الجنرال بذراعه الممدوة على امتدادها كالتحية النازية الشهيرة ، ويضيف للملامح السابقة ملامح عربية من الزمن الراهن ، عبر اداءات الممثلين وكلماتهم ، فتلتقط بسهولة على لسان وأداء الجنرال الذى قدمه بتميز “محمد رياض” ، أقوال وأداءات شخصيات “السادات” و”مبارك” و”القذافي” و”محمد مرسى” ، تاركا أمر “عبد الناصر” ليقدمه فى مشهد عابر رئيس الشرطة “شينكو”، والذى قدمه ببراعة “محمد محمود” ، من خلال خطبة التنحى ، وإلى جانب استخدام الأجواء الإيطالية بتصميمات ديكورية وأزياء قادمة من عصر النهضة ، لتحقيق البعد الزمانى والمكانى الذى يخفي الواقع فى رداء فانتازى ، يستخدم المخرج أيضا اللغة العربية ذاتها كوسيلة مضافة للابتعاد عن الأرض الساخنة ، والعمل على كسرها والخروج عليها تعليقا وإضافة لكلمات بالعامية ، لمنح العرض سمة زمنية راهنة .
غير أن التفاصيل الروائية الكثيرة أثرت على بنية النص الدرامية وإيقاع العرض بصريا ، فتحولت مشاهد كثيرة لحواريات مطولة بين شخصيتى ، يحتار كلا منهما بين الجلوس والوقوف ، ويمتد عرض المسرحية لما يقرب من أربعة ساعات ، كان من الأوفق التركيز على الحدث الدرامي ، وحذف كل ما هو روائى ومؤثر على إيقاع العرض الجميل الذى اهتم مخرجه المتميز بدلالاته الفكرية وإشاراته الجلية للواقع المجتمعي ، مؤكدا على أن الطغاة تصنعهم المؤامرات الوهمية .

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *