قفص حداد وأبيض في مترو.. خماسي الذكورة العربية/ ماهر الخشن

  تقوم فكرة مسرحيّة «قفص» ـ إخراج لينا أبيض ونص جومانا حدّاد (]) ـ على أنّ قفص المرأة في البلاد العربيّة، هو ما بين فخذيها. يبدأ العرض بثورة على العنوان، وبقلب أدوار السّجّان والمسجونة. فنسمع المصطلحات الذّكوريّة مستخدمة، هذه المرّة، عند الحديث عن الرّجال الذّين يطبخون ويتعرّضون للإهانة و»البصبصة» من النسّاء. ولكن نعودُ إلى الواقع، لنرى خمس شخصيّات نسائية وهنّ ينتظرن موعدهن عند الطّبيب النّسائيّ، فيعبّرن عن مشاكلهن المكبوتة.
عرفت لينا أبيض كيف تقسم أدوار الشّخصيّات في عيادة الطّبيب، فجاءت المسرحيّة في مشهدين أساسيين؛ يعرض الأول قصص ثلاث نساء، ويتفرّغ الثّاني لعرض آخر قصّتين. النّساءُ الخمس هنّ امرأةٌ واحدة: المرأة العربيّة (وهذا يظهر في تعدّد لغات النساء)، وقفصهنّ هو واحدٌ بلا شكّ، إذ تتداخل قصصهن وطريقة التعبير عنها فيما بينها. لا قصّة واحدة تُتلى بشكل متكامل، بل كلّ واحدة تحكي عن قصة مجزّأة، يقطعها مرّة صمتٌ لتعبّر أخرى، ويوقفها تارة تنهّدٌ أو بكاء أو شرود في العذاب، أو في دنيا خياليّة بعيدة عن القفص.
صور متعددة
ترى المرأة «السّمينة» (دارين شمس الدّين) نفسها جبانة ومقهورة من أمّها الّتي تؤنبّها كي تنحف، كما من المجتمع الّذي يتكلّم عنها في الخفاء والّذي يراها «جاموسة». نظرةُ المجتمع تلك وقفصه يرافقها في أحلامها، في تخيّلاتها وفي واقعها، يدفعها لتكره أمّها، وتنتقمَ لنفسها بالأكل. تتمنّى «ميّاس»، الّتي تهزأ من تناقض اسمها وجسمها، أن يعشقها رجلٌ أو رفاقٌ بدون النّظر إلى جسدها، بدون وضعها في قالبٍ جسديّ معيّن يجعلُ منها «مُزّة» (باللغة المصريّة) مرحّبٌ بها في المجتمع.
تجسد يارا (ميرا صيداوي) قفص «المثليّة»، الّتي يرفضها أهلها؛ تخشى أن يعرف مجتمعها ما هي عليه، أي أنها «تحبّ المرا» فقط. تتمنّى لو أنّها تستطيع أن تهرب من بيروت مع حبيبتها لتنعمَ بالعيش والرّقص معها بدون أن يمنعها المجتمع لمجرّد أنّه يرى في كلّ مثليّ مشروعَ منحرف جنسيّ. تطرحُ يارا كيف يختلف التّعامل مع حالات ما يسمّونه بالشّذوذ عند النّــــساء وعند الرّجال. وتقولُ إنّ حبّها للنّساء ليسَ تحديّاً لأحد، أو قراراً شاءت أن تأخذه. إنّه أمرٌ طبيعيّ.
أمّا زينة المنقّبة (ديما الأنصاري) فتعبّر عن اختناقها من نقابها الّذي سجنها فيه أهلها وزوجها. تضمّ نفسها لجملة النّاس المسجونين في القفص، فتبدأ من المرأة الّتي تعرض جسدها على غلاف مجلّة، إلى الرّجل ثمّ وصولاً إلى اللّه. تستغربُ كيف يخدم سجنها هذا، العدالة الإلهيّة أو اللّه الّتي تصفه بالظّالم. وتعرض زينة مأساتها جرّاء الاغتصاب الزّوجي، ما يجـــعلها تغسلُ نفسها بـ»ديتول» لتطهّر نفسها من زوجها. يشبّه المجتمع زيــــنة، حسبما تقول، بكيس النّـــفايات الأسود الّتي ترتديه مع النّقاب في أول المســـرحيّة.
«المفاجأة» كانت في أنّ ممثلاً هو من قام بدور هبة «المومس»، وهو مارسيل أبو شقرا. تفرحُ هبة لوجود ما تنعته جومانا حداد بالقفص، بين فخذيها، لكونه مصدر رزقها. فتتكلّم كيف اكتشفت أهميّته وهي في سن السّادسة عشرة، وكيف أنّها أصبحت قوّية لا تبالي بشيء. تستطيع هبة أن تقاوم (تعوّي) عندما تشعرُ في حين تكبتُ النسّاء الأخريات وجعهنّ. تكره هبة الدّرس والمدرسة وتقدّم نفسها كضحية لأهلها وللفقر والجهل. وتقول إنّها لم تقابل رجالاً صادقين سوى أولئك الّذين يدفعون لها.
رحمُ لمى «العانس»، والّتي تبرع رندة كعدي في لعب شخصيّتها، هو رحمٌ عفنٌ ومغلق، هو قفصها. تكره لمى نفسها وخوفها ونظرة المجتمع وأهلــها غير المثّقفين الذّين علّموها أن عليها أن تنام مع رجل. تربيتها جعلتها تضيعُ في رحلة حـــياتها في البحث عن رجل، والحلم بالزّواج. وضع المجتمع لمى ذات الـ 66 عاماً في قفص مصطلحات تصفُ حالتها، وترى أن حيـــاتها بلا معنى لكونها بلا رجـــل. تختنق بسبب شعورها حين تذكر أنّ النّاس يرونها غبـــاراً عليهم أن ينفـضوه. وجـــعُ لمى هو قنبلة مـــوقوتة، هو القفصُ بين فخذَيْها.
الخماسي
تجعل لينا أبيض من القصص الخمس، أوركسترا تعزفُ في الوقت عينه، فحين تتكلّم ميّاس «السمّينة»، تفرحُ يارا «المثليّة» لحديثها مع حبيبتها، وتسبّح زينة «المنقبّة» متمتمة، وحين تخبّر هبة «المومس» قصّتها، تغصّ لمى وتختنق…
ربّما غالت جومانا حدّاد في التّفاصيل، فخلعت على الكّل ما هو في الجزء أحــياناً. فتظهرُ لنا زينة المنقبّة مرتبطة بأكياس النّفايات وتكون مشكلتها الأساس في نقابها أنّه «أفطسها»، فيُذكر الفعل الأخير أكثر من ستّ مرّات في دور زينة.
تستنكرُ زينة ارتباط حجابها باللّه، وتحكي عن إجبارها على ارتدائه منذ سنّ باكرة، وهنا يكمن قفصها. ولكن ماذا عن النّساء المنّقبات والمحجبّات بإرادتهنّ واللّواتي لا يبالين بالحرّ أو اللّواتي يقتنعن بالنقاب بسبب انتشاره في محيطهن؟ وهل لهؤلاء قفص آخر لم يتمّ التّكلم عنه. القفص ربما لا يكمن فقط في نتيجة ارتداء النّقاب أو اعتباره كيس نفايات، ربّما التّعمّق في سبب الإجبار على الارتداء أو حتى الاقتناع الشّخصي به، قد يجد القفص.
تظهر «المومس» على أنّها المحظوظة والقويّة وغير المبالية على عكس النّساء الأخريات. ولكن هل هذه القصّة تعكسُ قصص كل اللواتي تتمّ تسميتهن «بائعات الهوى»؟ وهل جميعهن أو حتّى جزء كبير منهن قويّات وغير مباليات لظروفهنّ الصّعبة؟ يستحيل أن يكون الأمر هكذا، ويصعب أن يكون عدد كبير منهن يرى في ما بين أفخاذهن بابَ رزق أو «ثقلَ ذهب».
عكست جومانا حدّاد المجتمع حينما قرّرت عدم الابتعاد عن «المسبّات» الذّكورية المنتشرة في المجتمع، ولكنّها قابلت ذلك في الغرق في تفاصيل معيّنة أو في تعميم دون البحث طويلاً عن مكمن القفص الحقيقيّ، أو عمّا يحصل في مناطق عديدة في هذا المجتمع الذّكوريّ.
فمثلاً، لم تزُر نــــساء الجنوب أو الشّمال أو الجبل المقتنعات بلبسهنّ وإيمانهنّ، وغيرهنّ من النّساء اللّواتي لا يشبهن في قرراتهنّ أو قصصهن أو تفكيرهنّ شخصيات «قفص».
ولكن تبقى المسرحيّة انعكاسا للمجتمع الذّكوريّ القاتل، للقفص الّذي عرفت لينا أبيض كيف تصنعه إخراجيّاً، والّذي أبدعت رندة كعدي في إسماعنا الأنين داخله في صرختها الأخيرة الصّادقة.

(]) تستمر العروض في «مترو المدينة» إلى 31 تشرين الأول المقبل

المصدر/السفير

محمد سامي :موقع الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *