غروتوفسكي.. مسيرة ثرية نحو المسرح الفقير

غروتوفسكي.. مسيرة ثرية نحو المسرح الفقير

عندما يتحدث المسرحي البولندي الكبير غروتوفسكي (11 أغسطس 1933- 14 يناير 1999)، عن تجربته ورؤيته المسرحية الشخصية، نجده في أغلب الأحيان يبرز دوماً دور أولئك الذين عمل معهم، والذين كان لهم الحضور الفعلي في إنماء أبعاد تلك التجربة في الواقع العملي، وقد تحدث عن مجموعته والأفراد العاملين معه، في أكثر من موقع، مؤكداً خصوصيتها وطبيعتها المتميزة، كأصغر فرقة عملت في الوسط المسرحي البولندي في بداية الستينيات من القرن الماضي.

في حديث له في برنامج تلفزيوني مخصص لتجربة «مسرح المختبر»، تم بثه في سنة 1992 على القناة الثالثة للتلفزيون الإيطالي، يؤكد قائلاً: «جاء أغلبنا من مدن كبيرة إلى مدينة صغيرة، فقد جئت أنا من مسرح رسمي، يعد أحد المسارح التقليدية والمتميزة في مستواها الفني الرفيع، وأغلب الممثلين جاؤوا من مدن كبيرة أخرى، وكانت تلك أشبه بمغامرة مجنونة، ومخاطرة قام بها كل واحد منا، كنا نشبه الجماعة المنتفضة في مواجهة المسرح الرسمي، وكل واحد منا كان يشبه الفوضوي المتفجر في أحاسيسه، المتدفق في أفعاله، وكان ذلك هو غاية الصعوبة، لقد كنا نشبه عصابة، أو جماعة من العصاة، وذلك شيء يصعب وصفه».

يقول: «وضعنا لأنفسنا في ذلك الوقت نظاماً صارماً للعمل الداخلي، وذلك من أجل تحقيق برنامج الفرقة، وكان ذلك النظام الصارم يدعى في الوسط المسرحي آنذاك (نظام الصومعة في مسرح المختبر)، وكان ذلك فعلاً نظاماً صارماً وحديدياً، وضع من أجل الإبداع، وكل ذلك منحنا نوعاً من الإحساس بما يشبه الانفجار».

واجهت فرقة «مسرح المختبر»، تهكماً عنيفاً من الوسط المسرحي الرسمي في بولندا، وخضعت لرقابة مشددة من قبل المؤسسات الرسمية، بل كانت مهددة في أكثر من مرة، بغلق أبوابها وقمع نشاطها الفني، وخنق صوتها، لكن عصامية غروتوفسكي ومقاومته العنيدة، مع رفاق عمله (البعض منهم لم يحتمل ذلك الضغط وتلك الصعاب، وتخلى عن المسيرة)، جعلتا تلك المجموعة من المبدعين تواصل تلك المخاطرة العجيبة في المسرح، ومن ثم تستطيع أن تفرض نفسها وحضورها، من خلال إبداعاتها المتميزة.

تمكنت التجربة من أن تتجاوز الحدود المغلقة لبولندا، في تلك الفترة المتأججة بالصراعات الأيديولوجية، وأن تصل بإشعاعها الفني إلى مختلف أنحاء العالم، خصوصاً في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وهكذا استطاع غروتوفسكي ومجموعته المسرحية أن يواجه نمطية وقوالب المسرح التقليدي المؤسساتي، وأن يفلت من قبضة السياسة الثقافية المرسومة من قبل الدولة (الاشتراكية آنذاك)، واستطاع في الوقت نفسه أن يعمل ويبدع بعيداً عن الصناعة الثقافية والإنتاج الاستهلاكي السائد في الواقع المسرحي في أوروبا الغربية.

بعد أن بدأت تلك الفرقة الصغيرة بالعمل على هامش واقع المسرح الرسمي، استطاعت ومن خلال بحثها المتواصل وإصرار وعصامية معلمها ومرشدها الفني والروحي غروتوفسكي، أن تطرح نفسها كنوع من المسرح الموازي لثقافة مضادة للثقافة الرسمية، كثقافة فاعلة توغلت في ثنايا المسرح وحيثياته بشكل عملي وجدي، وأن تسهم في تغيير الكثير من المفاهيم والممارسات المسرحية، التي كانت سائدة آنذاك، خصوصاً في مجال فن التمثيل وإشكاليات العرض المسرحي.

تحدث غروتوفسكي في كتابه المشهور «نحو مسرح فقير» عن مرجعياته في التطبيقات العملية والنظرية في المسرح والثقافة الأوروبية، مؤكداً تأثره المباشر بالمعلم الروسي ستانسلافسكي بالدرجة الأولى، وقد انطلق من أرضية عالمية ومن تراث عملي، من جذور مسرحية ثقافية محددة، أكد هو نفسه على اعتبارها تراثاً غربياً، استقى منه تقنياته ورؤيته الفنية الشخصية، وواجه على مدى مسيرته الفنية والإنسانية تراثاً لشعوب أخرى من قارات غير أوروبية، واعتبر ذلك تجربة مهمة من أجل تنشيط ثقافته الشخصية.

لم تنطلق تجارب ورؤية غروتوفسكي الفنية والمسرحية من أفكار مجردة، ولا من صيغ ثقافية عامة، ولا هي محض ولادة خياله وإبداعاته الشخصية فحسب، بل هي وليدة تجربة عملية وحياتية فنية، تمت في واقع محدد ومع أفراد وجماعات حية، أسهمت معه في بناء تلك الرؤية، ومن خلال البحث والتقصي للأمور التي كانوا يطرحونها على أنفسهم، وكانت تطرحها عليهم ضرورات العمل الحيوي والعضوي، وجاء كل ذلك في ارتباطه بتراث حضاري وثقافة روحانية منفتحة نحو الثقافات الأخرى، وهذه السياقات تعكس لنا طبيعة نمو مسيرة البحث الذي انطلق من المسرح الدرامي الفني، ليصل إلى البحث في ثنايا عالم الطقوسية والمسرح، وجاء ذلك أيضاً مرتبطاً برؤية فنية أنثروبولوجية متجذرة في التراث البشري.

– : http://www.alkhaleej.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش