في مسرحية البروفيسور دو ره مي / د. سافرة ناجي #العراق

كان ومازال للموسيقى حضور مهيمن في رحاب الأسئلة الفلسفية، التي شرع العقل الإنساني في بحث هذا الدور، لاسيما الفلاسفة الفيثاغوريين الذين حددوا علاقات هذا الوجود بالربط بين المنطق الرياضي والموسيقي، عندما قالوا إن الوجود عبارة عن عدد ونغم، ولذلك تنفرد الموسيقى بأنها سؤال بحث في ميتافيزيقيا الوجود، هي بحث في ماهية الموجود والوجود. وفلسفة هذا العرض التي تحاكي الوجود النفسي للإنسان المعاصر، الذي اصبح إنسانا مجردا،  كما الموسيقى التي تتسم بأنها فكر رياضي قائم على التجريد، كما أنها من العلوم الزمنية التي يلعب الزمن فيها الدور الرئيس، التي تشكل مقتربا مع العرض المسرحي على ضوء مفهوم الموسيقى
اذ اعتمد منطق فلسفة الفيثاغوريين بأنّ الوجود عدد ونغم، أي أن جوهر الوجود هو التناغم والانسجام لذلك أطرت الموسيقى هذا المفهوم بشكل مادي ملموس، علما أن هذا الحضور يتم إدراكه المادي بصورته الذهنية،أي أنها فكر ذهني روحي يستهدف العقل والحواس معا، فهي نظام حركي لذلك ذهب العرض الى الربط بين الحركة الجسدية والفعل/ الحركة الموسيقية المجرّدة صوريا والمتحرّرة ذهنيا وخيالا متجددا، إذ إن العلاقة بينهما تحقق التوازن الكوني والإنساني،ووجدوا أن أي خلخلة في هذه العلاقة ينتج عنها خلل وعلل فكرية ونفسية. وفن الموسيقى هو فن قائم على العدد (7/ السُّلَّم الموسيقي) بإيقاع التناغم والانسجام، اذ اشتغل صناع هذا العرض على استعارة مفاهيم الموسيقى فرضية جمالية بصرية من خلال فعل التجسيد، فحُوّل مدلولها السمعي الذهني الى مدلول مرئي ملموس من خلال فعل التجسيد،بوصفه حاملا للفعل المسرحي في أي عرض هو الجسد، لاسيما في عروض (البانتو مايم)التي تكون لحضور الجسد الهيمنة على كل عناصر العرض، عبر تشكيله اللغوي الإيمائي للنسق البصري والسمعي المجسّد للفعل الدرامي من حكاية وصراع وشخصية وفكرة وحوار وتحول الفعل الدرامي، فكان الجسد في هذا العرض جسدا متكلّما، جسدا، يحكي كل شيء مستعيرا موقف “مايرهولد” الجمالي من جسد الممثل في العرض المسرحي.
ولهذا أن الجسد المسرحي للممثل يتجاوز الأعراف اليومية، التي جعلته في دائرة التكرار النمطي، فهو جسد باحث عن مغايرة في الشكل والمضمون وكما يصفه “يوجين باربا” بذلك، أي أنه جسد مبتكر لكل ما هو جديد، لهذا قد تكلّم جسد الممثل وحكى جسد الشخصية المسرحية كل شيء،إذ تمدد واتسع لأنه كان حاملا لكل ايقونات العرض العقلية والوجدانية، ولأن هناك علاقة بين الموسيقى والعقل، فإن هذا العرض قد اعتمد ثلاثة مفاهيم هي (الموسيقى، المعلم، الجسد)، إذ جعل من المصطلح العلمي (البرفسور دو ري مي) الايقونة المهيمنة على بنية العرض أي معلم الموسيقى وهذا الاصطلاح المعرفي له معطى ايقوني راسخ المفهوم، بأنه الفكر المتقدم معرفيا مما يمنحه امتياز تعليم الآخر، وهذا كان جوهر هذا العرض، الذي اتخذ من الموسيقى وسيلة لتعليم النشء، الذي كان جمهور العرض المتفاعل مع العرض بالتعليق والتداخل مع مقولات جسد العرض فكان المؤثر الصوتي الفاعل الذي اكد فكرة العرض الفلسفية- التعليمية والتربوية، فكانت فعل اتصال ما بين الجسد الجمالي وجمهور المتلقين، وهنا مرة اخرى هي علامة تؤشر الموقف الفلسفي الذي اكد عليه الفيلسوف افلاطون والفارابي واخوان الصفا على اهمية الموسيقى في تربية الانسان وتهذيب طباعه الشريرة، لذلك اكدوا على ضرورتها في التربية .
فعرض (دو، ري، مي) الذي ينتمي فنيا الى مسرح “البانتو مايم” فإنه من الثابت ان يكون الجسد هو الموجه الجمالي لبنيته الدرامية، اذ افتتح العرض بحركات كوميدية باحثة عن وسائل لبدء درس التعليم ثيمة العرض الاساس في حركة مستقيمة في الذهاب والمجيء، فكان الرسم الحركي للرؤية الاخراجية هذا ذا خط أفقي وكانه عبارة عن  خط مستقيم بين نقطة وأخرى، وعلى الرغم من أن هناك بعض الاشارات الحركية التي كسرت هذه الافقية وهذا بسبب سينوغرافيا العرض قد انحسرت في هذه الرؤية البصرية الافقية، فمايسترو العرض (الممثل/ الجسد) قد عرض موقفه الساخر من أن الثقافة العربية ثقافة تهمل الموسيقى وتضعها في درج المهملات يغطيها الغبار، وكما اعلن ذلك في مشاهد تحريك آلة البيانو التي كانت العلامة البصرية المهيمنة التي استعار لتجسيدها ستارة المسرح، وهنا بدأت رحلة البحث الجمالي في تقديم الدرس التعليمي للموسيقى لتحييد المعرقلات التي تعترضه، على شكل حركة جسدية ساخرة باحثة عن كينونتها المغيبة بفعل الاخر، الذي يحاول ان يعرقل تبني الثقافة الموسيقية كما في مشاهد الصد المعرقلة للبرفسور في درسه التعليمي، واثر فوضى هذه السلبية التي جسدها بتداخل الاشياء من خلال علامة الغبار التي كانت اشارة لحجم الفوضى الفكرية، فكانت كل هذه الفوضى دوافع تحدٍّلان يقترح اسلوبا في تقديم درسه التعليمي عندما استعار الموروث الموسيقي الثقافي العربي الحديث لخلق فعل التواصل الروحي موظفا الفرق الفردي السمعي بين الآلات الموسيقية، اذ ان لكل آلة موسيقية فعلا موسيقيا له تقانته الادائية، موكدا فكرة أن الفرق في السمات لا يمنع ان نجد مفاصل اقتراب لنحقق الانسجام، إذ أشر صانع العرض هذه الاستعارة مقتربا جماليا لطبيعة الفروق الفردية بين بني البشر، ولهذا تحول من الاداء الفردي الى الاداء الجماعي بعزف نوتة موسيقية تداخلت فيها كل الالات الموسيقية الغربية والشرقية من الة السنطور والة العود، وهنا قد حقق جوهر الموسيقى في الانسجام والتناغم ما بين اليد اليمنى واليسرى عندما تحول الممثل الى عازف لكل الالات الغربية والشرقية. وهذا التحول الدرامي للعرض يؤكد أن الفردية تعني الانعزال والتوحّش الانساني، فالتناغم والانسجام يخلق لوحة فنية لفيسفاء التنوع الإنساني، فهي استعارة لواقع الانسانية اليوم الذي يهيمن عليه العنف والتقاطع، مشيرا الى ان التلاقح الثقافي يحقق الانسجام الانساني وينتج أجمل المعاني الحضارية، وكما يلاحظ ذلك عندما حاول الممثل ان يعزف على الة واحدة فقد فشل، ولكنه عندما عزف على أكثر من آلة فإنه نجح في عزف نوتته الموسيقية الجماعية. كما أن العرض قد قدم صورة لفظية جسدية موسيقية حققت تواصلا واتصالا متفاعلا ليعلن ان للموسيقى قدرة آسرة على خلق الانسجام والتناغم والتواصل بين كل الثقافات الانسانية، وهذا العرض “دو ري مي” قد قرع بسوطه الجمالي الثقافة العربية المتناحرة على الاعراف البالية وهي تغفل وتغض النظر عن دور الموسيقى وجوهر الوجود الانساني بالتناغم والانسجام مع الاخر الذي يحقق وينتج حضارة وكينونة وجوده الانساني .
كل هذا المتن الفلسفي للعرض أعلن عن سريته الجمالية منذ العتبة الاولى لعنوان للعرض الذي غيب عنه سر دهشته الجمالية، وان العرض سيقدم محاكاة لدرس تعليمي. فضلا عن ان اداء الممثل الذي اتسم بحركة ذات حدود أفقية قد اوقعت العرض في فخ التكرار الصوري والسمعي. مما خلق مللا انعكس على إيقاع العرض؛ لذلك نقول إن فكرة العرض بحاجة الى تمرين وسينوغرافيا تخرج عن حدود الحركة الأفقية .فتحية لفريق العمل بقيادة (المؤلف عمر هماني، والمخرج منير المثلوثي) الذي شارك في مهرجان الموندراما الافتراضي الرائد، لكلية الفنون الجميلة – جامعة البصرة، بنسخته الأولى 2020.
المصدر / جريدة الصباح
https://alsabaah.iq/35861

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش