عين على المسرح -فـــ…لــحـيــط للمسرح الجهوي سيدي بلعباس إسقاطات سياسية جريئة وطرح فنيّ واعد – بــقـلـم : عـبـاسـيـة مـدونـي- سـيـدي بـلـعـباس – الـجزائــر

 

 

في باب الانتاجات المسرحية الجديدة للمسرح الجهوي سيدي بلعباس ، رفع الستار عن العرض ما قبل الأول لمسرحية ” فــ…الحيط “ ، عن نص لــ” أحمد بن خال ” وتصميم العرض لــ” جريو عبد القادر” ، مع استشارة فنية لــ” حمزة جاب الله” ومعالجة درامية لـ” يوسف ميلة ” .

العرض المسرحي جسّد شخصياته لفيف من الشباب ، مع سينوغرافيا ذات دلالات إيحائية وأبعاد واضحة الاتجاهات والرؤى ، من حيث تساوق الطرح الدرامي وتوظيفهم   لها ، سينوغرافيا لـ” يوسف عابدي” ، قدم من خلالها المخرج إسقاطاته ، وموسيقى لـ      ” صالح سامعي” ، أين كان التناغم واضحا للعيان ما بين الممثلين والجوقة في شكل الفرقة النحاسية المكونة من ” بن حبيب محمد ” ، ” رابح سيدهم” و” بلعمري قاضي“.

المباشرة والرمزية تقنيتن برزتا في العمل المسرحي مع إدارة للممثل وازنة واشتغال على أدواته ، “فـ…الحيط” عرض مسرحي عرّى الوقائع والآني والراهن بأسلوب كوميدي محض ، تخللته التراجيديا في احدى المشاهد لتترك الجمهور لبرهة في عملية تأمل وتوافق وإعادة نظر في كل طرح سابق ، وكيف أن أمانينا ، طموحاتنا وآفاقنا جميعها بالحائط ، نتاج سلطة قوية ضاربة ، وعسكر يحكم قبضته في زمن الحريات المغلوطات ، حرية تعبير مقموعة ، ممارسة لحياة بمعايير الآخر وفق توجهاته وتوقعاته بمنأى عن حاجته القصوى لفسحة من الأمل والتعبير عن آرائه بكل أريحية دونما خوف من الضغوطات الداخلية أو الخارجية .

العرض وضعنا أمام واقعنا المر بأسلوب تهكمي صارخ ، حيث كان الخطاب المسرحي بلغة واضحة غير منمّقة ، لغة مباشرة وواضحة الاتجاه ، كشف العرض عن تلاعبات السلطة وعن إيمانها العميق بسماكة جدرانها ، ظنا منها أن الآخر ممثّلا في الشعب لن يتجرأ يوما ويفتح فاهه للمطالبة بحقوقه الشرعية في ظل تبعية في عزّ الحرية المزعومة ، العرض وبالرغم من أسلوبه الكوميدي إلا أنه قاد المتلقين إلى الوقوف عند ألف علامة استفهام وهو في عزّ الفرجة ، إطار بستائره الحمراء كان بؤرة اللعب الدرامي حيث أصحاب السلطة والجاه والقوة الضاربة في المجتمعات تداري نقصا فادحا وتتسر وراء القوة والجبروت والديمومة .

كان كل من ” الدايم ” و” الطبيب ” و” مول النية ” ثالوث الصراع الدرامي ، لتكون كفتيه كل من ” أبو بكر بن عيسى” و” أحمد سهلي” الثنائي الذي عزّز بؤرة الصراع وتفشي الإشاعات التي تحاك هنا وهناك لإشعال فتيل الفتنة المنتظرة بأي وقت وبأي مكان حتى تترك أثرها في زمن المصالح والتعاطي السلبي في الأفكار والنقاشات العقيمة ، رمزا للطبقة العاملة والتي تكدح في ظلّ كثير من الضغوطات والقوانين الجائرة ، شخوص جمعت بين السلطة الرابعة ، وسلطة الجاه والمال ، وسلطة التحكم في الآخر ، سلطة العسكر ومعاناة كل كادح في الوجود ، أرق كل حالم رسم زواجه بالجدار ، رسم زوجته بالجدار ، جسّد حلم عرسه بالجدار ، وآخر كان مهتما بجدار متابعيه على الفضاء الأزرق ، كان السلاح سلاحا ذو حدّين ، سلاح الكلمة وسلاح الواقع ، سلاح الآني وسلاح القادم ، سلاح الحق وسلاح الباطل ، سلاح المبادىء والقيم وسلاح التبعية للآخر بحجة الانتماء إلى الصفوف ، صفوف السلطة مهما كان نوعها وشكلها.

وفي خضم كل تلكم الحلقة من اللعب الدرامي كان العسكري ” مربوح عبدد الإله” الأداة والعصا الضاربة الموجهة في وجه كل تمرّد مرتقب وفي وجه كل عصيان ، ليكون هو جدار الصدّ لكل أزمة من المحتمل جدا أن تتفشّى في ظل صمت عقيم سينفجر دونما إنذار مسبق .

” الدايم “ رمزية مجسّدة لسلطة تسعى للتعمير طويلا ، تكبس على نفس الشعب المغلوب على أمره، الكاتمة لصوت مطالبه ، شخصية أراد المخرج من خلالها أن ينقل لنا حالة كل من يملك سلطة الجاه والمال وسلطة الكرسي ، جسّد غبائه غير الواضح وكيف يطارد حلم الإنجاب ، إنجاب لسلطة أكثر قوة ، إنجاب لدستور أكثر قمعا ، ولربما إنجاب لقوة ضاربة من نوع آخر قد تكون خلفا في ظل المحتمل المجهول .

الطبيب” الشخصية الرصينة ، المجسدة لروح العلم والمعرفة ، لروح التفاني والإيمان بالعلم كمصدر هامّ للخروج من أية أزمة ، موافقته على كل شئ لم تك دوما تعني انتمائه ووفائه الشاهق ، صمته المبرر لم يك يوما قبولا بالواقع المعيش ، لأنه حينما تجرأ وقال    “ لا ” تمّ تجريده من كل الامتيازات ، بل ولفقوا له تهما ، والأكثر من ذلك تمّ تسريحه بوصمة عار ، قوله “ لا ” كلفه الكثير لكن بعد ماذا ؟ ” الطبيب” كان المشهد الوحيد الذي جسّد البعد التراجيدي ليس اعتباطا وإنما تأكيد على بعد المخرج على قيمة العلم والمعرفة للنهوض بالأمم من وحل التبعية والجهل .

 ” مول النية ” القوة الضاربة في العرض ، والارتكاز في الطرح ونما منازع ، تجسيد لقوة الجهل ، تجسيد للمزاعم المغلوطة ، للنيات الخبيثة التي ينساق ورائها كل من تزعزع إيمانه ، كل من لم يعد يملك ذرة ثقة في العلم ، قوة التبعية والتعاطي مع الجهلاء مهما كانت المناصب قويّة ومصيرية ، وكيف لصاحب مركز أن ينساق وراء جاهل ويخسر الكثير من القيم فقط لتحقيق مصائر ، يد الله فقط ترعاها ، قوة الخلط ما بين الجهل والأماني المنتظرة وما ينتج عنها من انسلاخ وتعرّي أمام الأهداف الكبرى ، وكيف لجاهل أن يقود أمما إذا ما سلّمت له زمام الأمور وصار قائدا لمصير أمّة بحالها .

إيقاع العرض كان عاليا جدا ، كان به انسجام وتناغم كشف عن قدرات ذهنية وجسدية وحسّ عال في التعاطي مع الجمهور ، “فـ…الحيط ” صراع قائم بذاته بين شخوص متباينة في الفكر والمستوى ،.

فالعرض مزج أكثر من مدرسة فنية ، إلا أن المسرح السياسي كان أهم رافد فني بالعرض ، ليكون قوة ضاربة للمطالبة بالحقوق والتعامل مع الاندفاعات الكثيرة والأبعاد الإيديولوجية للكشف عن جوهر القضايا حيّز النضال ، الأمر الذي جعل من العرض عرضا حقيقيا من عمق الحياة والتعامل مع النص بأسلوب حيوي ومرن ، الأمر الذي مهّد الطريق إلى  جعل المتعة الروحية والذهنية تصل إلى أبعد حدّ مع تحقيق الأبعاد التربوية والتعليمية  الهادفة بشكل مباشر دونما تعقيد ، فـ” بسكاتور “ السياسي وأنماطه المسرحية كان حاضرا في عرض ” فـ…الحيط” بأطره المسرحية واتجاهاته مع حنكة مخرج في شخص ” عبد القادر جريو ” في التعامل مع النص وفريقه الفني بإسقاطات واقعية ، تثير الكثير من الجدل وإعادة النظر في كثير من المحطات في واقعنا المأساوي المنمّق بـتقنية الجدار، فقد جعل من التسلية هدفا وقيمة في التعاطي مع مشاهد العرض ، محولا الركح إلى قاعة ميكانيكية في التوظيف الإيجابي للديكور ، ومكانا للمحاكمة وكثير من المعادلات في ظل الصراعات التي كانت قائمة بأسلوب ساخر ، واستخدامه الجوقة في شكل ( الفرقة النحاسية ) التي كانت محركا آخر من محركات العرض في عديد اللوحات .

صفوة القول ، أن عرض ” فـ…الحيط” قد تغلغل بشكل واضح ومرن في الحياة السياسية والاجتماعية للمجتمع ، وحقق استجابة عادلة مع الآخر في التعامل مع آفاقه وطموحاته ، وبتوظيف إيجابي لشتى الوسائل الإيجابية حقّق الإدراك والتجاوب والحسّ على أكثر من صعيد ، ناهيك عن الصيغ التعبيرية التي تساوقت والطرح الدرامي فكريا وجماليا .

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *