(عين) العرض المسرحي «آنسة ولاّ مدام»… تهمة أن تكوني (فتاة) في مصر

«عذراء حسناء هيفاء ولهاء دعجاء سمراء فيحاء، في العشرين من ربيعها الوردي، الزاهر المزدهر، تملك سيارة وفيلا ودار أزياء، ملفوفة القوام كغصن البان الأخضر الريّان. تطلُب زوجاً». هذه العبارات تتصدرها صورة زينات صدقي أشهر عانس في السينما المصرية، ليصبح الأفيش المُعبّر عن العرض المسرحي «آنسة ولاّ مدام»، الذي أقيم في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة، في السادس عشر من مارس/آذار، تزامناً مع يوم المرأة المصرية، وهو يوم ذكرى سقوط أول ضحية من النساء المصريات في ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني.
وبالمقارنة فالضحايا اليوم هن ضحايا مجتمعهن وأفكاره التي لم تزل تعْمَه في الجهل والتقاليد الموروثة، التي لا تمت للحضارة المصرية وطبيعة المجتمع المصري، بقدر ما تنتمي لطبيعة وتعاليم صحراوية، ضربت هذا المجتمع وشوّهته إلى أقصى حد، والتي تزداد توغلاً في التخلف كلما مرّ الوقت، فيصبحن ضحايا نظرة مجتمع ذكوري مقهور بطبعه، ولا يجد سوى المرأة يمارس عليها سلطته. والعرض نتاج ورشة حَكي تمثل مجموعة من التجارب الشخصية حول الضغوط الاجتماعية التي تتعرض لها الفتاة في مصر، والتي في أغلبها يتم التواطؤ عليها من الجميع، أو الصمت كعلاج أمثل .. التحرش، الاغتصاب، التمييز، جرائم الشرف، الزواج القهرى، الختان، العنف الأسرى، والاعتداء الجنسي. تم تقديم العرض من خلال مبادرة (بُصّي) التي تقوم بتوثيق قصص وحكايات حقيقية لتجارب الفتيات المصريات مع أسرهن ومجتمعهن، ويحاول تقديم هذه التجارب من خلال العروض المسرحية.

حالات منفصلة لحكاية واحدة

يبدأ العرض منذ توافد دخول الجمهور إلى المسرح، حيث تُسمع الأغاريد، ويحتل الخشبة سبع فتيات متباينات في السن والملامح، يرتدين الزي الأبيض، تجتلس إحداهن منصة العُرس (الكوشَة) أما الباقيات فيقمن بتزيينها لليلتها الموعودة.
همهمات وتعبيرات بالوجه والجسد، وكتم الضحكات عند استعراض ملابس الفتاة، التي سترسم من خلالها علاقتها مع زوجها المُنتظر. لتتصاعد بعد ذلك الأغنيات الشعبية ــ تؤديها الفتيات ــ اللواتي يتغنين بالشرف وحُسن تربية الفتاة، وقد وصلت إلى زوجها سليمة، ومن دون أن يمسَسَها سوء. ومن الاحتفاظ بالجسد وتقديمه كهدية لزوج في علم الغيب، إلى مأساة الختان، والرعب من رغبة مُنفلتة قد ترمي الأسرة بأكملها في غياهب العار، إلى حالات التحرّش وحتى الاغتصاب، والسكوت ومداراة الفضيحة، لأن الفتاة هي السبب بالطبع، فملابسها غير مناسبة، ربما ضحكت أو تمايلت في الطريق عند عودتها من المدرسة، وربما وربما، أما الرجل فلا جناح عليه.

الاحتفاء بالجسد والرعب منه

أن تعيشين حياتك لتهيبينها آخر عن طيب آخر. هذه هي النظرة الأساس للفتاة وحياتها، التي لا تتحدد إلا من خلال الجسد. وصايا الأمهات بأن يصبح الجسد ملكاً لصاحبه، بما أنه أخذ بناصيته، وفق قوانين وشرائع تتيح له التصرف به كيفما يشاء. وعلى الفتاة الرضوخ، بل والامتنان وتقديم الشكر.
المفارقة ما بين الاحتفاء بالجسد الأنثوي ومدى تأثيره، وما بين كونه مصدر رعب الجميع، ومحاولة قهره، بداية من الأسرة، ووصولاً إلى الزوج المُرتجى، الذي طالها الهوس به في البداية، والهوس منه بعد ذلك. حالة العورة المزمنة التي يريد الجميع التحايل عليها، مؤامرة غير مُعلنة يحيكونها في صلف.

العرض المسرحي

كان الحَكي هو النغمة الأعلى في العرض المسرحي، لأهمية وطبيعة الحكايات، التي ناقشت إحساس ومشكلات الفتيات في مصر، والسؤال المأساوي .. آنسة ولّا مدام؟ هذا السؤال المؤرّق والمخيف، لتبدأ من خلاله تحديد جميع العلاقات الاجتماعية بمجرد الإجابه عنه. مال العرض إلى التجريد والخطوط البسيطة، حيث يعتمد على الإيماءات والتعبيرات الجسدية للمؤديات ــ جميعهن لسن مُمثلات مُحترفات ــ إضافة إلى شريط الصوت الأكثر بساطة وتعبيراً، كصخب ليالي العُرس، أو لغط حديث النسوة. تبادلت الفتيات الأدوار ما بين الأم أو الجدة، أو الرجل، الذي دوماً ما يرى حالة من النقص في الفتاة يريد استغلالها وتذكيرها بها على الدوام ــ لا يختلف الأمر بالنسبة للرجل المثقف أو مُدّعي الثقافة، الذي يفوق في تخلفه الرجل العادي في الغالب ــ لإثبات مدى اكتماله الوهمي. ومع كل فقرة من الحكايات، ترسم الفتاة دائرة مغلقة تقف داخلها، وتبدأ في الحَكي، حيث لا فكاك مما يحيطها، هي الموصومة على الدوام من دون ذنب، فلا انتظار لارتكاب الذنوب.

ربما لطبيعة الموضــــوع، حيث التركيز على كل السلبـــيات الاجتماعية التي تعيشها الفـــتاة، منذ مولدها وحتى موتها، فلم يتواجد نموذج ذكوري واحد يميل إلى الاعتدال، حتى الحديث عن قصص الحب، يتم السخرية منه من قِبل الأمهات، فالكفاح والنضال وما شابه من كلمات الستينيات، يتم السخرية منها، وقد عانت الأم من هذه التجربة، ولا تريدها لابنتها.
ما يُقارب من الخمسين دقيقة هي مدّة العرض، يتم خلالها تكثيف جميع المشكلات والمعاناة التي تلقاها الفتيات في مصر، لنكتشف مدى المأساوية التي يعيشونها حقيقة، بعيداً عن قوانين خائبة، وفضائيات مزيفة، واحتفالات ومهرجانات صورية تدعو للرثاء.
حالة خانقة بالفعل، وما الدوائر التي رسمنها فوق خشبة المسرح إلا حلقات تضيق على الجميع ــ دوائر خوف ــ رجال ونساء تنازلوا طوعاً عن آدميتهم، طمعاً ورعباً من أي شكل سلطــــوي، سواء العرف أو التراث أو الدين، وفي الأخير السلطة السياسية، التي تبارك كل ما سبق، طالما يسير وفق هواها، ويحقق لها ما تتوهمه من استقرار.

محمد عبد الرحيم
القدس العربي

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *