“فيزا”: مونودراما الرقص مقابل الدواء – كريم بابا #المغرب

الصورة : عادل مليح

أن تشاهـد فيلما سينمائيا أكثر من مـرة لا يعـني أنـك ستجـده في إحـداها مغايرا عن سـواهـا، بل إن رصيدك الثـقافي في السينما هو الذي سيـربـو، لهذا يندر أن تتغير قراءتنا لعمل سينمائي بعد تكرار مشاهدتـه، عكس ما نجـده في علاقتنا بالفن المسرحـي، الذي ما أن يسعفك الحظ في أن تشاهد عرضا مسرحيا “ناجحـا”، إلا وتشعـر خلال تلقيك له أنك صادفت أقصى درجة الفعل لدى مكـونات إنـتاجـه، سـواء الثابت منها أو العابـر.

وقد شاءت برمجة العروض المسرحية لبداية الموسـم الثقافـي الجـديـد، والذي يبدو أنه كغيره من المواسم يزخر بالعشرات من العروض المسرحية على طول هذا البلـد السخـي ثقافـيا وإبداعـيا، أن شاهدت إحدى المسرحيات الجديدة في عرضها الأول المثير للانتباه وهو: “فـيـزا” (التأشيـرة)، لمخرجه الشاب عماد فجاج. فدفعتـني بعض اختيـاراته الجمالية إلى الكتابة عنـه، وأهمها العبـارة المكتوبة عـلى ملصقه وهي: «théâtre Documentaire»، (مسرح وثائـقي)، إضافة إلى عناصر أخرى سأحاول بسط قراءتي فيها في هذا المقال.

الرقص مقابل الدواء

اختار الباحث كمال خلادي اللغة العربية الفصحى لنصه الدرامي “التأشيرة”، المستوحى من واقعة مأساوية حقيقية للسيدة “عائشة المختاري” من شرق المغرب (وجدة)، التي عرفها الرأي العام سنة 2009 من خلال فيديو منشور على شبكة الأنترنيت تتحدثت فيه وتشرح معاناتها مع مرض سرطان العظام من جهة، وكفاحها للحصول على تأشيرة السفر لفرنسا من أجل العلاج من الورم الخبيث من جهة ثانية، وأنها ستتكفل بمصاريف استشفائها من مالها الخاص دون أن تستجدي عطفا ماديا من أحد، وترغب فقط في الدخول 24 ساعة للأراضي الفرنسية، لكن ما زاد الواقعة مأساوية هو أن سفارة هذه الأخيرة بالمغرب سترفض طلبها بمبرر وجود (اسمها) بقائمة الممنوعات من دخول أوربا، وأن هناك اشتباه لدى السلطات الأوربية في علاقة سيدة جزائرية تحمل الاسم نفسه (عائشة) بمنظمة إرهابية، مما جعلها فريسة للمرض الذي لم يمهلها أكثر من سنتين لتفارق الحياة ويكون مصيرها مفجعا …. !!

وخلال ساعة العرض المونودرامي “فيزا”، قامت الممثلة “فيروز عميري” بتشخيص دور السيدة المصابة بمرض السرطان، والحاملة للورم القاتل في ركبتها، دون أن يمنعها من أن تتمرد على حدود غرفتها بسخرية لاذعة اتجاه منظومة القيم الإمبريالية، ومحاولة على طول العرض فك قيدها المعنوي الذي يحول بينها وبين التواصل مع أقاربها. وهو انتقاد ضمني لحال المؤسسات الاستشفائية محلـيا، ورسالة من الأسى على تناقض الخطاب الحقوقي الغربي مع الواقع الإنساني، وسقوط سلطاته في الامتحان الأخلاقي باسم حماية الحدود، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة شمال- جنوب.

إن كل هذه المشاهد السوداء التي أرسلها العرض لم يلغ عنه ملمح الحب والأمل والإشراق، إذ رافقته وصلات موسيقية غنائية من تأليف وألحان الفنان عـبـد الفتاح النكادي، وغناء الفنانة “سكينة الفحصي”، صاحبة الصوت المشبع بالنفحة الـكنـاوية، والضارب بجدوره في عمـق الصحـراء، جعل “شهيدة” الفيزا تثور على أحزانها وتختار الرقص على الاستسلام لوجعها، والموت جسرا لوصل زوجها الذي سبقها للعالم الآخر. 

أما السينـوغـرافـيـا، فقد كانت بسيطـة في تركـيـبها، ومنسجة في دلالـتها مع القضية الإنسانية التي يخلدها العرض، ولا تحتاج لأي تأويل لفهم أبعـادها، إذ صممها السينـوغـراف “طارق الريبح” على شكل غرفة تحدها قضبان حديدية حمراء ترسم أحاسيس الضعف والعجز و”السجن” النفسي والمادي الذي تعانيه مريضة تصارع قدرها ولا تملك إلا تلك القضبان نفسها لتستند عليها في فورة مقاومتها، وطاولة طبية صغيرة تجلس عليها حينما تنهار قوتها ويشتد وجعها ……

مسرحة الفيديو

لا شك أن الوسائط أحدثت تحولا كبيرا في صناعة الدراما عبر العالم، سواء في الإنتاج أو التلقي. أما بخصوص المسرح، فلم يعد يخفى استفادته من الوسائط الجديدة باعتبارها أداة لتثوير المشهد المسرحي وإغنائه، والحفاظ على “استمراريته” باعتباره فنا للجمهور بامتياز. لكن تحقق ذلك مرتبط بمدى فهم حدود ذلك الوسيط ودوره الجمالي، أي أنه ليس قطعة مادية توضع على الركح لتعويض نقص في الذائقة الإبداعية للفنان. لهذا، سيظل هذا الموضوع مثار نقاش نقدي بين محترفي المسرح ونقاده إلى حين الاقتناع بحتمية الانفتاح على الوسائط الجديدة في الإبداع المسرحي.

وعلاقة ذلك بعرض “التأشيرة”، أرى أن الفيديو الذي تم تسليطه بشكل تقليدي على خلفية الشاشة بتقنية «Data Show» جعل “أداء الممثل” يسير في خط مواز مع مقاطع الفيديو، التي تم عرضها ثلاث مرات، دون القدرة على تكسيره، مما رسخ تلك القدسية التي تملكها الوثيقة في الأعمال الوثائقية، ورغبة مخرجها في إضفاء طابع الواقعية على العمل الفني، خاصة وأن فكرة العرض في نواتها مستوحاة من واقعة حقيقية كما أشرنا إلى ذلك.

إن النجاح في توظيف الوسيط السمعي-البصري على الخشبة يتجلى في القدرة على جعله يتماهى مع باقي عناصر المشهد، وأول تلك العناصر هو جسد الممثل، إذ يبدو في عرض “فيزا” أن الممثلة أصبحت جزءا من الجمهور؛ تشاهد مقاطع الفيديو، التي هي جزء من فرجتها فقط وليست كلها، فظهر أن الوسيط فرض هيمنته و”سلطته” على باقي عناصر الركح، خاصة في نهاية العرض، وعلى الوسيط الموسع ككل وهو المسرح، كما يعتبره ذلك الباحث خالد أمين. فهل ذلك اختيار جمالي يدركه المخرج أم أن مغامرته لا يعكسها العرض الأول؟

وبالنظر للمعطيات المذكورة، أرى أن توظيف الفيديو بعرض “فيزا” لا مناص منه، لكن بالمقابل هناك توقف في منتصف الطريق، إذ كان الأمر يحتاج إلى الاستمرار في البحث عن أقصى درجات التمسرح للعنصر الوسائطي الموظف، وجعله يتكلم بلغة مشهدية تتناغم مع باقي العناصر، كي لا يشعر المشاهد بأن هناك عرضين داخل العرض الواحد، وهذا في نظري أكبر تحد واجهه عرض “التأشيرة”، وهو الرهان الذي يجب أن يضعه المخرجون نصب رؤاهم الإبداعية.  مع التذكير أن الاستعانة بكل المستجدات، سواء المتعلقة بالإنتاج أو العرض/التلقي المسرحيين،  لابد وأن تمر بمرحلة الاختبار، اختبار الكونية أولا، وهو ما كشفت عنه التصورات الإخراجية لرواد المسرح خلال مراحل تاريخية متفرقة. ونذكر هنا، على سبيل المثال: غوردن غريك، وأورسن ويلز، وبيسكاتور، بيتر برووك …

كريم بابا

(المصدر الهيئة العربية للمسرح)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش