“علي الزيبق” يشن غارة على الفساد والعنف في مصر : شريف الشافعي

الكاتب يسري الجندي والمخرج محمود فراج يغامران في مواجهة مسرحية للحاضر، والعرض يتوسّل بوضوح لعبة الرموز والإسقاطات لفتح الأحداث على فضاء الواقع الراهن.

تشنّ مسرحية “علي الزيبق” للكاتب يسري الجندي غارة فنية على الفساد والعنف وتغوّل السلطة في مصر، وقد عُرضت حديثًا في القاهرة بمعالجة مبتكرة تحمل بصمات الشباب وروح المغامرة.

يصل المكر الفني إلى بغيته من انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة من خلال الإسقاط والترميز والأقنعة، حيث تنُوب الأساطير والعوالم الخيالية والأزمنة المنقضية والافتراضية عن الواقع الذي يهرب الإبداع من الإشارة إليه وتعريته بشكل مباشر، ربما بسبب التوجّس أو الخوف أو المحاصرة أو الحرج.

تبدو قصص الحيوانات في “كليلة ودمنة” وسير الأبطال الشعبيين في الموروث الشفوي المصري والعربي إدانة لقوى الشر والفساد والعنف لدى المتسلطين من البشر، بالقدر ذاته الذي تنصف فيه أهل المروءة والشجاعة والنبل من عامة الشعب، الذين لا يلتفت إليهم التاريخ الرسمي على امتداد صفحاته.

يصل المكر الفني إلى بغيته من انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة من خلال الإسقاط والترميز والأقنعة، حيث تنُوب الأساطير والعوالم الخيالية والأزمنة المنقضية والافتراضية عن الواقع الذي يهرب الإبداع من الإشارة إليه وتعريته بشكل مباشر

في هذا الإطار، تأتي مسرحية “علي الزيبق” للكاتب يسري الجندي (76 عامًا)، التي كتبها منذ أكثر من أربعين عامًا، وجرى عرضها مساء 24 سبتمبر الحالي على مسرح الحكمة في ساقية الصاوي بالقاهرة وفق رؤية مسرحية جديدة من إعداد وإخراج محمود فراج، وأداء ورشة شباب الأندلس “فرقة الدوبلير”.

يستنهض العرض على مدار خمس وسبعين دقيقة طائر العنقاء الذي لا يفنى بعد احتراقه وتحوّله إلى رماد، وهو هنا “علي الزيبق” البطل الملحمي المعروف، الذي يشهر أسلحته وحيله وألاعيبه في وجه السُّلطة الجائرة بمصر، ويشنّ غارة تكتيكية ومسرحية على كافة مظاهر الفساد والعنف في البلاد في عهد السلطنة المملوكية.

مبارزات الواقع والفن

تحتفي الإضاءة بالمصابيح الحمراء لتشخيص حالات الإثارة والتوثّب
تحتفي الإضاءة بالمصابيح الحمراء لتشخيص حالات الإثارة والتوثّب

يخوض عرض “علي الزيبق” في ثوبه الجديد مبارزة فنية، كتلك التي خاضها الشاب علي الزيبق وأمه فاطمة الفيومية وفريق الانتصار للحق والعدل والخير خلال أحداث العرض، في مواجهة دائرة الفساد مكتملة الأركان (السلطان، العسكر، العسس)، والتي يمثلها المقدم سنقر الكلبي، المسؤول عن حفظ الأمن، والمقدمة دليلة العراقية.

هذه المعركة الفنية، يواجه العرض فيها الماضي، الذي يحفل بمعالجات ورؤى درامية كثيرة ناجحة لحكاية علي الزيبق، مسرحيًّا وإذاعيًا وتليفزيونيًّا، فضلًا عن روايتها على مدار سنوات طويلة من خلال شاعر الربابة والحكّائين الشعبيين الذين كانوا يدورون على المقاهي، الأمر الذي أدّى إلى حفر الملحمة في الوجدان الشعبي المصري، وكأن أبطالها حقيقيون، وأحداثها واقعية.

تلخص سيرة علي الزيبق ما يمكن وصفه بتجربة اللص الشريف أو المحتال النظيف، الذي يأخذ على عاتقه الانتقام لأبيه المقدم حسن راس الغول، صاحب الأفكار المثالية عن العدل والمساواة ومراعاة الشعب وفرض النظام بالحق، والذي غدر به سنقر الكلبي وأعوانه من قوى الشر لينفردوا بالسلطة، وليقيموا دولتهم على الاستبداد والطغيان وإهدار الكرامة الإنسانية.

يتقمّص الشاطر علي كل الأدوار والشخصيات، ويرتدي كل الأقنعة التنكرية، ويحمل سيفه تارة وحيله وألاعيبه الذكية تارة أخرى، ولصوصيّته المشروعة أيضًا في أحيان أخرى (لأن الجزاء من جنس العمل)، ويمضي مُشهرًا أسلحته في وجه معسكر الشرّ بقيادة سنقر الكلبي، الذي يجسّد المقولة الشهيرة “حاميها حراميها”، وكلما أوشك الزيبق على السقوط والانكشاف، ظهرت أمه فاطمة “رمز الوطن” لتنقذه وتحرره، فينهض من رماد كطائر العنقاء، وينخرط في مناورة أخرى حاملًا آمال المستضعفين جميعًا الذين وكّلوه للدفاع عنهم.

مثلما أن الزيبق ورفاقه ينجحون في زعزعة استقرار قوى الظلم السائدة، فإن معالجة “علي الزيبق” الحديثة تحمل على عاتقها بوعي وحساسية محاولة خلخلة الملحمة التقليدية وعروضها الدرامية السابقة من خلال تفاصيل الأحداث المروية، وإسقاطاتها وإحالاتها الراهنة، وأيضًا من خلال العناصر والتقنيات ووسائل الإبهار المسرحية.

أرواح وأجساد

يستنهض العرض طائر العنقاء في لعبة ترميز لا تخفى على المشاهد
يستنهض العرض طائر العنقاء في لعبة ترميز لا تخفى على المشاهد

يتوسّل عرض “علي الزيبق” بوضوح لعبة الرموز والإسقاطات لفتح الأحداث على فضاء الواقع الراهن، فمنذ البداية هناك حشد من المتقنّعين الذين يخفون وجوههم الأصلية ويعيشون في زمن الـ”هناك”، ثم يكشفون وجوههم لتمضي الوقائع كلها كأنها في زمن الـ”هنا”.

هناك أيضًا الراوية، الذي يحيل إلى الحكّاء الشعبي في الموروث الثقافي الشفوي، وهذا الراوية في سرده لسيرة الزيبق وما جرى وسيجري له يخاطب جمهور المتفرجين بوصفهم يشاهدون أنفسهم ويتفاعلون مع حياتهم الملموسة، ويبلغ هذا التطابق بين المحكيّ التاريخي والحاضر المعيش ذروته في ختام المسرحية، حين يسقط الزيبق في أيدي الأعداء قبل أن تخلّصه أمه فاطمة، إذ يصيح المنادي في المتفرجين مستنفرًا همتهم ويقظتهم وتمرّدهم على الأوضاع السائدة “قوموا بقى.. فوقوا يا بشر”.

جاءت سينوغرافيا نجلاء عبدالقادر من ديكور وملابس لتهيئ العيون لمتابعة لقطات من عهد السلطنة المملوكية، على المستوى الجسدي، فالمكان مزدان بالأرابيسك والزخارف العربية، والسلالم والأسقف خشبية مزركشة ومرقوشة، والملابس وأغطية الرؤوس والسيوف والمعدّات وغيرها منتمية إلى زمن الملحمة التاريخية. أما لغة العرض، بمعنى روحه وليس فقط عباراته المصوغة بالعامية المصرية، فهي لغة العصر الحالي.

هذه الروح العصرية أراد لها صنّاع العرض أن تقوده إلى مداراته الحقيقية في هذا الزمان، ومن خلال أحد الاستعراضات الغنائية الراقصة التي يحفل بها العرض، تتحرر هذه الروح من جسد الحكاية القديمة الضيق، وتدبّ الأقدام على الأرض معلنة السخط والاعتراض، ويطلق الممثلون جميعًا أنشودة الحرية من تأليف أحمد فؤاد نجم وألحان الشيخ إمام “يا شركسي يا أبوبندقية/ لا دين لا ذمة لا إنسانية/ كرباج في إيدك والناس عبيدك”.

تقنيات مسرحية جديدة

تقنيات ووسائل مسرحية متطوّرة أثرت العرض
تقنيات ووسائل مسرحية متطوّرة أثرت العرض

يثري العرض الآليات الدرامية المعتادة بتقنيات ووسائل مسرحية متطوّرة، كما في توزيعات محمد ميزو الموسيقية، التي تمزج بين الوتريات والطبول في أجواء الحكي التي تستدعي طقوس شاعر الربابة، والآلات الحديثة والكهربائية في الاستعراضات الغنائية والرقصات المعاصرة ومشاهد المعارك والمواجهات والمناورات الشيّقة وبين الزيبق والكلابي.

تحتفي الإضاءة بالمصابيح الحمراء لتشخيص حالات الإثارة والتوثّب المتعاقبة وخلق بيئة ملائمة للمغامرات والمبارزات التي تحتبس فيها الأنفاس، ومع تصاعد المآسي كما في لحظة الغدر بحسن راس الغول، يسود الإظلام المشهد وحده، مع هالات ضوئية على وجوه الممثلين تبرز شحناتهم الانفعالية. وقد أحسن نادر إسماعيل (سنقر) وراندا ربيع (الأم فاطمة) وأحمد صالح (علي الزيبق) استثمار مثل هذه اللقطات القريبة للإفصاح عن ملكاتهم الأدائية والتعبيرية.

عرض “علي الزيبق”، الذي يردّد في كثير من مواضعه “السيف أصبح خشب، والزمان اتقلب، والغدر بقى شريعة”، باختصار عرض الإرادة الحرة والانتصار للإنسان ولقيمة الحياة رغم كل التحديات والظروف المعاكسة، فسياسات العنف والاستبداد والفساد مصيرها إلى زوال طالما بقيت يدٌ تقاوم، وظل عقل يبتكر أفكارًا خارج الصندوق.

___________________

المصدر : العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *