قصر السعادة للمخرج التونسي نزار السعيدي .. اختبار ضالة الوهم برؤية جريئة ومشاكسة – يوسف الحمدان

تأتي مسرحية (قصر السعادة) التونسية لمحفزها ومخرجها الفنان نزار السعيدي والتي قدمت في سياق هامش مهرجان قرطاج المسرحي الدولي في دورته 21 احتفاء بمسرح الجنوب بقفصة على خشبة مسرح المونديال ، لتفتح أفقا جديدا ومغايرا على صعيد الكتابة الدراماتورجية والإخراجية للمسرح قوامها اللعب على حبال السعادة الوهمية التي ينتجها ويحيكها غول الإدمان المرير الذي شكلته وصنعته مخالب سلطوية معلنة وخفية إلى حد الالتباس في هويتها وهوية من راح ضحيتها في المجتمع التونسي ، وخاصة بعد ثورة ( الياسمين ) عام 2011 ، ولنكون في قلب (قصور) متهاوية مترنحة اتكأت على قواعد وجدران وأسقف هي من نسج خيوط العناكب الواهنة ، حيث لا أساس ولا ملامح لشيء غير الوهم الذي تمكن من أن يسكن أجسادا كلما تراءت لها القصور بوصفها حقيقة وواقعا أوغلت في التيه والفقد والحيرة، لتعلن في كل مرة شتاتها ومونودراميتها الفادحة واقترابها من وهم أكثر فدحا من الوهم الذي يخلفه إدمان المخدرات ذاته .
إن المخرج السعيدي زج بمؤديه ومتلقيه في فضاء عار من كل شيء إلا من الوهم الذي يتشظى في أوهام ، ليحيلنا إلى عناوين تنفي بعضها كلما حاولت الرسوخ في موقع بعينه في هذا الفضاء العاري ، إذ لم يعد البحث مجديا عن مركز لعلاج الإدمان طالما الطبيب المعالج مدمنا في علاج مرضاه بالوهم ذاته ، ولم تعد الأجساد قادرة على التعبير عن ذاتها طالما هي مسكونة بالوهم إلى حد التماهي وكما لو أنها مخلوقة منه .
كل شيء في هذا الفضاء الواسع العاري يتعرى ليصبح العري فيه مزدوجا ومتعددا ، وليصبح هذا الفضاء الواسع منكمشا في أفضية بشرية تخوض بحر تيهها وفقدها في عريه ، إنه الاشتغال على مفردة القاع التي تنضح بأوجاع وهمهمات وهلوسات وهاستيريا وصيحات معذبة وضحكات يائسة لا يصغي إليها أحدا غير الوهم ذاته ، وكما لو أن هذا البوح الطافح من هذا القاع المتأرجح المضطرب هو الملاذ الوحيد والأخير لهذه الأجساد كي تحفظ للوهم آخر ما يمكن أن تنتشي به من خلاله .
إن هذه التيمة التي اتكأ عليها المخرج السعيدي في عرضه ( قصر السعادة ) والتي تجاوزت حدود جدلية الوهم والحقيقة إلى ما هو أكثر شائكية منها ، حيث الوهم في مخاض الوهم ، وحيث الواقع بوصفه وهما ، وحيث الوهم بوصفه واقعا عندما يصبح سيدا على مفاصل الحياة كلها ، بالرغم من تعريته ورفضه ، إذ أن هذه التعرية وهذا الرفض لهذا الوهم يؤكد من جهة أخرى بأن الواقع لا يعدو عن أن يكون وهما ثقيل الوطأ على النفس ، والخلاص منه لا يأتي إلا بتخليص هذا الوهم من شوائب الواقع المرير .
وهنا تتجلى قراءة السعيدي الدراماتورجية والإخراجية لهذا العرض ، حيث لم يقف على الجاهز المعلن والنتائجي في قرائته لهذا المجتمع المتورط بالإدمان ، بل ذهب عميقا ليشكل رؤية تفتح أفقا واسعا ومركبا على دلالات هذا الواقع وهذا الوهم من خلال الإدمان أو من خلال الأمكنة الوهمية المكثفة والمختزلة في قصر أو قصور للسعادة ، ليوغل عميقا في استقصائها من خلال الجسد الرجراج والفضاء الحي المتحرك المؤنسن والوهمي في آن ، متكأ على الإرتجال بوصفه محفزا على البحث عن مناطق أخرى تجوس واقع الوهم أو وهم الواقع أو وهم الوهم ، وكما لو أنه في اختبار معملي يومي شائك للبوح في تجلياته الفردية وفي اختزالاته الجمعية وفي تشظياته العزلية العبثية وفي اشتباكاته العنيفة حد القسوة التي تلتئم مع ما يذهب إليه أنتونين أرتو في كتابه ( جسد يختبر العالم ) ، حيث ينضح هذا الجسد بعنف مزدوج ، داخلي ومعلن ، ويتجلى ذلك بسطوع أكثر من خلال السخط المعلن في الأداء والعنف والقسوة على الذات أو جلدها ، أو من خلال تبشيع الشخصية بشكل غروتسكي فاقع كما نلحظه في أداء الممثلة آمال الكراي والتي قامت بدور العجوز والأستاذة وأم المتعاطي ، أو من خلال أداء الممثلة فاطمة عبادة التي قامت بأدوار عشيقة المتعاطي والطبيبة والمومس ، أو من خلال تحويل الشخصيات المتمكن والمتقن واللافت إلى ضحايا وجلادين ، إلى واهمين ومأفونين ، في حيرة ودهشة لا تغادر وجوه الممثلين .
لقد تمكن المخرج السعيدي من أن يجعل أنفاس الممثلين لها حضور معبر في العرض مع بعض الأنين والحزن المتقطع ، مثلما جعل من الترنح والسقوط وفقد الممثل توازنه ومحاولة الوقوف دون جدوى وكما لو أنه كائن يمشي على أرض أو بجسد منهوش منخور غير متوازن ركيزة رؤيته الإخراجية في العرض ، حيث تستوي مثل هذه الحالة مع مفردة السعادة الوهمية والواقع المأفون ، مع نشيج العجوز وهي تقرأ وصيتها الأخيرة ليعود الحر ( علاء شويرف ) المتعاطي بعد نهاية وهمية إلى ضالة وهمه ثانية وكذلك طالبة علم الاجتماع التي قامت بدورها الفنانة انتصار العيساوي إلى موت دهشتها التي طاردتها منذ بداية خروجها إلى فضاء الوهم ، ولتتداخل الأدوار في التباساتها الأكثر عنفا على الوهم والواقع والذاكرة مع تمددات اللعبة بمشاركة المؤطر الجامعي مدير المعهد ومدير مركز العلاج ( جمال ساسي ) وزوج العجوز أب المتعاطي ( حمودة بن حسين ) لنكون في مقترحات متعددة لنهايات ليس لها نهاية أو نهايات ربما لا تنتهي، ففي هذا العرض كل ممثل يحمل صخرة سيزيفه ويمضي إلى خلاصه وحتفه في آن  ، هكذا تبدو الكراسي والقطع التي يحملها الممثلون مع انتهاء كل مشهد يبدو عصيا عليهم العودة بعده وهم غير محملين بشحنة انفعالاته .
إنهم يمثلون في فضاء تبدو الخشبة وكما لو أنها قدت من شوك وجمر ، حيث حركة الممثلين الحذرة والمتلولبة والمنهارة والمتحدية والمضطربة وكما لو أن كل شخصية تحمل في داخلها مجتمعا موؤودا أو منكسرا لا تشفع له حتى صرخة الاحتجاج ضد كل مخلفات الأنظمة الفاسدة .
وقد هيأ المخرج السعيدي كل الممكنات التقنية ( بصريا وسمعيا ) كي يبدو عرضه متسقا مع ما تطمح رؤيته إلى تحققه، موظفا في ذلك الإضاءة والمايكروفونات المتحركة ، ليست بوصفها عناصر مكملة للعرض ، إنما بوصفها صنوا حيا لا ينفصل عن المؤدي البشري في العرض ، فهي متحركة معه ومحاورة له وشاهدة على أفعاله ومراقبة لسلوكياته ولذاته ، وهي بؤر مكانية يلوذ إليها ويحتمي بها وهي شبح يطارده ويكره وجوده بجواره ، وهي فضاء ضبابي مريب وهي مسامع وملامح لأشباه بشر ، وهي متفرج محايد ومباغت في الآن نفسه على الحدث في العرض ، كما يتحول الضوء في هذا العرض أحيانا إلى كاميرا تبرز بعدستها او تفضح أحيانا بعض المواقف التي تتهرب من إعلانها بعض الشخصيات ، مثلما تلعب هذه الأجهزة الضوئية والسمعية دورا حيويا في تبادلية الأدوار بين الشخصيات ، كما تتعدد الأفضية من خلال الإضاءة مثلما يتعدد الوهم أيضا من خلالها ، وحتى العتمة أو الإظلام يتحول إلى شخصية أو مكانا أو وهما وكذا الحال مع الصوت ، كما نلحظ كيف يتحول الممثل إلى أزمنة استرجاعية ومتعددة عبر استخدامه لتقنية الصوت .
هذا إلى جانب الدور الذي تلعبه الإضاءة بانعكاساتها وظلالاتها في تشكيل حالات أخرى وأفضية سينوغرافية ومخدع دفء لحظات الانتشاء والإدمان ، كما تتحول إلى جسور وشفائر حادة يترنح على مخاطرها المؤدون ويسقطون ، مثلما يتحول الممثل من خلالها أحيانا إلى نقطة او صفر يقترح مفارقة كبرى بين الواقع والوهم  وهنا نلحظ هذا التآزر الخلاق بين المؤدي وهذه الأجهزة الحية في توالديتها المستمرة وتناسلها الدائب للأحداث .
فمثل هكذا سينوغرافيا حية لا يمكن أن تكون بمعزل عن الدور الذي يساهم في خلقه المخرج ، ذلك أنها تأتي بمثابة جسد حي في فضاء العرض ، وبالتأكيد أن الدور الذي اضطلعت به السينوغراف فاطمة العتروس ومهندس الإضاءة علي الهلالي لا يمكن تجاوزه ، ذلك أنهما أسهما بلا شك في تشظية الفضاء بهذه الروح التقنية الفنية الخلاقة .
وللموسيقى في هذا العرض والتي ألفتها الفنانة رانيا الحديدي حضور مهم ومؤازر للأجهزة الضوئية والسمعية ، إذ تأتي في هذا العرض  بوصفها حدثا وشخصية وزمنا ومكانا إيحائيا للعرض ومهيئا ترقبيا لأحداث سوف تحدث وسوف تأتي اللحظة أو بعدها ، فهي ليست كما نلحظ في كثير من العروض أعدت لتصبح لحنا قائما بذاته او للتطريب ، إنما ألفت لتكون في صميم العمل ، حيث تؤسس لأجواء متعددة مركبة ولمفارقات يتداخل فيها الألم والوجع والهذيان والصراخ والأنين والصمت القاتل ، ولعلنا نلحظ الاستقصاءات الأدائية لدى الممثلين كيف تتصاعد من خلالها ، لتضعنا أحيانا في طقس سيكودرامي أو نفسي غريب وملبس ، خاصة في لحظات الإدمان والإنتشاء والفوضى التي تعصف بالرأس لحظة الخروج به إلى مواقع الوهم الحاد واللامتخيل .
كل شيء في هذا العرض يمضي بنقائضه وتضاداته، الثبات والحركة، الأجساد وأشباهها وأوهامها ، الصوت والصمت بوصفه فعلا ، الجسد والذاكرة الاسترجاعية والقدرة على تحريكما وفسح فضاءات أخرى لاعتمال دلالاتهما.
إن المخرج السعيدي وبالرغم من تأثره بأستاذه الكبير فاضل الجعايبي وخاصة في مسرحيته (جنون)، إلا أنه تمكن من أن يفكك الخطاب النصي والعرضي المكتمل لديه ليذهب به نحو تخوم أخرى مؤسسة على خلق اللحظة والزج بها في مختبر الارتجال وبجرأة أكبر ، تتجاوز حدود اللوذ والاحتماء بالنهج البريختي بوصفه تغريبة تقتضيها محطات العقلنة التي (أسلبها) الكثير من المخرجين ، كبارا وشبابا .
إنها تجربة مسرحية جديدة للمخرج الخلاق نزار السعيدي تتواشج مع التجارب الأخرى التي تروم تشكيل اتجاه مسرحي مغاير في مسرحنا العربي ، فتحية للمخرج وصناع العرض جميعا ..
يوسف زيدان – البحرين

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش