قراءة نقدية في مسرحية “قاعة الانتظار 1” – جمال قرمي #مهرجان_المسرح_العربي12

  • القراءة المشهدية
  • مشاهدة العرض للمرّة الأولى

قام المخرج بتقسيم الفضاء إلى قسمين يفصل بينهما أبواب ثلاثة. الفضاء الخلفي يعطينا تصورا بأنه مقيد بقدر ما، أو أن شيئا ما يسيّر شخصيات العمل وينقلها عبر حركة متوازنة وثابتة إلى أزمنة وأمكنة محدّدة وفق ما هو مخطط لها. والفضاء الأمامي فضاء الحركة.. الاعتراف.. البوح والتعري عبر ثلاثة مسالك.. يتحدث عن ماضي الشخصيات.. وفي الوسط حيز المقصلة، أو كرسي الاعتراف، أو كرسي التحقيق، أو غرفة الإعدام، حيث نرى كرسي المرحاض والذي ليس سوى مقصلة قطع الرّأس… نرى أحذية قديمة لأناس قد مروا على هذه المقصلة.

في الطبقة العلوية ما زالت أحذية شخصيات، أو ربما الشخصيات نفسها، بحيث تلبس هذه الأحذية ثم ترمى في نهاية مأساتها. أما الجدار الرّابع فمفتوح على المشاهد أو الحضور لمتابعة المحاكمة، فالمجني عليه هو نفسه المتهم، وهو نفسه المظلوم، حتى دخول كل شخصية إلى المقصلة (كرسي المرحاض) يكون وفق طقس معين، تماما كما يدخل المجرم إلى غرفة الإعدام. وقد أحسسنا أن شخصيات جاءت من بعد الموت بأكفان سوداء وليست بيضاء، جاءت لتروي لنا حكايتها وكيف انتحرت بعدما حُكم عليها أصلا بالإعدام في الحياة.

شخصيات تاجَر المجتمع بها وقهرها حتى أفقدها كلّ معنى للإنسانية، فكان قرارها الموت. إذن لم يكن قرار الموت خيارا كيفيا بمعنى الكلمة، ولا محكوما من أطراف أخرى بكل معنى الكلمة، بل مزدوج التعري من الكفن ثم سرد الحكاية ثم العودة إلى الكفن بعد رمي الشخصية ممثلة بالحذاء في فضاء النسيان في قلعة الموت.

الشخصية تحاور ماضيها وتسترجعه، ولكن بلا أي صراع، إنما عبر سرد لقصة بعيدة عن الانفعالات الحقيقية، ولهذا ربما بررنا بساطة الأداء وعدم المبالغة به، لأن الشخصيات أصلا جف دمعها ولم يعد لحكايتها بالغ الأثر بنفسها، وهذه اللّغة السردية كانت الدافع القوي للمخرج كي يشخص حكاية الشخصية بكثافة تتناسب مع وقت السّرد لتكون شخصيات الماضي مجرد أطياف في كثير من الأحيان لا وجوه ولا معالم واضحة لها… مع أن الموضوع جميل ويحمل بين طياته قضايا إنسانية رائعة.

  • مشاهدة العرض للمرّة الثانية

بعد مشاهدة العرض للمرّة الثانية لم أجد فيه إلا تقنية الإبهار عبر تكثيف الفعل لدى الممثلين، بل ومزاوجته حتى إنك تتوه بين الأفعال للحظات. هذه الخطة تحمل وجهين: الأول محاولة المخرج الهروب من سردية النص والثبات على إيقاع العرض وتمسكه بالجمهور حتى لا يهرب منه. والثاني عنصر الإبهار الذي نجح المخرج في صنعه مع بداية العرض، ولكن كونه أصبح مكررا فقد فقدَ بريقه مع تقدم العرض، وهنا لجأ المخرج إلى كوميديا الطبع والموقف البسيط، فنحن نرى في القصّة الثالثة طغيان الكوميديا السوداء الناجمة عن المأساة التي أعادت للعرض نوعا من إيقاعه الحقيقيظن وكذلك في الحكاية الرابعة ثمة الإيقاعات الشبيهة بالجنائزية أو ربما القادمة من الزمن البعيد، حيث تحس أنها صدى لأنين. هذه الموسيقى ساهمت في صنع الجو العام. أما الإضاءة فلم تفعل شيئاً ولم تُستخدم لأي هدف سوى الإنارة على ممرات الحدث الماضي.

امتلك الممثلون الحرفية في الأداء والتقنية المركزة في الإلقاء، فاستخدموا البساطة المستحيلة، التي أوقعتهم في فخ السطحية.. استفاد المخرج من قدرات ممثليه بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وربما غطت قدراتهم على فراغ النص وإشكالية السردية فيه. لم يكن هناك تطور في الحلول الإخراجية أو تنوع، فالحل الإخراجي الحركي في كل حكاية واحد، ولا خلاف بين حكاية وأخرى، وربما أراد المخرج أن يقول لنا إن القضايا مهما اختلفت فالنتيجة واحدة، وهي إهانة الإنسان وقهره وقتله.

وقد تفككت البنية الدرامية للعرض، وحاول المخرج ترميمها بما افتعله من أفعال ومن ازدواجية في الأفعال في محاولة لتشتيت المشاهد بالمنظر. وكان على المخرج إعادة صياغة النص وشبك الحكايات الثلاث ضمن قالب درامي بما يفسح له مجالا أكبر للإبداع (دمج الحكايات الأربع بأسلوب آخر) وصولا إلى نتيجة الموت. هذه الحبكة قد تكون أفضل وربما ستتيح للمخرج أفقا أوسع.

  • التحليل العام للعرض

كل شيء ممكن فوق الخشبة على أن يبرَّر”.

منذ نشأ المسرح ونزعة التجريب في أساليب التعبير تصاحبه، من هنا نرى أنّ العرض المسرحي “قاعة الانتظار 1” يندرج ضمن العروض التجريبية التي تتخلص من السبل الجمالية التقليدية، لطرح أفكار تساير المتغيرات التي تطرأ على المجتمع المغربي، ويمتد الإسقاط ليشمل سائر الأمّة العربية، إذ يمكن أن نصنف العمل ضمن مسرح العبث، فهو يمثل وجها من وجوه التجريب في المسرح في إطار السردية الدرامية التقليدية، مما يعطينا الانطباع أننا أمام مسرحية راديوفونية (إذاعية) تُسترسل فيها الذكريات من الماضي للشخصيات الأربع في شكل شريط للأحداث في حياة كل شخصية، وأن النهاية المحتومة قرّرت قبل اعتلاء الخشبة، وتتشكل أمامنا مفردات العرض من حوار وحركات فوق خشبة المسرح بصيغة العلبة الإيطالية في شكل خطي لتفاجئنا في النهاية أنها تنحو نحو التلقين.

عدم توفر الأدوات النائبة على ما هو مسرود”

جاءت محاولة المخرج بتوجيه الممثلين/ المؤدين اعتمادا على توظيف بعض الأشكال ذات الطابع التمثيلي الموجود ضمن مدونات الأداء الانفعالي وفي النصوص العبثية التي تحمل في مضامينها وموضوعاتها وتركيبتها الفنية مقاربات درامية تفجر فيها لغة العرض المسرحي بقيمتها خارج العرض لانعدام استرسال للحكاية وتشابك للعقدة، فعقدة المسرحية تتكاثف خارج النص المسرحي، وفي تعامل الممثلين مع الفضاء.

كان الخيار محصوراً ضمن دائرة ضيقة تعطي للصوت كامل الحرية في التنقل والانسيابية وتجعل من جسد الممثلين كتلا جامدة ومقيدة، فجاء التعامل مع بعض مفردات العرض المسرحي –لا سيما في تعامله مع الفضاء المسرحي- ليقلّل من إمكانيات الممثلين، وبسط على المكان الضيق رغم تواجد ثلاثة أبواب أو ثلاث فرجات لدخول الشخصيات وخروجها، إلا أن تواجدها جاء مبالغا فيه ودون جدوى، حيث كان بإمكان السينوغرافيا الاعتماد على الإضاءة لعلامات نائبة عن المنافذ وتكون بذلك الأفكار المعبر عنها بصورة أفضل، كذلك ومن خلال حركة الممثل أو المجاميع والتكوينات التصويرية التي يخلقها من أجساد الممثلين، مما انعكس على أدائهم فجاءت مبالغا فيها نظرا لغياب الصورة الداخلية لدى الممثل عن التجارب الإنسانية التي تمّ طرحها للنقاش والحكم عليها وليس للتعاطف معها والعمل على محاربة ذلك الثقل الاجتماعي.

السقوط في مصيدة التسرع مما انعكس ذلك على الأداء”

جاء العرض مفككاً دون رابط عضوي سوى موضوع اختيار الموت كبديل يجمع غاية الشخصيات، حيث يمكن التقديم والتأخير في لوحاته دون إدراك الخلل في ذلك، مما أعطى للعرض هشاشة وفق قدرات تشكيلية أدائية لدى الممثلين، وكذا منح العناصر الفنية المشكلة للعرض حقوقاً متكافئة.

هذا ما اكتشفناه في عدم استغلال الأروقة الجانبية ذات المستوى المائل، وأن الممثل والنص مدفوعان بشكل متواز نحو اللاشكل (Non forme) وهو ينفي الشكل تماماً، فمادة العرض بصفة عامة سقطت في حالة التسرع، مما جعل أحداثه خاضعة لعنصر الصدفة، وكان ثمة غياب للاستعانة بالصورة الداخلية مما انعكس سلبا على الإلقاء عند الممثلين.

ولوحظ التجوال بين المستويات الأدائية أو الطرق الفنية في الأداء المسرحي (استعراضي، انفعالي، ميكانيكي…)، مما أعطى للفضاء الدرامي بمكوناته صورة ضبابية تفقد التناسق بين لوحات العرض، إلا أنّ استخدام البالوعة/ الكرسي من الناحيتين الجمالية والوظيفية جاء موفقا نوعا ما، ليبقى خيار الشخصيات الظلامية يحيلنا على دلالات عديدة كالضمير والقوى الغيبية والسلطة العميقة.

الصدق في الفعل والإيمان بمحتوى النص مفتاح الأداء”

الاشتغال على عنوان المسرحية جاء ربما بهدف خلق التباس لدى المتفرج، في حين أن النص الدرامي المعروض على الخشبة تنوعت فيه الاشتغالات بين ما هو مسرود وما هو صامت، محتكمين في ذلك إلى مضامين متداولة في الذاكرة الجماعية، إلا أنه طرح في شكل مناجاة بصوت الحاضر عن صورة لأحداث من الماضي بنبرة مرتفعة. لربما يعود ارتفاع نبرة الصوت إلى غياب تقنيات استحضار الصور الداخلية لدى المؤدي/ الممثل من صدق في الاسترجاع للمواقف المرتبطة بيوميات الأنماط المطروحة على الخشبة والتي جرت في الماضي، أو الانطباعات للصور المستوحاة من ذكريات أليمة وقاسية مرّت بها الشخصية، بوصفها علامة دالة على إيجاد تعاطف لدى المتفرج ومن ثم التبني فالاحتراز والمساءلة، لكن هذا لم يكن محل انفجار لديه على مستوى المؤول، لأن العرض يفتقر إلى خيط الشراكة بين الشخصيات الواقعية والسريالية، وكذا إلى تشتيت الانتباه لدى المتفرج نظرا لإنتاج فعلين في الوقت نفسه من قبلهما، فالقاعدة العامة تمثلت بفعلين متوازيين على خشبة المسرح وجب إلغاء أحدهما.

المعنى مفتاحه التباين على مستوى اللّغة والفكرة”

أفاد المخرج من فكرة الانتحار المتوافرة في العرض وعمل على تحويلها من ظاهرة إلى قرار اعتباطي، بمعنى أن الفكرة تحوّلت من حالة يأس من الحاضر وضبابية لما سيحدث في المستقبل لدى المنتحر على شكل إدانات رمزية لأعراف اجتماعية وأنماط بشرية وقناعات إيديولوجية إلى مبررات وجودية تفتقر إلى الموضوعية نظرا لعدم التبرير المنطقي لقرار الانتحار، وذلك ما خلصنا إليه من النتيجة المباشرة التي لمسناها في أداء الممثلين للشخصيات، ودلالة على ذلك الاقتصاد في الحركات حينا والتسرع في الأداء (Performance) نظرا لطبيعة العرض الذي يستند إلى طابع الدراما السردية، إذ كان بالإمكان إعطاء أهمية على الاشتغال النصّي وعلى الوضوح الكامل للصور المستوحاة من الماضي دون التركيز على عدم السقوط في هوّة المَلل.

ومن جهة أخرى، أنتج هذا الغياب عدم التباين في المعنى على مستوى اللّغة أو الفكرة التي تم تقسيمها إلى أقسام عدّة يكشف النص فيها أن الانتحار سلوك اجتماعي ينتهجه الأفراد في ما بينهم سعياً وراء تفكيك البنية الاجتماعية. فضلا عن ذلك تنوّعت الحكايات الأربع داخل النسق النصي، وتنوع أسلوب روايتها بين الشخصيات في حركة غير ثابتة ومفككة، إذ اختار فريق العرض التعاطي مع منظومة سردية انسجمت مع الإكسسوارات على غرار الأحذية المصفوفة على خشبة المسرح دالةً في ذلك على أنّ هناك شخصيات مرّت سابقا، الأمر الذي اقتصر فيه السرد على الملفوظ اللغوي وتعداه إلى تعبيرات غير لفظية كمشهد فتح الكرسي ومشهد الأحذية على تنوعها.

(ورقة نقدية / تعقيب عن العرض ضمن فعاليات الدورة 12 لمهرجان المسرح العربي بالاردن 2020)

جمال قرمي – الجزائر

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر