عندما تكون اللغة ساطعة، تصبح الكلمات، حتى الداكنة منها، نابضة بالحياة – محمد سيف#باريس

 

الخال فانيا على مسرح الأوديون
عندما تكون اللغة ساطعة، تصبح الكلمات، حتى الداكنة منها، نابضة بالحياة.
تدير سونيا ابنة البروفسور من زوجته الأولى، المزرعة مع خالها فانيا، الذي يعيش في الريف مع والدته وابنة أخيه وبعض الأصدقاء. سونيا فتاة قبيحة تميل إلى الوحدة. تحب سراً ودون أمل الطبيب أستروف، الذي يحب بدوره زوجة البروفسور المتقاعد، الشابة الجميلة إيلينا. خلال صيف حار جدا، يصل صهر الخال فانيا وزوجته الشابة الجديدة إيلينا، وفجأة، تتغير حياتهم اليومية، وتنقلب رأسا على عقب. تتفجر المشادات الأسرية، والأحقاد القديمة واليأس المرير الذي سوف يتفكك أمامنا على خلفية الزنا ومحاولة القتل في مسرحية أراد لها مؤلفها، تشيكوف أن تكون كوميديا. لا أحد هنا لديه أية أوهام حول مشاعره الخاصة أو حول من يحب. فالكل عالق في طريق مسدود بين المأساة والكوميديا البرجوازية.
يستأنف المخرج الفرنسي ستيفان براونشفايغ في هذا العرض، حالة الاختناق الموجودة في النص بشكل رائع. ويصور من خلاله الضحك والدراما بسمات بيكيتيه حيث الجميع يعيش في مستنقع الحياة القذرة، الرتيبة، وغير المثيرة للاهتمام. تصاحب ذلك دراما بيئية حديثة إلى حد غريب. في النهاية، إننا أمام نوع من التشظي العاطفي والنفسي المفاجئ، الذي يخلق مناخا سوداويا، يعري الشخصيات إلى أقصى حد، ويقول من خلاله كل شيء تقريبا: الشكوك، الضحك، الخوف، عطش الحب الذي لا يرتوي، الشعور بالخسارة المؤلمة، الحزن الرزين، والغضب الذي ينفجر في بعض الأحيان.
في تجربته الرابعة المستلهمة من المسرح الدرامي الروسي – بعد بستان الكرز، طائر البحر، والأخوات الثلاثة، اختار ستيفان براونشفايغ، مجموعة من الممثلين الخبراء، من مسرح موسكو للأمم، الذين بدت طريقتهم في التقاط النص، خالية من الالتباس والغموض. انهم نجحوا في تتبع جميع خطوط القوة التي تشكل أساس مسرح تشيخوف، والحزن بشكل معين، ولكنه، في الوقت نفسه، تشتعل به سخرية قوية. لم يسع المخرج في قيادته للممثلين، بكل دقة، إلى إغراق رأسيِّ فانيا وصوفيا تحت الماء، في الحوض الكبير الذي نصبه في وسط المسرح، لتدفق حالة الرثاء، ولدعم الكارثة الموجودة في المسرحية، بل اختار بدلاً من ذلك نوعاً من التحيز المدروس الذي لا يخفي أي شيء عن معاناة هاتين الشخصيتين، ولم يحاول جعلنا نتأسف على مصيرهما أيضا. وهذا ما شكل خطَ ذروة سمح للعرض بأن يكتسب قوة، وعاطفة، مع تقدمه.
قدم ستيفان براونشفايغ، مع فرقة الممثلين الروس، عرضًا يكاد ان يكون عصبيًا نوعا ما، مستوحى من مسرحية تشيخوف التي بقدر ما تهتم بتدمير الطبيعة، تهتم أيضا، بالمُثُل العليا وتحطم القلوب بشكل اكثر. ففي هذا العرض، أحيانًا ما تكون كرة الأوهام الضائعة مأساوية، وفي أحيان أخرى هزلية، أو في تأرجح كامل، حتى يتم قبول حقيقة الهزيمة، التي يجب هضمها واستيعابها وهي في انتظار الموت. في هذه ” الخال فانيا” الفرنسية الروسية، تتقطع القلوب مثل أشجار الغابة. فقد خلط ستيفان براونشفايغ بين الدراما الكارثية التي لحقت بالحياة وبين التصيد الحتمي والتقدمي للبشر. استخلص من نص تشيخوف المقاطع المزعجة التي تشهد على هيجان الطبيعة بسبب البشر. بحيث يصبح الطبيب أستروف في عرضه عالمًا إيكولوجيًا ملتزمًا. ولكي يبرهن على ذلك، أعطى الموضوع التشيكوفي تصورا وبعدًا جديدًا، نبوئيًا تقريبًا، ووضعه في مستوى ثاني كخلفية، لكنه جعل منه، في ذات الوقت، مرتبطا مباشرة في عالمنا الحاضر، وهذا بحد ذاته، ما برهن على أن تشيكوف في الواقع كاتب مسرحي معاصر. فالطبيب استروف يتحدث باستمرار عن تغير المناخ، وإزالة الغابات، واختفاء التنوع البيولوجي، وتدمير الطبيعة من قبل البشر. بالنسبة لجيلنا (…) قد تبدو كلمات أستروف ذات رؤية وبصير، كما لو أنه كان يتحدث إلينا – على بعد أكثر من قرن من الزمان – وحول عالم اليوم “، مثلما يقول ستيفان براونشفايغ.
إن العرض بمثابة قراءة جديدة سمحت لنا بالدخول إلى المسرحية بشكل مختلف، والتعامل معها من زاوية أكثر حداثة وقربا من اهتماماتنا. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية ليست مجرد نتيجة من نتائج التأثير البيئي الناجم عن النشاط البشري، وإنما عن طبيعة العلاقة بين “تدمير الطبيعة والإنسان”. ويبدو خطابها المسرحي، في هذه المرحلة، ينبثق من أطر واقعية للمناقشة حول هذه المشكلة ويتجه أو يتحول إلى تفسير فلسفي. ووفقًا للمخرج، فإن العلاقات بين الإنسانية والطبيعة التي أثارتها المسرحية قبل 100 عام نجد صداها في العالم الحديث، لأن الإنسان لم يتوقف عن تدميرها: (لقد قام الإنسان بتعويض نقاط ضعفه بذكائه، وقدرته على الخلق، وقدرته على صنع آلات تعوضه عن هشاشته. والمشكلة أن كل هذه الآلات تدمر اليوم. لذلك، ربما يمكننا أن نأمل أن يقوم الإنسان باختراع آلات لا تدمر وأن يكون هناك تقدم، وأن نتمكن من إعادة توجيه هذا الأخير والبحث العلمي في اتجاه حماية البيئة). يرسم المخرج بالتوازي بين تصوره لهذه الفكرة في العالم المعاصر وبين المجموعة الصغيرة لشخصيات مسرحية (الخال فانيا). فهو يُشبهُ من خلالها إلى حد ما، بين الخطابات البيئية اليوم وردود أفعال بعض الأشخاص الذين يواجهونها بالرد: ” عن ماذا تتحدث هذه الخطب؟”.
الخال فانيا، كوميديا مثيرة، اكثر الآمال فيها تكاد ان تكون موضع خيبة، معظم شخصياتها تنتمي إلى نفس العائلة، تحمل وزور الكسل أو اليأس، سيرياكوف الكاتب الأناني الذي تبجله أمه، يعيش كطفيلي، ويقضي حياته في التذمر والشكوى، مثل زوجته الشابة، إيلينا، التي لا تفعل شيئًا سوى البكاء. يوجد إلى جانبهما، سونيا وفانيا اللذان يديران شؤون أملاك سيرياكوف دون كلل أو أمل. وأخيرًا، هناك الطبيب أستروف، الذي لا ينفك عن القيام بملاحظات ساخرة حول تصرف الإنسان إزاء بيئته، والبحث عن نسيان ذلك في استغراقه بتناول الكحول. كون مأهول بمعرض من الشخصيات التي ابتلت بعذاب الحياة. من هم هؤلاء الرجال والنساء الذين يبحثون بيأس عن معنى يعطونه لوجودهم؟ أولاً، هناك الأكبر، الأستاذ القديم، الشخص الذي سيطلق شرارة دوامة الغضب التي تجتاح هذا العالم الصغير للعائلة. شعار المعرفة الخيالية التي كرس لها الخال فانيا وابنة أخيه سونيا وجودهما بشكل غير مباشر من خلال عنايتهما بعقاراته، وهو، المفكر، الذي يعود إلى منزل زوجته الأولى، والكبير في السن والمريض، لكنه لا يزال يتمتع بغرور أولئك الذين يدعون معرفة كل شيء. إلى جانبه، إيلينا الجميلة التي تزوجها في حفل زفاف ثاني؛ اسم مليء بالإثارة، يحيلنا صداه إلى تلك الفتاة التي تسببت في ويلات حرب طروادة في الماضي. هي أيضا، من خلال إثارتها ورغبتها في أن تكون محبوبة عن غير قصد، سوف تربك الرجال الحاضرين حولها، وتجعل حياة بعضهم تضطرب. لذا فإن الخال فانيا، الذي يتشبث برغبة قادرة على ملء الفراغ الرهيب لوجوده المهجور، ووهمه ببعض النجاح، سوف يشتعل من أجلها حبا. ولكن، ألم يُخدع مرتين وبشكل مخيف؟ أولا، لأن البروفسور، الذي أحبه، أجبره على دفن نفسه في هذا الريف لرعاية عقاراته- والذي يقدره علاوة على ذلك، وهنا يكمن الغموض في البطل التشيكوفي- في حين أن الآخر يتبختر في المدينة منغمسا بالأوسمة والتكريم المرتبط بمكانته الفكرية. وثانيا، لأن “هذا الرجل العجوز”، الذي اتخذ لنفسه زوجة شابة، كان لديه الشجاعة لانتزاع هذه المرأة المرغوبة إلى حد كبير منه. وهذا ما سيطلق شياطين الغيرة في داخله.” عندما لا تكون لدينا حياة حقيقية، فإننا نستبدلها بالسراب”، يقول فانيا، السراب الذي سوف يتعين دفع ثمنه باهظا… وبعد ان يفاجأ فانيا، بالقبلة بين الطبيب أستروف وإيلينا، يقوم بقطع رأس باقة الزهور التي كان على وشك تقديمها إلى المخلوقة التي كان يعتبرها الوحيدة القادرة على ملأ الفراغ الذي هو فيه. هذه هي الطريقة التي تسير بها الحياة لدى تشيخوف: عندما تستخرج الشخصية نفسها من الرغبات التي انخرطت فيها حياتها المتواضعة، وعندما تبدأ أخيرا في افتراض أن رغبة الحب وحدها القادرة على تجاوزها، فإن عقوبة الواقع موجودة هنا، لتخبره أنه إذا كان النضال جيدًا، فإن النتيجة ستكون كارثية. لذا فمن منطلق اقتناعه بالفشل الجوهري الذي تمثله هذه الواقعة، حيث كان يؤمن، ولو للحظة، في إمكانية تغيير مسار مصيره، يحاول وضع حد لحياته. إنه يصرخ ألما، ينهار بالبكاء، تتدفق آهاته مثل النزيف الذي لا يمكن أن يحتويه أي شيء. في حين أن منافسهُ، الطبيب أستروف، مختلف تماما، فهو ساخر ومليء بشغف حماية البيئة قبل أوانه، ولكنه أيضا سكير عتيد يجد في الفودكا بديلا للحياة. وبحضور إيلينا، التي تستسلم لإغراء الأفق الذي يسكن هذا الرجل، (فهو الوحيد الذي لديه رؤية للمستقبل، رؤية تتجاوز أفق الحياة اليومية)، سوف تشعر باندفاع عاطفي نحوه: (ما نحب في الآخر، هو رغبتنا الخاصة). لكن إذا كانت إيلينا قد منحته قبلة، فهي غير مستعدة أبدًا للتخلي عن الراحة الطقسية لوجودها. ثم هناك سونيا، ابنة اخ فانيا، من زوجة البروفيسور الأولى. إنها قبيحة وذكية وحنون، وتحترق بشغف وحب عميق للطبيب أستروف، ولكن هل يمكننا أن نعيش بدون هذا الشغف؟ كلمات سونيا الأخيرة – يجب أن نعيش! يجب أن نعيش! – تتكرر مثل فكرة مهوسة تغزو ميدان أوهام الحب المدمّر قبل أن يكون، وتتردد كترنيمة لمجد ذلك الذي تخلى عنهما، هي وفانيا، (الحياة، ببساطة شديدة، الحياة) … الحياة التي تحميهم من الموت الرمزي الذي سيشكل من الآن فصاعدا وجودهما، الخالي إلى الأبد من أمل الحب، إن كلماتها هنا، تأخذ لهجة خطبة جنائزية موجهة لها بقدر ما لخالها الذي، بعد أن توقف عن البكاء، وقبل بمصيريه، وتخلى عن المقاومة، اعلن: في السن الذي أنا فيه… دعونا نقول إنني سأعيش 15 سنة أخرى. هذا وقت طويل! كيف سأعيش هذه السنوات الخمسة عشر؟ وكيف يمكنني ملئها؟
لقد صمم المخرج ستيفان براونشفايغ سينوغرافيا حبس داخلها الشخصيات، والألم الملازم لها، مثل خطر يتربص بها. في بداية العرض، نشاهد سياجا خشبيا عاليا للغاية يحيط بمساحة اللعب، يسمح لنا برؤية رؤوس أشجار البتولا التي تملأ الغابة من مسافة بعيدة، سرعان ما يتحول هذا السياج إلى حاجز عملاق يمنع أي هروب نحو الأفق. في الفصل الأخير، يختفي الجزء السفلي من هذا التصميم، ليكشف لنا عن مجال للعزلة والخراب. حيث نشاهد أشجار البتولا المقفرة، والأشجار المدمّرة، مثل تلال القش، التي تنتشر على الأرض، على مد البصر. في الواقع ان المشهد الأخير من الخال فانيا كان ضاربا بقوته المتنافرة، خاصة عندما نشاهد في لحظاته الأخيرة، تداخل جسدي سونيا وفانيا، وهما فوق بعضهما البعض، عند ارتفاع الخشب المقطوع، وتبدو اذرعهما العاجزة بمثابة صدى مأساوي لموت معلن. السينوغرافيا الأفقية التي ابتدعها ستيفان براونشفايغ، من الخشب الرمادي الفاتح، والغابة التي تقف شاهقة في البداية ثم تنهار في النهاية، إلى جانب الإضاءة الجميلة، والموسيقى، والتمثيل البارع، أعطت الحركة والإخراج نبرة مختلفة عن جميع القراءات المسرحية التي سبقتها. كانت الشخصيات مسكونة بها، ومخربة عاطفيا. والتيار الحسي الشديد الذي يمر عبرها يعبر عن إحباطها وعدم الرضا الوجودي الذي يقودها إلى الحلم بالحب المستحيل. إنها تغرق، وتسقط في ماء الحوض الكبير وسط الخشبة، وهي تدفع بعضها البعض فيه، وترش نفسها بمائه في محاولة لاستعادة روحها ولكنها تغرق في سوء حظها من جديد. في النهاية يخرج الجميع، بعد أن تتلاشى الآمال، ولا يتغير شيء. تختم سونيا الصغيرة المسرحية بكلماتها الرهيبة: (ينبغي علينا أن نعيش بشكل جيد). وفي الختام نقول: عندما تكون اللغة ساطعة، تصبح الكلمات، حتى الداكنة منها، نابضة بالحياة.

محمد سيف باريس

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش