عن مسرح الدمى، اللعب، والسياسة

رياض عصمت – الحرة

تغيرت قواعد اللعب في زماننا. يطلق على التمثيل في المسرح بالإنكليزية كلمة playing، أي “اللعب”. لطالما قلت لطلاب التمثيل: “العبوا للجمهور، لكن إياكم أن تلعبوا على الجمهور”. كنت أقصد ألا يسعى الممثلون الشبان إلى خداع الجمهور بأداء زائف، واستعراض المهارات أمامه لتلقيمه الأمور عنوةً كدروس ثقيلة على القلوب. الجمهور في الشرق الأوسط ذكي، يدرك بالفطرة الصادق من الزائف، مثل صائغ محترف يميز عيار الذهب 24 قيراطا من ذلك المطلي والمغشوش. لكن موضوعنا ليس لعب المؤدين الأحياء على خشبات المسارح، بل اللعب بمؤدين من خشب وقماش في ما يسمى “مسرح الدمى”، وهو ما يسمى أيضا “مسرح العرائس”، بينما يسمى في اليابان “مسرح بونراكو”.

في زمن مضى، كان كراكوز وعيواظ شخصيتين تركيتين متناقضتين بطبعيهما وسلوكيهما، تجسدَّان بأشكال مقصوصة من الجلد السميك، تحركها خفية من وراء شاشة مضاءة أسياخ معدنية رفيعة تمسكها بمهارة أصابع لاعبين مهرة، وكان يطلق على هذا النمط المسرحي اسم “خيال الظل” Shadow Theatre. استهوى هذا النمط المسرحي البدائي الجماهير العربية، وشاع في كل أرجاء البلاد التي استعمرتها الإمبراطورية العثمانية آنذاك. ظل اللاعبون الذين يحركون تلك الدمى الجلدية البدائية مختفين عن الأنظار ليتابع المتفرجون حركة الدمى من وراء ستارة بيضاء، ويصغون إلى تلميحات سياسية لا تخلو أحياناً كثيرة من ألفاظ نابية تنفِّس الاحتقان والغضب الشعبي من استفحال الفساد والاستبداد. بالتالي، لا يدعو للاستغراب أن مسرح خيال الظل قوبل برقابة قاسية ومتعنتة، فمنعت له عروضٌ بدت محرضة لوعي الجمهور الشعبي، كباراً وصغاراً، كي يدفع عنه الضيم، يستعيد الكرامة ويسخر من الحكام الظالمين والأثرياء المستغلين، على طريقة مسرحيات موليير الهزلية وكوميديا السينما الصامتة عند تشارلي تشابلن وأقرانه.

قبل أكثر من نصف قرن، حين كان والدي الراحل يصطحبني مع أختي وأخي إلى “مدينة الملاهي” في دمشق، كان أول ما يلفت أنظارنا لدى ولوجنا المكان مسرح دمى متواضع يقدم عليه لاعبون مختفون عن الأنظار شخصيتي كراكوز وعيواظ بقفازات تحركها أيديهم من الأسفل، وكان لحن “عزيزة” للموسيقار محمد عبد الوهاب يصدح عالياً ليصم الآذان. اللافت للنظر أنه كان من المحرمات أن يلمح الجمهور أولئك الذين يلعبون خلسةً بالدمى وينطقون بحوارها.أما في مصر، فظهرت نسخ مطورة عن مسرح الدمى أطلق على الشخصية المحورية فيها لقب “الأراجوز”، ومن هذا النموذج استقى الكاتب المعروف يوسف إدريس مسرحيته السياسية الشهيرة “الفرافير”.

أنتقل إلى المستوى العالمي، لأذكر أنني شاهدت نموذجاً راقياً لمسرح الدمى في مدينة سالزبورغ النمساوية Salzburg Marionette Theatre وذلك عندما اصطحبت زوجتي إلى عرض فريد من نوعه لم يسبق لنا أن شاهدنا مثله من قبل، هو أوبرا موزارت “الناي السحري” وقد جسدت بصورة أخاذة وغناء رائع يضاهيان بعض أفضل ما شاهدنا من عروض الأوبرا العالمية. أيضاً، كان اللاعبون هنا متوارين عن الأنظار ليحركوا دمى “الماريونيت” بخيطان خفية، فتلك ظلت قاعدة اللعب الأوربية السائدة في المسرح وفي الحياة لحقبة طويلة من الزمن، بحيث يتم تحريك الأقطاب المؤثرين في الجماهير بالخيطان الخفية كما تحرَّك دمى “الماريونيت”.

بالمقابل، تذكرت اليوم طرازاً عريقاً ومختلفاً لمسرح الدمى، إذ لاحظت أن موضته أحييت في القرن الحادي والعشرين، وهو الطراز الياباني المسمى “بونراكو”. مسرحيات بونراكو مختلفة عن كل ما سبق ذكره، فهي أعمال جادة، وليست كوميدية أو غنائية الطابع، بحيث اشتهر تشيكاماتسو كأعظم مؤلفيها التراجيديين عبر نصوصه الدرامية المؤثرة. في هذا الطراز – المنافس بقوة لطرازي “نو” و”كابوكي” المسرحيين اليابانيين اللذين يؤديهما بشر – يرى الجمهور دمىً ضخمة الأحجام، يصل الواحد منها إلى ثلث حجم الإنسان، يحركها بوضوح أمام أنظار الجمهور لاعبون ظاهرون للعيان يتشحون جميعاً بالسواد. مسرحيات “بونراكو” عادةً مأساوية، تنضح بالدم والدموع، وتختتم بنهايات تسبب رعشة الشفقة والخوف لدى المتفرج، محققة ما أسماه أرسطو “التطهير” في النفس الإنسانية. لكن هذا التطهير، في الواقع، لا يؤدي إلى أي تغيير، بل إلى مراوحة في المكان.

تغيرت قواعد اللعب في عصرنا إلى حد الانقلاب. ما كان يجري خلسةً في الخفاء على استحياء، صار يجري الآن في العلن دون خجل أو وجل. صارت السياسة الدولية تأنف من مسارح الدمى التي يجبر فيها اللاعبون على الاختفاء محركين هياكل شخوصها بقفازات أو بخيوط. نحن لا نرى اللاعبين في هذين النمطين، وإنما نرى آثار أفعالهم، فهم يتلاعبون بمشاعرنا ويتحكمون بوجداننا وهم مختفون عن الأبصار. أما عند اليابانيين، فلاعبو الدمى لا يأبهون بالتواري عن الأنظار، ولا يضيرهم انكشافهم متنكرين بالسواد، فهم يحركون الدمى الأكبر حجماً في العلن، من دون مواربة أو تستر. هكذا، أصبح فن “بونراكو” الياباني عالمياً في زماننا الراهن، وتغيرت قواعد اللعب بين الماضي والحاضر، ليكرَّس الثبات ويُنعى التغيير. ما أشبه “بونراكو” بمواقف المجتمع الدولي في عالمنا اليوم!

————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *