فاعلية الأزياء والماكياج في أداء الممثل / د . جبار جودي العُبُودي

تكتسب الأزياء المسرحية أهمية بالغة في التعبير الجمالي والدرامي عن الشخصية المسرحية وعن مكان الحدث وزمن وقوعه ، وأيضاً دورها في تجسيد وإيصال معاني العرض المسرحي منفردة أو بالإشتراك مع العناصر السينوغرافية الأخرى ، كالمنظر والإضاءة والملحقات وغيرها ، فالأبعاد التاريخية المتوافرة في ظل أي شخصية درامية نستطيع التعبير عنها بشكل ونوع وخامة الزي الذي ترتديه تلك الشخصية ، كذلك نستطيع تحديد مزاجها وتأثيرها وقوة مركزها أو ضعفه من خلال اللون وتركيب شكل الزي الذي تظهر عليه . فالأزياء المسرحية تساعد المتلقي على فهم طبيعة الشخصية وتكوينها الإجتماعي ومركزها ، لأنها في أغلب الأحيان تكون نقطة الإحتكام الأولى للمتلقي في لقاءه بالممثل ومشاهدته للشخصية التي يقوم بتجسيدها على خشبة المسرح ، فالزي المسرحي يعمل بصفته موصلاً طبيعياً بين شخصية الممثل الإعتيادية وبين الشخصية التي يتقمّص أداءها ويستعمل ملحقاتها ، ويمكن تحديد أهم وظائف الأزياء على النحو التالي :

1/ تسهم الأزياء بسِمة التخصيص في العرض المسرحي لإظهار الطراز والعصر والوسط الإجتماعي والذوق الشخصي للشخصية المسرحية .

2/ تساعد الأزياء على الإستدلال الدرامي لظروف الأحداث المسرحية ، من خلال التعرّف على الشخصية أو كونها متخفية .

3/ الأزياء تميّز علاقة العرض المسرحي بالواقع الإجتماعي .

وللأزياء علاقة وثيقة بالمنظر المسرحي للترابط التشكيلي في تكوينهما الذي تعززه الإضاءة وتمنحه الحياة ففي المنظر المسرحي تأخذ الملابس دوراً مساهماً في إغناء الجانب التشكيلي إضافةً الى وظيفتها في التعبير عن الزمان والمكان والشخصية ، إذ تكتسب هذه الخصوصية التشكيلية من إمكانية التعبير باللون والإسهام بشكل جمالي لدعم الفكرة الأساسية للعرض والتي تشكل الهدف الأول الذي تتعاون على إبرازه كل عناصر العرض المسرحي ، ويكتسب الزي أهميته القصوى في فضاء العرض عبر ارتداءه من قبل الممثل الحي والذي يُعتبر أهم عنصر من عناصر تشكيل المشهد البصري على خشبة المسرح ” فالممثل أقوى عنصر في الفراغ .

حيث يُشكّل الفراغ المسرحي فراغاً زمانياً ، الكلمة ، الموسيقى ، الإضاءة ، ومكاني ، الممثل ، المنظر، الحركة ويُعتبر الممثل من أهم عناصر تشكيل الفراغ لخشبة المسرح لحركاته المستمرة والمتدفقة ، ونتيجة لهذا التدفق والحركة المستمرة ، تكتسب الأزياء حيوية جمالياتها من ظهورها وتنقلها في الحيز المكاني المتاح لها في حركة الممثل من والى المكان الذي ينتقل اليه ، وتشمل الأزياء جميع مايرتديه الممثل ، من رأسه حتى قدميه . وتسهم الأزياء في صنع الشكل المسرحي المعبر بالقيم الجمالية ، كونها أحد العناصر البارزة في تأسيس قوة الشكل من خلال المعنى الذي تحمله في تكوينها ، وطريقة تصميمها التشكيلي واللوني والمضمون الذي يتم انتاجه بطبيعة خطوطها وتفاصيلها ، لأن للشكل دوره الفاعل في تصعيد القيـم الفكـرية والفلسفية والجماليـة في المدركات البصرية وفي العرض المسرحي على وجه التحديد ، فلكل عنصر من عناصر العرض معانيه الخاصة المتولدة منه بشكل منفرد أو بالتفاعل مع باقي العناصر الفنية الأخرى والتي تمتلك لغة تعبيرية خاصة بها فعناصر العرض تنتج معانيها الخاصة من خلال لغتها وطبيعة صياغتها الجمالية ، فالتكوين المسرحي الناتج من عناصر السينوغرافيا ، والتي تشكل الأزياء فيها أحد مكامن القوة الممنوحة لشكل العرض ، كونها من العناصر الفنية التي تكتسب ديناميكية الحركة والتغير من خلال أداء الممثل ، أي بمعنى أنه هو الذي يحرّكها كيفما شاء وليس العكس ، وهذا يؤكد بأن الممثل عندما يرتدي ملابس شخصية عطيل أو لير أو هملت ، لايصبح فجأةً هو تلك الشخصيات ، بل عليه أن يتفاعل ويوجّه تلك الملابس عن طريق السلوك والمشاعر والحواس لكي يجعل تلك الملابس معبـّرة بالفعل عـن الشخصية المطلوب أداؤها من قِبَل الممثل في العرض المسرحي ، ولذلك ينبغي على الممثل أن يكون حريصاً ودقيقاً عند التعامل معها في العرض المسرحي المقترح ، الى جانب تعامله مع باقي العناصر السينوغـرافيـة ، وبالإنسجـام مع الشكـل العام النهائـي المعبّر عن المعنى المقصود إبرازه في الفضاء المسرحي ككل متناغم إذ أن لكل عنصر من عناصر العرض ، الحركة ، اللون ، الضوء والظل ، أهمية تتناسب مع الممكنات غير المحدودة لتلك الوسائط الفنية في إنتاج تكوين مسرحي معبّر ، لذلك اكتسبت العناصر السينوغرافية قوة التعبير الجمالي والفكري غير المحدود عن ماهية الأفكار والمعاني المطلوب إبرازها والتأكـيد عليها في العرض المسرحي ، كلغة فنـية متميزة بطريقـة أدائها وشكل تمظهرها الدرامي الذي يعكس أيضاً المعاني السايكلـوجية المطروحة في العمل الفني المسرحي إذ استطاعت السينوغرافيا أن تنتزع دور البطولة وأن تُعرّف المحتوى الدرامي والسايكولوجي للإنتاج المسرحي .

ديناميكية الماكياج :

يرتبط الماكياج بالممثل مباشرةً من خلال وجهه وظهوره على خشبة المسرح ويأخذ حيويته وقدرته على التعبير من تقاطيع وقسمات ذلك الوجه ، حيث يساعد الماكياج على خلق وتدعيم مزاج الشخصية ، وشكلها الخارجي وإبراز حيوية الممثل والشخصية من عدمها والمساهمة في توكيد الجو العام للعرض مع بقية العناصر الفنية ، حيث يستعمل الماكياج في المسرح للتعبير عن غرضين أحدهما وظيفي والآخر جمالي ، أمّا الغرض الوظيفي فيقوم الماكياج بتشكيل شخصية الممثل على المسرح من خلال تحديد ملامحه وإغناءها بتأثيره الواقعي المطلوب ، كذلك بالإمكان التصرف بعمر الشخصية من ناحية التصغير أو التكبير ، الشباب والفتوة ، أو الكهولة ، وإختلاق علامات فارقة في الوجه كالندوب والجروح القديمة والعاهات أو التشوهات أو حالات الصلع أو الشيخوخة التي تفتقد الى الأسنان ، أما الغرض الجمالي ، فيأتي عن طريق استخدامات الماكياج في التعبير جمالياً عن أداء الممثل للشخصية مباشرة ، في حركتها ، نشاطها ، توصيفها ، أو كجزء من التشكيل الجمالي العام للعرض المسرحي ، وتتحقق هذه الحالات من خلال إبراز وتحديد الملامح ، وتأكيد الخطوط والقسمات في وجه الممثل ، وذلك لأن المسافة بين المتفرج الجالس في صالة المشاهدة والممثل على الخشبة عادة ماتكون واسعة ، وليست بالقرب الكافي الذي يستطيع من خلاله المتفرج معرفة تفاصيل الوجه الإعتيادي بشكل واضح فإن الملامح المعبرة يجب أن يتم تكبيرها بحيث تبدو طبيعية حتى وإن كان ذلك على بُعد كبير من خشبة المسرح فالبُعد أو القرب صانعان أساسيان للمعنى . والماكياج يرسم صورة الشخصية المسرحية وطبيعة أشكالها المتنوعة في حالاتها المختلفة من نواحي الفرح أو الحزن والجدية أو الهزل وغيرها من العوامل النفسية والمتغيرات المتنوعة التي تمر بها الشخصية ، وكل ذلك يسهم في تكوين قيم جمالية لها أثرها الفاعل في انسجام المتلقي مع مايشاهده على خشبة المسرح ، فالماكياج يعيـد تصوير وجـوه الشخصيات ، حيث يشكّل نسقاً جمالياً لايخضع سوى لقواعده الخاصة ، فالملامح التي يتم إبرازها وتحويرها يمكن أن يكون لها تأثيراً ساحراً . والماكياج لابد أن يكون متماسكاً لأنه يعكس عوامل عديدة تؤثر على المعنى والدلالات المتضمنة فيه والتي تُعبّر عن الشخصية وأبعادها ، ففي العروض الواقعية ينبغي أن يلتزم مصمم الماكياج بالدقة التاريخية للشخصية وطبيعة أداءها إعتماداً على تصميم ماكياج الوجه ، و كذلك يرتبط بشكل مباشر بالزي المسرحي حيث يجمعهما قاسم مشترك وهو جسد الممثل المتحرك وسط عناصر العرض والمتفاعل معها ، مما يمنح هذين العنصرين مجالاً تعبيرياً أوسع وعلاقة مباشرة بالشخصية المسرحية ومسيرة حياتها بشكلٍ كُلّي فهي تقوم بدور المؤشر الشامل الذي يحدد عُمر الشخصية المسرحية وجنسها وجنسيتها وديانتها ومكانتها الإجتماعية وذوقها العام وشخصيتها المتفردة ومزاجها الخاص وملامحها المميزة ، وإنتماءاتها الأجتماعية .

وهذا الإرتباط المباشر مابين الممثل والماكياج والأزياء يساعده في تقمّص الشخصية المسرحية التي يقوم بأداءها ، فمن خلال هذين العنصرين الماكياج والأزياء يذهب الممثل الى عوالم الشخصية ويتلبّسها بأداءه الذي يساعد على إبرازه الماكياج والأزياء ، فإرتداء الزي المسرحي ووضع المساحيق ورسم الوجه تُصبح عند الممثل منطقة حساسة وحاسمة يعبر من خلالها الى عوالم الشخصية التي يجسدها على خشبة المسرح ، إذ يستشعر المتفرج الجو العام والتلون العاطفي والشعوري الذي توحي به الوجوه والأجساد المرسومة . وحسب قول ستانسلافسكي للممثلين ، إنكم لاتمكيجون وجوهكم ، بل تمكيجون أرواحكم الداخلية ، وذلك إنطلاقاً من أن المشاعر عند الممثل إنما تنطلق من الداخل ، وليس من الخارج ، فالممثل ينبغي أن لايكتفي بدهن وجهه بالمساحيق ليجعله مقارباً للشخصية المطلوب أداؤها بل عليه أن يتصرف ويسلك فوق الخشبة على وفق ماعليه الماكياج اذا كان شيخاً أو شاباً ، حيث أن حركة الشباب ليست كحركة الشيخوخة ..الخ .

إن إرتباط الماكياج بالزي المسرحي يأتي في وحدة تشكيلية واحدة حيث يستخدم كِلا العنصرين الألوان والخطوط في إبراز القيم الجمالية الخاصة بهما وهذا بدوره يجعلنا نرى مقدار العلاقة المتشابكة بين هذين العنصرين مع المنظر المسرحي والإضاءة فكلاهما أيضاً من العناصر التي تسهم في تكوينهما الخطوط والألوان ، فديناميكية الماكياج والزي المكتسبة من حيوية الحركة والتعبيرات المتاحة لهما عبر الممثل تتكامل جماليـاً مع شكل المنظر المسرحي وبالتـالي مع الإضاءة التي تُعمّق التعبير الدرامي والجمالي لجميع العناصر ، فالماكياج والأزياء جزءان مكملان لعنصري الديكور والإضاءة ، وذلك لأن كُلاً منهما يمثل شفرة تستخدم الخط واللون وطراز التصميم الزمني في إرسال مجموعة من الأفكار والمفاهيم الى المتفرجين ، وبهذا المعنى يمكننا إعتبار الماكياج والملابس إمتداداً تشكيلياً متحركاً للمنظر المسرحي ، وفي بعض الأحيان يتم توظيف الماكياج بشكل مغاير أو معاكس في أداء الفعل للشخصية المسرحية ، حيث تُقلب الأدوار ظاهرياً في إبراز الشخصية بملامح لاتعكس واقع تصرفاتها وسيرة حياتها من ناحية كونها شخصية خيّرة أو شريرة ، وهذا بدوره يخلق بعض التوتر العاطفي لدى المتلقي من خلال التناقض الذي يخلق مستويات جمالية جديدة في النظر الى العرض والشخصيات وذلك إنطلاقاً من أن الشر حين يتقنّع بالجمال يُصبح أشدّ فتكاً وأعظم خطراً . ومن جهة أخرى بالإمكان الإستغناء عن الماكياج في بعض الأحيان ، وهذا يعتمد على مهارة الممثل وتمكنه من أدواته التعبيرية في تقديم شخصية تكبره في السن أو تصغره ، وذلك عبر إيحاءاته وتميّز أداءه وتأثيره في الجمهور وإقناعهم بما يقوم به .

أما القناع فهو أداة تعبيرية مكملة للماكياج وللأزياء في وقت واحد ، أو هو بديل عنهما في بعض الأحيان وهو يتوسط فيما بينهما ، ويعود بأصوله التاريخية الى المسرح الأغريقي حيث ظهر أولاً ، ويكتسب القناع قيمته الجمالية من شكله الذي يظهر عليه وتوظيف هذا الشكل في العرض المسرحي والمعنى الذي يعبّر عنه ، والقناع يكون بعدة أشكال تعبيرية ، منها ماهو ديني ، يجسّد حلول الألهة في البشر ، كما كان مُستخدَماً في مسرح القرون الوسطى ، ومنها مايُستخدم لإخفاء ملامح معينة أو أقنعة للتنكّر ، كما نلاحظـه في مسرحيات الأقنعة في حفلات البلاط الإنكليزي ، أوأقنعة تملك تعبيراً محايداً أو ضاحكاً أو باكياً يُعبّر عن الحزن الذي يكتنف الشخصية ، فالقناع يتوسط المساحة الفاصلة بين الملابس المسرحية والماكياج المسرحي وقد يكون في بعض الأحيان ستاراً خافياً للوجه يخلو من أي تعبير وقد يكون أحياناً صورة لآدمي أو حيوان أو مخلوق ما ، وقد يكون القناع كاملاً ، أو نصفياً أو يغطي العيون فقط ، وفي بعض الأحيان يغطي الأنف وحده ، ويكتسب القناع تنوعه – إضافة الى شكله – من خلال مادة صنعه ، كأن يكون مصنوعاً من الجلد أو من قالب جبس أو من الورق والكارتون أو القماش . وكانت الأقنعة تُستخدم أيضاً في الكوميديا ديلارتا وتعبّرعن شخصيات نمطية محددة ومعروفة مسبقاً حسب وضعها الإجتماعي ومكانتها ودورها في العرض المسرحي آنذاك .

المصدر/ محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *