كتاب “المسرح في التاريخ” لروجيه عساف: الوجه الخفي

جمال شحيّد

صدرت هذه الموسوعة (600 صفحة من القطع الكبير والحرف الصغير) بالفرنسية بمناسبة معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت لعام 2016، وعن دار L’Orient des Livres البيروتية. وتنطلق من المسرح الإغريقي في ظل الديمقراطية الأثينية، وتعرّج على روما، ثم تنتقل إلى المسرح في آسيا (الهند، العالم العربي، الصين، اليابان). وتصل إلى المسرح القروسطي وتتوقف عند عصر النهضة الأوروبية (في عام 1600 نُفّذ حكم الإعدام بجيوردانو برونو، وأصدر شكسبير مسرحية “هاملت”).

يقول روجيه عساف في الصفحة الأخيرة من الغلاف: “ذات يوم اكتشفتُ أنّ المسرح هو الوجه الخفي للتاريخ. عندها، وعلى خشبة مسرح تسكنه الكلمات والأجساد، شاهدتُ القرون تخلع ملابسها وتُزيل المساحيق عن وجهها. فأصبحتْ الممالك والمعارك والفتوحات والهزائم والسلالات والأوابد، وكل ما كان يتبختر في حفل استعراض الحضارات، أصبح لُحمةَ دراما غير تاريخية، دراما رجال ونساء يتألمون ويحبون ويحلمون ويأملون وييأسون ويتجاهل بعضهم بعضاً ويتفاهمون ويبحثون عن بعضهم ويضيّعونهم، أناسٍ ينتمون إلى أزمنة وبلدان لم يتكلم عنها التاريخ […]. إن لاتاريخ المسرح هذا هو ما يرويه مشاهدو جميع الأزمنة أمثالي”.

يلاحظ عساف أن المسرح عندما انطلق من اليونان استطاع أن يمارس سحراً على الناس، وأن يحظى بذواكر عديدة وأن يطرح جمّاً من الأسئلة. يقول “تجربة المسرح هذه ليس لها تاريخ واحد بل تواريخ عديدة، إنها تنجم عن مصفوفات شتى وتنطوي على مصائر كثيرة”. ومع أن أفلاطون نبذ الممثلين من “جمهوريته الفاضلة”، إلا أنهم خلقوا القلق داخل المدينة وطرحوا علاقة جديدة بين الأخلاق وعلم الجمال، وبين الفن والسياسة. وصار المسرح في عهد بيريكليس (429-495) الذي تدرّب في المسرح على الخطابة، صار الشغل الشاغل للدولة والمواطنين [لقد كان قائد الجوقة في مسرحية “الفُرس” لأسخيلوس ]. وأفرزت هذه الظاهرة المسرحية 31 عملاً مسرحياً تراجيدياً بقي لدينا من المسرحيين الثلاثة الكبار و11 عملاً كوميدياً لأرستوفانيس.

وانتقل المسرح الإغريقي إلى روما بلغته اليونانية أولاً ثم صارت المسرحيات تكتب باللغة اللاتينية على يد بلوتوس وتيرانسيوس وسينيكا. وزرع الرومان مسارحهم في جميع البلدان التي أخضعوها لإمبراطوريتهم. مما دفع الكاتب جوفينال إلى أن يقول إن الشعب كان يحتاج إلى الخبز والألعاب “Panem et circense”؛ وهذه الألعاب بشتى أشكالها – ومنها المسرح – صارت تقام 175 يوماً في السنة.

وبعد أن شغل المسرحان الإغريقي والروماني 200 صفحة من الموسوعة، ينقلنا روجيه عساف إلى المسارح الآسيوية. بدءاً من الهند في مسرحها السنسكريتي. ويتوقف بعد ذلك عند الظواهر المسرحية في العالم العربي: المقامات، السير الشعبية التي يرويها الحكواتية (سيف بن ذي يزن، الأمير حمزة، سيرة عنتر، الأميرة ذات الهمة، سيرة بني هلال، سيرة بيبرس، علي الزيبق). ويتكلم مطوَّلاً عن الفضاءات المسرحية التي تتخلل احتفالات التعزية الشيعية. وينقلنا بعد ذلك إلى مسرح الظل ونجمه “محمد بن دانيال (1248–1311)” الذي أفرز “طيف الخيال” وحكايتي “عجيب وغريب” و”المتيّم والضائع اليتيم”. هذا من دون أن ينسى الكراكوزَ التركي “أو: العين السوداء”، والكراكوزَ العربي الذي ركّز على ظاهرة الشحاذين والحمّام والحماة “شلالُبّ”. ورأى أن مسرحة عاشوراء تشبه إلى حد بعيد مسرح “الآلام Les Passions” في أوروبا إبّان العصر الوسيط.

ويتوقف عساف عند المسرح الصيني بدءاً من مسرح “زاجو” في عصر سلالة “التانغ” و”السونغ” (ما بين القرن السابع الميلادي والتاسع)، وعند مسرح الظل والعرائس والحكواتية، وبخاصة في العصر المغولي الذي أعقب جنكيز خان (1155-1227). ويصل إلى تحليل الأوبرا الصينية التي ازدهرت إبّان القرن الخامس عشر والتي أفرزت أوبرا بكين (منذ عام 1845) خلال حرب الأفيون. وكلتاهما غدتا الظاهرة المسرحية اللافتة في الصين حتى قيام الدولة الصينية الحديثة مع ماوتسي تونغ الذي نفخ فيها روحاً ثورية شيوعية. واللافت في المسرح الصيني أنه لم يتأثر بتدخل الآلهة في شؤون البشر، كما هو الحال في المسرح الإغريقي والروماني.

ويكرّس عساف فصلاً مسهباً للمسرح الياباني، مبتدئاً بعصر “يماتو” (عام 250) ومتوقفاً عند منظومة الساموراي (في القرن التاسع) وعند الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (ما بين 1336 و1392) وتوحيد اليابان (في عام 1590)، وصولاً إلى عصر الميجي (1868-1912) الذي طوّر اليابان وجعل منها بلداً صناعياً مزدهراً بالعلوم والفنون. ويستعرض نشأة مسرح النو (بنيته ومدارسه ومصادره الأدبية) ومواضيعه الشائعة (نو الآلهة المعبودة، نو المحاربين، نو النساء، نو الحياة اليومية، نو الأبالسة). ثم يستعرض نشأة مسرح الكابوكي ويتابع تطوره، إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر. وهذا المسرح تأثر بالحكواتية والغناء والموسيقى والعرائسية. وبدأت حشود ممثلي الكابوكي تتعاقب وصولاً إلى الممثل “إيشيكاوا دانجورو الثاني عشر” الذي توفي عام 2013. ويتوقف عساف عند مسرح “البونراكو” الذي ازدهر في عصر الميجي وما زال يطبع الحياة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية اليابانية بميسمه. ويقول عساف في مستهل حديثه عن المسرح الياباني: “اليابان هي اليابان. هي بلاد فريدة تقع في نهاية العالم، وتتألف من أربع جزر مرمية في عباب القارة الآسيوية. وتتألف من أربع كتل جبلية مكتظة بالسكان، على الرغم من وجود طبيعة غير مضيافة، ويتخللها 45 بركاناً، وتعرف إعصارين أو ثلاثة أعاصير سنوية وزلازل أرضية وعنفاً مناخياً، ويرتبط نجاحها الخارق أولاً بالانتصار على الطبيعة”، ومع أن نظامها إمبراطوري منذ القرن الثالث للميلاد، فإنها من أرقى شعوب العالم، وإن مسرحها من أهم المسارح التي عرفتها الشعوب.

وينقلنا عساف من ثم إلى مسرح العصر الوسيط الأوروبي الذي شهد علاقة ملتبسة مع الدين. ويستعرض ألوان المسرح القروسطي: من مسرح شعائري مسيحي إلى مسرح ألعباني إلى مسرح تهريجي إلى مسرح سياسي ساخر. ويتوقف عند ظاهرة المسرح السرّاني (mystères) الديني (ظاهرة الهجمة في ليلة عيد الفصح حسب الطقس البيزنطي)، وخروج المسرح من فضاء الكنائس إلى الساحات العامة (أي علمنة المسرح، نوعاً ما). ويرى عدد من المفكرين المستنيرين أن العصر الوسيط لم يكن عصر ظلمات كما يدّعي الكثيرون، بل عصراً له سماته التي جعلت كاتباً مثل أمبرتو إيكو يقول إن “العصر الوسيط هو عصره الذهبي”. ويكرس عساف فصلاً خاصاً للمسرح الديني القروسطي متوقفاً عند أشكال السرانية فيه: آلام المسيح (بأيامها الأربعة)، سرّانية أرّاس (1402-1430)، سرّانية أنجيه (1486)، سرانية أعمال الرسل (1470)، سرانية فالنسيا (1547) التي سبقت الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت (ما بين 1562 و1598)، وهي التي سُمّيت بحرب “الثلاثين سنة”، ولا يفوت الكاتبَ الحديثُ عن الكوميديا القروسطية ببهاليلها الذين برزوا في مسرحية “مقالب المعلم باتلان” (1460-1465). ورغم ازدهار المحارق وعمليات إغراق المشبوهين في الأنهار – بسبب تهمة الهرطقة – توجهت أوروبا نحو النهضة.

ويرى عساف أن هذه النهضة – التي ما زلنا ندين لها الآن – بدأت بلوحة “الجوكوندا” (1503-1507) لليوناردو دا فينشي (1452-1519)، التي فتحت الطريق أمام التيار الإنسانوي (humaniste) الذي استهلت به إيطاليا عصر الـRinascimento (النهضة). لقد بُهر النهضويون باتساق وتوازن واكتمال الفنون الإغريقية وأعجبوا بصورة الإنسان المشرقة التي رسمها الإغريق واللاتين على ضفاف البحر المتوسط، ووجدوا فيها مصدر إلهامهم. عام 1460، رسم ليوناردو دافينشي ترسيمة الرجل حسب تصوّر المهندس المعماري الروماني ماركوس فيتروفيوس (من القرن الأول) الذي أرسى معايير الجمال الإغريقي الروماني في كتابه “حول العمارة”. وهذه الترسيمة تصور جسماً بشرياً بأربع أذرع وأربع سيقان داخل دائرة أو مربّع. وترمز إلى المقام المركزي للإنسان في الكون وإلى الوحدة العضوية بين الفن والعلم. وتُعتبر رمزاً للنهضة الأوروبية القائمة على التوازن والعقلانية. ووجد النهضويون ضالتهم المنشودة في المسرح اليوناني واللاتيني. فنشأ مسرح أوروبي جديد شق طريقَه شكسبير ولوبي دي فيغا.

ويتوقف عساف عند الأنواع المسرحية الجديدة، كالكوميديا الجهبذية خلال القرن السادس عشر (150 مسرحية)، والتراجيديا الإيطالية، والراعويات، والكوميديا دي لارتي التي امتدت من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر وأفرزت شخصية أرليكان ونافست الكوميدي فرانسيز (التي أنشئت عام 1680). وانتشر المسرح الإيطالي في أوروبا كلها وشجَّع اللغات المحلية المنحدرة من اللاتينية. وهذا ما حصل في فرنسا، في مجالات الإدارة والفكر والأدب، بعد أن أنشأ الملك فرانسوا الأول مؤسسة “الكوليج دي فرانس” عام 1530. ويستعرض عساف المسرحيات التراجيدية والكوميدية التي ظهرت في القرن السادس عشر وبداية السابع عشر. ويتوقف عند اختراع غوتنبيرغ للمطبعة (1450-1455)، والاكتشافات الفلكية مع كوبرنيك ثم غاليليه، والجغرافيّة مع كريستوف كولومب وفاسكو دي غاما وماجيلان. ويرى أن العصر الذهبي (Siglo de oro) في إسبانيا مع الملك شارلكان لعب دوراً كبيراً في إطلاق الأدب الحديث مع مسرحية “السيليستينا” (1499) لروخاس (Rojas) ورواية “دون كيخوته” لسيرفانتيس. وينقلنا عساف بعد إسبانيا إلى المسرح الإليزابيتي الذي امتد من عام 1562 إلى 1642 والذي احتل فيه شكسبير مكان الصدارة بـ37 مسرحية. وإليزابيت الأولى (1558-1603) هي ابنة الملك هنري الثامن الذي فصل الكنيسة الأنغليكانية عن الكنيسة الكاثوليكية. وفي عهدها بنيت مسارح عديدة خارج أسوار لندن القديمة. وراحت البورجوازية الإنكليزية تهتم بالمسرح وشغفت به.

ويستخلص عساف من النهضة الأوروبية عدداً من النتائج. أولها نشأة أوروبا الحديثة على يد النخب الثقافية المتعاظمة. وبسبب التقدم العلمي والفكري الذي شهدته أوروبا، تكوّنت لديها روح الهيمنة على العالم. فبدأت حركات الاستعمار بعد عام 1600. فاستعمرت إسبانيا مناطق شاسعة من أميركا اللاتينية وحذت حذوها البرتغال، ثم استعمر الإنكليز والايرلنديون أميركا الشمالية والهند وغيرها، واستعمر الفرنسيون الجزائر وعدداً من البلدان الأفريقية والآسيوية. ويرى عساف أن التعصب الديني الذي ابتليتْ به أوروبا (كاثوليك – بروتستانت) أعاق زخم النهضة الواعدة وأخّره، حتى اندلاع الثورة الفرنسية.

قدّم لنا روجيه عساف في كتاب “المسرح في التاريخ” قراءة ذكية وحصيفة لنشأة المسرح والتطورات التي مرّ بها في حضارات شتى. فأتت موسوعته شديدة الدقة والتوثيق، ومشفوعة بعدد من الترسيمات المسرحية والجداول التاريخية والثقافية المفيدة. واللافت أنه يكتب اللغة الفرنسية كلغته الأم وككبار الباحثين الفرنسيين. حبّذا لو أتحفنا قريباً بالجزء الثاني من هذه الموسوعة التي تشمل القرون التي أعقبت السادس عشر وأفضت إلى مسرحنا الحديث. وحبّذا أيضاً لو ترجمتْ هذه الموسوعة إلى اللغة العربية، لأنها بحاجة ماسّة إليها.

 ————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ضفة ثالثة 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *