فتحي العكاري.. فيلسوف المسرح وفنان «الكاووس»

 

في ركن المقهى كان جالسا وقد ضجّت من حوله الطاولات والمقاعد بالأحاديث المتقاطعة والمتداخلة…

أما هو فبدا في جلسته الوقورة وكأنه خارج المكان والزمان وهو المسافر بخياله مع دخان سجائره بعيدا، بعيدا… ليرسم على وجه السماء غيمة أو قبلة أو طيف مسرحية…نقترب منه أكثر فتصافحنا عيناه قبل يديه وهما تهباننا بريقا من الأمل والحلم والحب… فأي باب نطرق لولوج عوالم الفنان فتحي العكاري؟ وهو الذي اشتعل رأسه شيبا وعشقا للفن وتناثرت خصلات شعره في فوضى جميلة متمردة على النظم والنظام بعد أن اتفقت مع اللحية المنسدلة في شرود على أن تصنعا معا لوحة متميزة الشكل واللون وجدت مكانها في تلك الطبقة الخفيّة ما بين الأبيض والأسود !
في محاورة فتحي العكاري تتبعثر الأوراق وتتبدد منهجية الحوار، فلا داعي إلى ترتيب الأسلة وفق صيغة «سين» و»جيم» في حضرة فنان يبوح إلينا بالهواجس والخيبات والأمنيات… ويحدثنا عن مقاربة خاصة جدا للمسرح وعن فلسفة في الحياة !

مختبر الممثل لمداواة المسرح من العقم
أكبر من مدى الكلمات هي تجربة الفنان فتحي العكاري وهو الذي عرفناه وجها متلوّنا لا يكرّر نفسه من المسرح إلى السينما إلى الدراما التلفزية… اليوم، هو ذلك الوجه الذي تحدثنا فيه التجاعيد قبل اللسان عن تراكم الخبرات والتجارب، وتعدد المسارح والأركارح في عمر رجل اختار أن يؤسس، الآن وهنا، مختبر الممثل – الباحث «بعد أن غرق المسرح التونسي في موجة من العقم والاجترار والاكتفاء… وفقدت مشاهدة الأعمال الجديدة ذلك الشعور الجميل باللهفة والشوق كمتعة اللقاء الأوّل بين العشاق…».

وفي نبرة الواثق والعاشق وصف دكتور المسرح مشروعه الجديد فقال: «مختبر الممثل هو مشروع استشرافي لا خجل لنا في الإشهار بأنه بادرة لا وجود لها لمثلها في العالم العربي الإسلامي وحتى في العالم الغربي من منظور خصوصياتها وإفرازاتها».
وقد ارتسمت على شفاهه ابتسامة النصر بعد معركة البحث عن شيء مفقود، عن الذات، عن لحظة ارتياح… يصنّف الممثل والمخرج والمنتج فتحي العكاري مشروعه الجديد على أنه المبتغى والمنتهى، فيبوح بما يلي:» امتحنت ذاتي في أغلب الأنظمة المسرحية، تكوّنت، وكوّنت، وأنتجت، وحاضرت ونشرت، ما يلهمني الآن هو التفرغ للبحث العلمي الفرجوي بغاية إثراء صناعة الخيال المسرحي وطاقة التغيير والتحديث. ولا يتم هذا إلا عن طريق النظر في بيداغوجيا الخلق والإبداع، ومحاورة ومساءلة المسارات والآليات والوسائل… عسى أن نحيّن التدخل الجمالي في المدينة وفي الفن طبيعيا، ومن المواطن الموجود مواطنا منشودا».

«مسرح الكاووس» والرغبة في التغيير
هو الفنان الذي يصادفنا في المسارح ويعترض سبيلنا أمام قاعات العروض… وهو المتابع للإنتاجات الفنية الجديدة والقريب من نبض الشارع وهواجس الناس. ومن هذا المنطلق يقول فتحي العكاري إننا «نعيش من سنة2011 حرب مبادئ وتشعب المسالك على كل المستويات الدينية والأخلاقية والسياسية والإجتماعية… كل هذه التحوّلات والإرهاصات أريد أن أجدها على ركح المسرح … أريد أن أجد لهذه الفوضى ما يسمى بنظام الفوضى من خلال «مسرح الكاووس»الذي سيكون هدف البحث الفرجوي لمختبر الممثل – الباحث.»

ويتعهد مشروع مختبر الممثل الذي بعثته شركة المسرح البديل ببادرة من فتحي العكاري وبتعاون وتعامل مع عدد من الوجوه المسرحية على غرار مريم العكاري وسامي النصري… بتحقيق جملة من الأهداف الهيكلية والجمالية التي تبحث عن معادلة مغايرة لممارسة الفعل المسرحي من ذلك نشر كتاب جماعي بعنوان» بيداغوجيا الخلق المسرحي» بمشاركة ممثلين جامعيين وخبراء في السيوسيولوجيا والأنتروبولوجيا وطبيب أعصاب وطبيب في علم النفس التحليلي ومختص في الجماليات… إلى جانب إنتاج شريط فيديو يحمل تسمية»مسارات» مدته ستون دقيقة حول إنشائية العلامة والدلالة.
وإيمانا من فتحي العكاري بدمقرطة المعرفة فسيبعث مختبر الممثل هيكل تكوين عن بعد عن طريق بعث موقع واب» الجامعة الرقمية لتكوين الممثل الباحث» والتي ستقدم دروسا نظرية وعينات عملية ومحاضرات وندوات… وتمتد السلسلة الأولى من مشروع «مختبر الممثل « لمدة أربعة أشهر وقد انطلقت تمارينها في مدينة الثقافة بعد أن وجد هذا المشروع مساندة معنوية ومادية من وزارة الثقافة.
يرى فتحي العكاري أن من واجبه التأسيس و»تاريخ المسرح موّشم في جسدي، كما هو موشم تاريخ التفكير فيه … وهو من تاريخ هذا الوطن الجميل والجاد في آن».

الجسد المسرحي بمعادلات الفيزياء والكيمياء
ليس المسرح عند فتحي العكاري فنّا مقيّدا بأبجديات الركح ومرجعيات الفن الرابع، بل هو استعارات ومجازات من مدارات العلوم الصحيحة ومسارات الثورات العلمية… وهو الباحث عن شرارة الحياة والجمرة الملتهبة على مسارح يتمنى أن يرى فوقها «حركة، خوضة، عركة» على حد تعبيره.
بمرارة وانزعاج يقيّم فتحي العكاري إنتاجات «أب الفنون» في هذا الزمن بأنّها سليلة يتم ومأتم يقتل الإحساس والحال أنّ عقيدته في الحياة هي الخلق والخيال والجمال…
يلّخص تلميذ لوديفيك فلاشو وأوغسطو بووال وجاك لوكوك… نظره إلى المسرح ممارسة وهوية وفلسفته في الحياة فيقول:» مقولة الغزالي بأن الشك طريق إلى اليقين لا تلزمني فالشك عندي طريق إلى شك آخر… كل نظام يكتمل يتناقص عندي وإن كان جميلا… ولهذا اكره السياسيين العقائدين المتقوقعين في الماضي والحال أن الحرب القادمة هي السماوات وغزو الإنسان للفضاء».

بعد عمر من العطاء والإبداع ومسيرة من التعلم والتعليم، يرى الفنان فتحي العكاري الجسد من وراء عدسة نظارة واسعة الأفق والزوايا فيكشف سره ووصفته الخاصة جدا في محاورة الشخصيات المسرحية فيقول: «إن الجسد يعاش من أغلب الناس ومن الممثلين خاصة كفكرة، وأنا مقاربتي هي المصالحة مع الجسد كمادة… ما بعد محاورتي ومعرفتي ومسايراتي لعشرات مؤلفة من الأجساد التي كوّنتها وأطرتها توصلت إلى يقين بأن الجسد واحد هو جسد متعدد. وقمت بتفكيك هذا الجسد إلى جسد نباتي وجسد عظامي وجسد عضلي وجسد نحتي وجسد طاقي وجسد معرفي وجسد شبقي … فصرت أشتغل مع الجسد الممثل وفقا لمعادلة كيميائية تمتزج كل هذه الأبعاد من الجسد الواحد بنسب مائوية معينة فأصل في النهاية إلى ما يسمى الشخصية».

إذا كيف يصنع صاحب كتاب «الممثل الانتحاري والمسرح المستحيل»، الذي سرق من عمره 20 سنة في الإعداد، الفرجة المسرحية ويعلن الانفجار على الركح؟ يبتسم المخرج فتحي العكاري في نشوة وانتصار قبل أن يعلّق بالقول:» إن مفهوم الممثل الانتحاري استفزاز للإسلاميين الانتحاريين حيث أستنجد برولان بارت لأستعير منه مفهوم جسد اللذة باعتباره جسدا يصبح بلا هوية عند الوصول إلى النشوة الجنسية … هذه النشوة بالجمال هي غايتي التي أبحث عنها فوق الركح. فعندما يصعد الممثل على الخشبة يكون عبارة عن تركيبة من الهويات المدنية والمهنية والثقافية… وبتشظي هذه الهويات في جسد الممثل الانتحاري نبلغ الإحساس بلذة الجمال. وعسى الجمال يبقى معنى الفن والسعادة معنى الحياة».
هل وقف الفنان فتحي العكاري يوما ما عاجزا أمام دور أو مرتبكا أمام شخصية؟ تأتي الإجابة على لسان مؤسس المسرح العضوي مقهقهة، فاضحة الجواب: «جربت كل الأدوار، تلوّنت، تبدلت … إلا في أدوار الدعارة لم أصلُح ولم أفلح «!

في نهاية اللقاء يوصينا فتحي العكاري في إصرار ورجاء أن نبقى سعداء وأن نحب الحياة بكل عمق وشغف مستعيرا وصية «النفري» :» اقعد في ثقب الإبرة ولا تبرح، وإذا دخل الخيط في الإبرة فلا تمسكه، وإذا خرج فلا تمده، وافرح فإني لا أحب إلا الفرحان…».

بقلم ليلى بورقعة

 

https://ar.lemaghreb.tn/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *