(عين) كريم جثير في (الأقنعة) ومسرحيات أخرى – العراق

   علاقتي بمسرح كريم جثير تعود لفترة بعيدة، منذ أيام مسرح الشباب والأكاديمية في بغداد، عندما كانت عروضه هو وأسماء أخرى تشكل عصب التجريب المسرحي في العراق، والتي خلقت حسب رأيي مناخاً جذرياً لتأصيله في مناخ الذائقة العراقية الصعبة، والصعبة في آن واحد في إيجاد القدرة على تجاوز القديم والإقناع بجدوى العملية وتتابعها، وهي فيما نعلم أشد الأمور صعوبة في التوفيق بينها أمام المشاهد والمثقف العراقي. هذه التجريبية التأصيلية في المسرح التي تشكل أمتداد لتجارب قاسم محمد وصلاح القصب وعوني كرومي وأسماء اخرى حاضرة في ذاكرة المسرح العراقي المعاصر.

   وأحسب أن كريم جثير نجح فيها آنذاك، تجديداً وتركيزاً لأسمه. كما استطيع أن اؤكد نجاحه فيما بعد خروجه من العراق وتجاربه في اليمن محطته الأولى خراج العراق وفي كندا حيث يقطن اليوم، مع التأكيد إنني لم أطلع على نتاجاته ممسرحة منذ وقت طويل، ولكن احتكاكي المباشر بالفنان والكاتب جثير وقراءتي لنصوصه، حتى قبل نشرها، يجعلني على دراية وتأكيد فيها.

   يطلع علينا أخيراً كريم جثير (بغداد 1961) بنشر مجموعة منتخبة من نصوصه المسرحية بعنوان (الأقنعة ومسرحيات أخرى) بعد انتظار ليس بالقصير، وهي انتخابات ذكية، متنوعة، وتمنح القارئ انطباعا كلياً عن ماهية أغراضه المسرحية، تجريبيته، طرحه للموضوع وذائقته المسرحية والإنتاجية في آن واحد. إن انشغاله وهمه المسرحي، جعله ليس كاتباً لنصوصه فأحيانا ممسرحاً لبعضها، بل أنه أتجه ويتجه لنصوص الغير كما في مسرحياته كمخرج لنصوص عبدالرزاق الربيعي و عبدالعزيز المقالح مثلاً،ومشاركته بها في مهرجانات عربية وعالمية مثل (Ripple Effect ) ،وأيضاً دون أن أنسى حركته المغايرة في إيجاد صيغ تمكين لنماذج مسرحية غير مألوفة في بيئتها أو تكاد تكون دون أساس مسرحي كما هو الحال مع فكرة تأسيس مسرح المقيل في اليمن.

    في مسرحيات كريم جثير الكثير من المزج بين التوصيف العملي للإخراج المسرحي وبين لعبة التوظيف الحكائي للمسرح المباشر. ولأضع كلمة (مباشر) بين قوسين لأنها لا تعني وظيفة المباشرة، القاسية الحكم، أو الجافة الوقع في عرف قارئنا العربي، لأنها تعني أكثر من ذلك بكثير. فهي بالنسبة لي تعني التماس المباشر مع المواجهة، وتعني الرغبة بالكشف علناً، وتعني وضع كل شيء أمام الجمهور. فنصوصه تلعب على هذه الوحدة الضيقة ـ المتسعة في آن واحد. لأنه يؤسس لنصوص مزدوجة المهمة، مزدوجة المعنى، وذات وجهتين، أجدهما أغلب الأحيان متحدتين في الجذر، مختلفتين في التقييم. اتحادهما في غايتهما المسرحية المؤسِسة، واختلافهما في تبنيهما من قبل مخرجهما  على خشبه المسرح. وهو ما أعني بهما (انكشافهما الصعب) أن جاز التعبير في مد خيوطها وتوظيفه في (نص مُشاهَدْ)، نص يقرأ على خشبة المسرح، وفي الوقت نفسه نصاً حكائياً منفصلاً وقابلاً للقراءة حتى دون باعث لعرضه على المسرح.

   إن غاية كاتب مسرحي مثل كريم جثير هو في جعل النصوص نصوصاً تامة بذاتها، ونصوصاً ـ كذلك ـ قابلة للتجاوب والاختلاف والتصنيع من قبل آخرين على خشبة المسرح، والتي تصبح في نفس الوقت عملية مماحكة وتجاذب معها عند تقديمها، و احسب ذلك ينطبق على عمل كريم جثير نفسه إثناء تحويل نصوصه المكتوبة على المسرح أيضاً.

   لا تخرج أغلب نصوص (الأقنعة) عن غرضها التوظيفي في منح المتعة والهدف المسرحي الأكاديمي. نصوص تجرح الوحدة الفاصلة بين هذه وتلك وتحاول المراوحة بينهما في جذب وتنافر.

  ومنها ما جعل كريم جثير نفسه يتجرأ دون أية واقعة مسبقة، بتسمية بعضها (سيناريوهات مسرحيات) ولا يخفى ما وراء معنى سيناريو، خاصة داخل مجرى التوليف والصنعة المسرحية من داخل تركيبة المسرح كمكان للعرض. إن الإطلاع وقراءة نماذجه المسرحية  في هذا الكتاب وهي: بروميثيسوس، الجنرال والعاصفة،مرايا محسن أطيمش، محاولة خروج المهرج من دائرة الضحك والبكاء ودخوله دائرة السؤال، و شهرزاد يمنحنا قدر أكبر من تفهم هذا النموذج المسرحي الذي يتراوح بين التطبيقي كحرفة مسرحية وبينها كنصوص تامة تتخذ من القص مراد أساسي لتبيان الأثر الإستعراضي.

   إن طابع نصوص كريم جثير التي تتخذ من التراجيديا موقعاً وليس واقعة، تمزج ما بين الأدوار بحرفية متميزة، وهي على هذا لا تقع في فخ التجاذب الحواري، بقدر ما تسعى لأمتلاك الجذر الرئيسي في المعضلة. إن كوميدا كريم جثير لا تنفك مرافقة لشخصيات نصوصه المسرحية، ولكنه كوميديا سوداء، قاسية، بل وجافة إلى درجة الإنهاك. إن نص (أنت منْ أنت؟) يمتلك مقومات النص الفاضح، الإيحائي، المبطن، وعلى هذا ليس لشفراته سوى محدودية في الطرح ليتسع هذا الحد إلى شكل من أشكال العبثية واللاجدوى والتناطح في فضاء أنساني مربك. والحال على العدمية، نجدها في مسألة التذكير والتكريم أزاء القدر والموت أكثر تماسكاً وغنى في واحد من أجمل نصوص الكتاب وهو (مرايا محسن اطيمش)، عن محنة المثقف ووعيه في مواجهة الهول والدمار.

   إن ملوك وشعراء ومجانين وجنرالات ونساء وشرطة وحكماء، ما هي إلا نماذج غير منتخبة، نماذج تبدو كأعادة أزلية ولكنها تمهد لغرض الشرط المسرحي لدى كريم جثير. نماذج حية، لاصقة بثبات للأرض، وممهدة للكشف، ومغرقة في واقعية تأمل بالمعنى أكثر من الغاية، رغبة في الصد والهجوم، المباغتة والاحتراس، الابتعاد والاندماج عن ما يشكل وما يفرق. إن اللعبة تغوي، وحبلها الرفيع، يسيرنا عليه (المخرج ـ الكاتب ـ الرائي) لبيان محنة النص ومحنة الوجود الإنساني، على ورقة في كتاب، أو على خشبة مسرح لا تتعدى انطباق كفين من رؤية مشاهد من ضمن زاويته، أياً كانت تلك الزاوية.

الكتاب: الأقنعة ومسرحيات أخرى تأليف: كريم جثير الناشر: نينوى للدراسات والنشر/دمشق/ 2001.

—————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني – عبدالهادي سعدون

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *