“قبل التقاعد” مسرحية تدين الامتثالية الخانقة – أبو بكر العيادي #باريس

“قبل التقاعد” مسرحية تدين الامتثالية الخانقة – أبو بكر العيادي #باريس

قبل التقاعد” نص مسرحيّ من تأليف توماس برنهارد الذي قضى حياته في التمرّد على السائد، وفضح الأدواء التي تنخر المجتمع النمساوي، لاسيما رواسب النازية، وقد أثارت المسرحية عند عرضها أول مرة في فيينا عام 1979، ردود أفعال عنيفة، شأن أعماله الأخرى التي لا تهادن سلطة ولا ذاكرة.

كانت لتوماس برنهارد (1931-1989) طيلة حياته علاقات معقدة، عنيفة في الغالب، مع المجتمع النمساوي، فما انفك يدين الامتثالية الخانقة، القائمة على توافق كاذب يهدف إلى الإيهام بأن النمسا كانت ضحية الهمجية النازية، والحال في رأيه أنها كانت شريكة فاعلة.

وأعماله تندرج في هذا التوجه، فغايته كانت دائما فضح الأساليب التي يقع استعمالها لتدوير الثقافة القومية الاشتراكية (النازية) في الراهن النمساوي. في “ساحة الأبطال” آخر مسرحية ألفها سنة وفاته، يقول أحد أبطالها “يوجد اليوم في فيينا نازيون أكثر ممّا كانوا عام 1938”.

ومسرحية “قبل التقاعد” تندرج في هذا الإطار، وقد استوحاها من سيرة وزير/رئيس مقاطعة باده فرتمبرغ بألمانيا، وكان في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية قاضيا في البحرية، يواصل إصدار أحكام الإعدام، ثم استطاع بعدها أن يخفي ماضيه.

المسرحية تدور أحداثها في النمسا في أواخر السبعينات، وأبطالها أخ وأختاه يصفّون حساباتهم بعيدا عن الأنظار، في فضاء مغلق خانق يكشف عن حيوية الماضي النازي، الذي لا يزال يعشّش في نفوس البورجوازية النمساوية.

خلال الحرب، كان رودولف هولر ضابطا في فرق الحماية (Schutzstaffel) ومساعدا لقائد أحد معسكرات الإبادة. واستطاع بعد هزيمة الألمان أن يحجب هذا الماضي، ويقي نفسه الشبهات، بل صار قاضيا يحكم بأحكامه، ويفرض القانون مثلما يفرض الاحترام. ولكنه كان يواصل في الخفاء إذكاء حنينه إلى النظام النازي ويعبّر عن أسفه لسقوطه.

وفي السابع من شهر أكتوبر من كل عام، يرتدي زيه العسكري القديم ويحتفل سرا مع أختيه بعيد ميلاد هاينريش هيملر (7 أكتوبر 1900 – 23 مايو 1945)، أحد رجال أدولف هتلر الأشدّاء وأكثرهم شراسة، وكان قائدا لفرقة القوات الخاصة الألمانية والبوليس السري المعروف بالغيستابو، أشرف على عمليات إبادة المدنيين في معسكرات الموت الألمانية، واحتفال هولر تحية وفاء لذلك القائد الذي شرفهم بزيارة في المعسكر.

فضاء مغلق خانق يكشف عن حيوية الماضي النازي
فضاء مغلق خانق يكشف عن حيوية الماضي النازي

ولئن كانت فيرا أخته الكبرى تشاطره فرحه، مثلما تشاطره فراشه (زنى المحارم) فإن أخته الصغرى كلارا، التي صارت مقعدة في كرسيّ نقّال بسبب القصف الأميركي زمن الحرب، تُتابع المشهد وفي نفسها رعب من إمكانية انبعاث الأيديولوجيا الهتلرية التي تمقتها.

تنطلق المسرحية مساء السابع من أكتوبر بعد أن عاد هولر من المحكمة، وفي الذهن هواجس تخصّ مستقبله بعد أن أوشك على التقاعد، ويبدو مرتاح الضمير حين يقول “ليس لي ما يبكّت ضميري”، ولكنه يفكّر كيف سيشغل وقته بعد التقاعد. هل سيقضي وقته مع أخته الكسيحة، التي تحرمه من ممارسة حريته مع فيرا كما يهوى؟

صار يتمنّى لها الموت، بل لا يستحي أن يقول لها صراحة “مثلك في عهدنا لا يبقى على قيد الحياة”، في إشارة إلى إبادة النظام النازي كل من به عاهة من أجل قيام جنس نقيّ يسمو على البشرية كلها، هو الجنس الآري.

وكيف يأخذ معه هذا الحمل الثقيل وهو يفكّر في رحلات سياحية مع أخته/عشيقته فيرا؟ فكّر أن يعهد بها لملجأ للمعوّقين، ولكنه خشي أن تفضح سرّه، فظلت رغم أنفه، وكأن الكاتب يريد أن يقول إن لضحايا الحرب دورا في تذكير المتزمتين والعنصريين بما جرّوه على البلاد وعلى العالم كله من ويلات، وأن من واجبهم التصدّي لهم ولو كان المتصدّي في حالة ضعف. أو أنه جعل تلك الشخصية المقعدة خصيصا لتعذيب ضمائر من اعتنقوا النازية وظنوا أنهم وجدوا في إجرامها مبرّر وجودهم.

مسرحية تميط اللثام عن عودة المكبوت المرضي، وعن ترسبات الأفكار النازية في النمسا وألمانيا ما بعد الحرب

في تلك السهرة، صرف هولر خادمته، التي اختارها صمّاء بكماء حتى لا تفضح سرّه، وارتدى زيّه العسكريّ القديم، واستعدّ كعادته كلّ عام للاحتفال بمولد مثله الأعلى هيملر، واستعدّت فيرا هي أيضا فارتدت فستانَ سهرةٍ جميلا، ودارت أقداح الشمبانيا على أنغام الموسيقى السيمفونية، حتى كلارا أجبرت على أن تشاركهما تلك المناسبة، رغم أنها تكره ما يقوم به أخواها، وتكره تعلقهما بماض تعيس، قاد البلاد إلى الكارثة، وأيديولوجيا عنصرية أدت إلى دمار شامل على شتى المستويات.

وعندما يتصفّح هولر مع فيرا في مباهاة وفخر ألبوم صور عن فظائع النازية، فإنما يكشف عن الشرّ الكامن في نفسه وفي نفس أخته، مثلما يكشف رقص ذينك الجسدين المتعبين عن التقاء جنون التاريخ بجنون من كانوا سببا في مآسيه.

وتوماس برنهارد يُعمل مشرطه في تلك المناطق المظلمة التي تنطوي فيها عقدة التفوّق العرقي، ويفضح الآمال المخبّأة في أعماق الأسر البورجوازية التي ترفض الهزيمة، حيث حب الفنّ ولاسيما الموسيقى يفترض أن يكون علامة على التحضر، والتشبّع بثقافة أصيلة وقيم إنسانية سامية، ولكنها فئة تظهر ما لا تبطن.

لقد أبدع برنهارد في إماطة اللثام عن عودة المكبوت المرضي، وعن ترسبات الأفكار النازية في النمسا وألمانيا ما بعد الحرب، محذّرا بذلك من عودة النازية.

____________________

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش