عندما يرفع الجبالي القناع عن المجنون ليكشف حكمته

بمناسبة احتفائه بمرور ثلاثين سنة على تأسيسه يعيد فضاء التياترو إنتاج مجموعة من أفضل أعماله ليعرضها خلال الموسم الثقافي الجديد 2016/2017 نذكر من بينها «مذكرات ديناصور» و«المجنون» التي قدم عرضها الأول مساء الخميس 9 نوفمبر الجاري بحضور مجموعة من المسرحيين والإعلاميين والمهتمين بالشأن الثقافي عموما منهم من شاهد النسخة الأولى من «المجنون» قبل عشرين عاما من إنجازها ومنهم من يكتشف هذا العمل وكأنه إنتاج جديد، وهو كذلك بشكل ما لأن كل متابعي عرض مساء الخميس أكدوا أن توفيق الجبالي لم يترك من النسخة القديمة سوى النص حاملا للعمل وركيزته الأساسية.
«المجنون» نص لجبران خليل جبران عرّبه أنطونيوس بشير وأعده مسرحيا وأخرجه توفيق الجبالي وقام بأدائه كل من مروان الروين وآمال العويني وفاتن الشاذلي وياسمين الديماسي أما الموسيقى فقد وضعها نجيب الشرادي وزكي حسين.
منذ حوالي عقدين قدم الجبالي «المجنون» المقتبسة عن نص للكاتب اللبناني والعالمي جبران خليل جبران المعروف بإرتباطه العميق بالقيم الإنسانية النبيلة ونزوعه إلى التأمل والتفكير في مصير الإنسان والكون ضمن رؤية فلسفية تعتمد على أسلوب أدبي رائع.
وكان الجمهور قد شاهد محاولة الجبالي أو مشروعه المسرحي بالفضاء ذاته ويعيد تقديمه (والعبارة للمخرج) «أولا لاعتزازنا به واستمرار نبضه في قلوبنا وثانيا لأن جبران خليل جبران ثري بإنسانيته المنسجمة مع كل الأزمان والمجتمعات ولأن كلماته مستقاة من الروح والوجدان وليس من فتات القيم الزائلة ولا من تعليقات الكتبة ومحترفي الحكم والمواعظ الدعوية».
ولأن المجنون هو من يجرؤ على قول الحقيقة والجنون هو الخطوة الأولى نحو التخلص من الأنانية كما أنه يربط بين الجنون والمعرفة بمفهومها الشامل فهذا النص صالح لكل العصور.
الجنون لدى جبران يختلف عن الجنون المرضي الذي يخضع إلى العلاج الطـبي فهو الجنون الذي يعبّر عن الانعتاق الفكري إلى حد التمرد عن السائد كما يعبّر عن عبقرية الإنسان في التعامل مع الأشياء والوجود… بإختصار جنون جبران هو الحكمة بعينها.
أعاد الجبالي هذا النص إلى الخشبة لأننا بحاجة إلى صوت يدعو لنا بالإنسانية، يدعو لنا بالرحمة، صوت يطغى على أصوات التسلط والإقصاء والجبروت، صوت نبوي روحاني، صوت «مجنون» يدعو لنا بالإنسانية…
ثمانون دقيقة تقريبا هي مدة عرض «المجنون» الذي انطلق بتلاوة نصوص حائرة تغوص في فلسفة الوجود وتتساءل عما هو جميل وقبيح، عن الحكمة والجنون، عن الإيمان والزندقة وما خفي من القول وما ظهر منه. تأتي هذه النصوص على لسان ثلاث فتيات بأيديهن صحف سلّطت عليها هالة من الضوء كإشارة أولى إلى النور الذي ينبعث من المعرفة، تأويل أو دلالة سرعان ما يأتي ما يقوّضها فهذا سيزيف يدحرج صخرته إلى أعلى بإصرار رغم إنهاكه وعسر المهمة على خلفية قول «لم أجد في الخلاص سوى جهلي… لكم من اللغة ما شئتم ولي منها ما يناسب عواطفي»… ومن هنا يبدأ التمهيد للمجنون/الإنسان المسكون بهواجس عصره.
حكايات قصيرة تأتي كمجموعة من الإشارات نسمع منها عن الرجل الذي تساءل عن وجود الآلهة من عدمها فيتهم بالزندقة ويرمى خارج البلدة وعن القبح والجمال حين التقيا على شاطئ البحر ونزلا للسباحة فخرج القبح قبل الجمال واستولى على لباسه ولما خرج الجمال من الماء لم يجد ثيابه فلبس ثياب القبح لأن حياءه منعه من السير عاريا، كما نسمع حكاية مدهشة عن رجل يرثي كآبته الميتة ولا يفرح لولادة مسرته…
هكذا تكلم المجنون من عالمه الغريب البعيد، عالم لا يقطنه سواه فطريقه غير طريقهم وما اختلافه عنهم سوى نتيجة عودته إلى حقيقته عندما أزاح القناع الذي لبسه قسرا فقبّلت الشمس وجهه العاري وهرب منه الرجال والنساء ونعتوه بالجنون لأنه صار مختلفا عنهم بينما هم يختبئون وراء أقنعتهم التي تحجب عنهم الحقيقة ودفء الشمس ونورها…
نسمع ضحكات تتردد في الفضاء، ضحكات مجنونة عابثة ساخرة تتحول الى رقصة أشبه برقصة الصوفيين في اتحادهم بالملكوت، يخبرنا بعدها المجنون عن إيديولوجيته التي لا تقف عند حدود الدين ولا تفرّق بين الفقير والغني «كلنا فقراء للمعرفة وحسبي أن أكون خادما مفيدا في هذا الكون».
تتحرك الأجساد ولا نكاد نتبين ملامحها، تلبس الأبيض كأنها بلا رؤوس ترسم في العتمة معان للكلمات الحاملة للكثير من الدلالات والعمق وتحملنا في رحلة داخلية نتساءل خلالها عن سبب وجودنا في عالم يقوم على العنف والزيف والحكم بظاهر الأشياء، ويأتي صوت الشاعر بعيدا:
«في الجزر كتبت على الشاطئ سطرا/ وضعت فيه ما بروحي وسبب وجودي/ وفي المد عدت لقراءة ما كتبت/ فلم أجد على الشاطئ سوى جهلي».
يعترف الشاعر بغربته وكم هي موجعة وقاسية، فهو غريب عن نفسه وعن جسده غربة تجعله يفكر في عالم آخر، وتضعنا في مواجهة الضآلة المرعبة للكائن البشري التائه في غروره.
لقد اختار توفيق الجبالي من كتاب «المجنون» حكايات لاذعة متهكمة تجسد المرارة والنقمة على الجهل والتحجر والإنغلاق، حكايات تخاطب إنسانية الإنسان وتدفعه ليعيد حساباته من جديد… هذا النص لا يخلّص الإنسان من حيرته بل يدفعه نحو حيرة أكبر وأعمق وأشمل.
في البداية تعتقد أن قوة هذا العمل تكمن في نصه الذي يتميز بالشمولية والكونية علاوة على عذوبته وانسياب لغته وجمالها لكنك بمتابعته تكتشف جوانب أخرى تمكّن المخرج من تفجيرها على الركح بما جهّزه من سينوغرافيا مدهشة اعتمدت على جملة من المؤثرات البصرية علاوة على تحرك الممثلين وحرفية أدائهم وتحركهم المدروس وفق كل مشهد/فصل من فصول «الجنون» على خلفية موسيقية متجانسة مع إيقاع النص… كل هذه العناصر شكّلت أبعادا جمالية زادت من عبقرية النص وحيرة المتابع حتى أنه عندما يخرج من فضاء التياترو مزدحما بالأسئلة وممتلئا بالجمال يتساءل إن كان توفيق الجبالي قد أسدل الستار إثر عرض «المجنون» أم فتحه؟

المصدر/ اليوم

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *