كناسة المسرح /د.أبو الحسن سلام

حتمية التحول الدرامي
بين عمى البصيرة ونهار اليقظة
هل هناك وجه للمقاربة بين بدايات شروع الكاتب المسرحي في تأليف نص من النصوص المسرحية ، وبدايات شروع الباحث الأكاديمي في التخطيط لمشروعه البحثي.
شغلني هذا السؤال في لحظة تأمل حول دور العلم وأثره على الإبداع المسرحي ؛ فتوقفت عند المقولات المسرحية لعدد من كلاسيكيات النصوص في المدارس المسرحية المتباينة ، بوصفها فروضاً أولية للون من ألوان كتابة النص المسرحي.. فالمقولة المسرحية التي ينسج عليها الكاتب المسرحي ، الذي ينطلق من فكرة يؤسس عليها البناء الدرامي لمشروع نصه المسرحي؛ هي بمثابة فرض يسعى الكاتب إلى تحقيقه عبر البنية الدرامية والفنية للنص الذي يشرع في كتابته ، وهو فرض شبيه بالفرض العملي الذي يفترضه الباحث مفتاحاً لحل إشكالية ما ، أي (منظومة مشكلات متداخلة ومتراكبة لا حل لإحداها منفردة دون حل المنظومة مجتمعة) وهو الفرض الذي يفترضه الباحث – من حيث الشكل – وإن كان الفرق بين عمل الكاتب أديباً وشاعراً مسرحياً وعمل الباحث الأكاديمي مختلفاً ، إذ يعول الكاتب المسرحي الأديب والشاعر على المشاعر والوجدانيات وتقنيات البوح في تعارضاتها في وحدة وفي إطار معالجة المعارف الظنية وتدويرها رأسياً أو أفقياً في بعض النظريات المسرحية.بين شخصياته الدرامية – كل على قدر حاجته – ليعبر بنفسه أمام الغير أو أمام نفسه تعبيراً مواجهاً عن جوهر ما يشعر به وجوهر ما يريد ، وذلك جنباً إلى جنب مع المعارف اليقينية وشبه اليقينية ، بحيث يكشف الجمع بين المظنون واليقيني والوسط بينهما في معارف الشخصيات عن إزكاء لهيب الصراع بينها.
ولا حاجة إلى التنبه إلى أن فعالية الفرض تستبين وتتوضح في النقطة المفصلية التي تتحقق فيها حتمية التحول الدرامي للشخصية من حالة عمى البصيرة إلى نهار اليقظة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة في جميع كلاسيكيات النصوص في كل المدارس المسرحية . ولو توقفنا عند بعض نماذجها وقفة تأمل منهجية فلسوف نلاحظ أن:
* جنون (الملك لير) جعله مدركاً ؛ حيث فعّل وعيه عن طريق لاوعيه ، وأن فقدان (جلوستر) لبصره جعله مبصراً . وإن يُتمَ (هاملت) جعله متأملاً ، وبإدعائه للجنون أصبح أكثر الناس عقلاً.
* وأن يُتْمَ (أوفيليا) أفقدها عقلها بينما حوّل أخاها (لايرتيس) إلى ألعوبة في يد (كلوديوس).
أما يُتْم (فورتنبراس) فقد جعله ينقض قوانين الفروسية وينقض الاتفاقات المبرمة بين مملكته ومملكة الدنمرك.
أما يُتْم (بلانش) في ( عربة اسمها الرغبة) في رائعة ويليامز فقد أحالها إلى ساقطة؛
بعد أن حطمت الأعراف والعادات الأرستقراطية بعد أن فقدت كل من أمها وسبعة آخرين من أسرتها.
وكان يتم جوليا في الأم سبباً في سقوطها وإهانتها لذاتها . أما الجبر الاجتماعي والطبقي الأمريكي فقد صنع من (ليزي) المومس الفاضلة عند سارتر!!
أما قوانين التأميم في نظام رأسمالية الدولة في مصر ، فقد جعلت من اللص صديقاً للقاضي في مجلس عدل (توفيق الحكيم) وأحالت (التبريزي) إلى محتال نبيل عند ألفريد فرج .. بينما قتلت شهوة السلطة مكبث وزوجته . وقتلت ريتشارد الثالث عند شكسبير ، وجسدت مواجهة جوهر وجود ( المومس المحترمة ليزي) مواجهة جوهر وجود الآخر (عضو الكونجرس) في (مومس سارتر الفاضلة). كما جسد انتحار (عطيل) إحساسه بالخديعة ويأسه من العنة التي أصابته . وجسد موت (لير) إحساسه بالفجيعة وفداحة قراره بتفكيك دولة الإقطاع التي يملكها ، ومخالفته لقانون الطبيعة . وجيدت من ومنظور قراءة الجدل المادي التاريخي لبريخت إنجاز مرحلة إنهاء النظام الإقطاعي . وجسدت مواجهة (أنتيجوني) للحاكم المتسلط (كريون) ونظامه إحساسها بالندِّيـّة ، بينما جسد فعلها بالنسبة للمتدينيين الإنتصار لقانون الغيب على قانون الوضعي . وكذلك جسّدت مقتلة كليبير بيد سليمان الحلبي إحساسه بالندية ( ندية حضارة إسلامية لحضارة أوروبية غازية) وجسد فقأ (أوديب) لعينيه إحساسه بالمسؤولية والتزام الحاكم أمام شعبه ، وجسّدت وقفة (نورا) في مواجهة زوجها (هيلمر) شوق المرأة القاتل للانفلات من سلطة الرجل . وجسد قتل (إلكترا) لأمها (كليتمسترا) إنتصار الأبوية بتوحد الابنة مع الأب ( عقدة إليكترا) وجسد إحراق القساوسة لجان دارك حية عند جورج برنارد شو وعند جان أنوي فشل نيابتها عن العناية الإلهية.. بينما جسدت عند بريخت سداجة الموت من أجل فكرة ؛ فالفكرة تحيي في الأساس ولا تميت. وجسدت رغبة (شايلوك) في اقتطاع رطل لحم من جسم (أنطونيو) احتقار التعصب اليهودي للجنس البشري . وجسد صراع (فرفور) و(السيد) عند يوسف إدريس فكرة الوضعية والجبر الميتافيزيقي و فكرة هوية الأنا والإلتزام بقبول الآخر وجسد التعاقد بين فاوست وإبليس ( في فاوست مارلو وفاوست جيته وفاوست فاليري ) طموح الإنسان إلى تجاوز إنسانيته وحيازة الخوارق.
والشواهد كثيرة على حتمية التحول الدرامي ونفي النقطة العمياء عن مرآة المسيرة الإنسانية المتسارعة.

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *