“عقيلة، نسيج أنتيغون”.. مسرحية فرنسية تمزج الخيال بالتأمل السياسي والسوسيولوجي

في نطاق مهرجان المسرح الوطني البريطاني بمدينة رين الفرنسية، تُعرض هذه الأيام “عقيلة، نسيج أنتيغون”، هذه المسرحية التي استوحتها مارين باشلو نغيان من “أنتيغون” سوفوكليس لتسقطها على الواقع الفرنسي الراهن عقب العمليات الإرهابية.

تواصل مارين باشلو نغيان تناول القضايا الحارقة التي تشغل بال الفرنسيين، مقيمين ومهاجرين. وبعد أعمالها “نصوص سياسية قصيرة”، و”نساء وغسيل” و”مليونيرات لقطاء” التي تعرّضت فيها إلى الواقع السياسي والاجتماعي في فرنسا، خصّصت مسرحيتها “عقيلة، نسيج أنتيغون” لتسليط الضوء على دوافع الإرهاب ومخلفاته، وأثره في نفوس من هم قريبون من الإرهابيين وضحاياهم، وموقف المجتمع من كليهما.

هذه المسرحية التي تمزج الخيال بالتأمل السياسي والسوسيولوجي أعدّتها مارين باشلو نغيان في نطاق مسرح مدينة سان بارتيليمي دانجو، ثم قامت بعرضها في العديد من المسارح، آخرها المسرح الوطني بمدينة رين الفرنسية، بمناسبة مهرجان المسرح البريطاني (نسبة إلى محافظة بريطانيا في الشمال الغربي لفرنسا)، في انتظار عروض أخرى.

وتدور أحداث المسرحية عقب الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا في بداية العام 2015 وما تلاها، وتروي حادثة وقعت في إحدى المؤسسات التعليمية، حيث دعي التلاميذ إلى الوقوف دقيقة صمت في ساحة أحد المعاهد ترحما على الضحايا، وإذا بفتاة عربية اسمها عقيلة تُخرج لفاعا أبيض وتغطي به شعرها، ما أثار تساؤلات عديدة في الوسط المدرسي، تطوّرت تدريجيا لتُحدث أزمة.

ونكتشف أن تلك الفتاة هي أخت أحد الإرهابيين الذين قاموا بالعملية الدامية، لقي مصرعه خلالها، وهي لا تريد أن تثأر له وإنما غايتها التوصل إلى إقامة مراسم جنائزية تليق بميت، أيا ما يكن فعله وأثره، في تحدّ واضح لكل السلك التعليمي وزملائها المتعاطفين مع الضحايا. ومن الطبيعي أن يقابل طلبها بالاستنكار والرفض.

ذلك أنها دعيت في الحال إلى مكتب الناظر وأُمرت باحترام قانون الجمهورية الذي يمنع ارتداء الحجاب داخل المؤسسة التربوية، أي أنها وجدت نفسها مثل أنتيغون في حضرة كريون.

والمعلوم أن أنتيغون، كما صوّرها سوفوكليس، رفضت قرار الملك كريون بعدم دفن أخيها، بدعوى أنه لا‌ يستحق أن يعامل بكرامة ويدفن دفن الأموات، نظرا لنزعته الشريرة المزعومة، وقابلت الموت بشجاعة لأجل أن يطبق القانون الديني الذي يقرّه الشعب، والذي يفرض دفن الميت إكراما له.

 

حفلة عصيان ومساندة
حفلة عصيان ومساندة

 

ولكن بدل أن تخضع عقيلة لأمر الناظر وما وراءه من قانون وضعي تعتبره جائرا، تمرّدت وقرّرت خلافا لأهلها أن تحضر جنازة أخيها، مع المحافظة على حجابها حتى داخل المعهد، ما دفع الناظر إلى عزلها في إحدى القاعات. بيد أنها ما لبثت أن وجدت مساندة من مجموعة من التلاميذ، لا تُعرف هويتهم، بادروا ببعث إذاعة سرية، خلخلت قناعات الجميع، وكشفت عن مدى تصدّع المؤسسة التربوية، لأن الجميع لا ينظرون إلى المسألة من نفس الزاوية.

هذه الفكرة استوحتها نغيان من أسطورة أنتيغون وأثر التراجيديات العائلية، وكانت غاياتها وضع مختلف النزاعات المعاصرة موضع مساءلة، كي تبرز جذورها السياسية والكولونيالية. فهي تسلّط رؤية نقدية على القوانين التي صيغت باسم الجمهورية، وتحاول أن تتبيّن جذور العنف والإرهاب، وتحاول في الوقت نفسه أن تُسمع صوت شبان الضواحي الذين لا يقبلون الحتمية القدَرية، ولا دوامة التضحية، بالرغم من المصائر المحدّدة التي تُخضعهم إليها البنى الاجتماعية.

فالكاتبة/ المخرجة لا تستحضر تلك الأسطورة القديمة بغرض إحيائها، وإنما لتضع الممارسة المعاصرة للعَلمانية موضع مساءلة. وهو موضوع ساخن وحارق في الظروف الحالية، التي تعقب أعمالا إرهابية عديدة، وتسبق انتخابات رئاسية يتنافس المرشحون إليها في التنديد بكل ما يأتي من أبناء المهاجرين، إرهابيين ومسالمين على حد سواء.

ليس من السهل تناول الجدل الذي يهزّ المجال التربوي، دون أن يغادر قاعات الدرس، غير أن نغيان جرُؤت على ذلك، وزادت عليه أن انتقدت قوانين الجمهورية، ولاسيما قانون 2004 الذي يحظر أي علامة دينية داخل المدرسة، بل نفذت إلى جذور العنف والإرهاب.

وبخلاف رئيس الحكومة الأسبق مانويل فالس الذي عاب على علماء الاجتماع مقاربتهم السوسيولوجية للإرهاب، حين قال “أن نفسّر معناه أننا نبرّر”، فإن نغيان اقتحمت مجالا هجره رجل السياسة، ونعني به محاولة فهم الأسباب التي أدّت إلى مثل ذلك العنف، فقد جعلت من أخ آخر لعقيلة ضحية تجاوز البوليس لسلطته، وربطت ذلك بالتاريخ الكولونيالي واحتفالات كشف نقاب النساء وخلع أثوابهنّ التقليدية زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر.

ولكنها لا تقدّم كل ذلك بصفة مباشرة، كحقائق لا تقبل الجدل، بل تدمجها في نسيج العمل المسرحي وخطابه، وتفتح نوافذ يمكن أن يجد فيها كل متفرّج مادة للتفكير وإعادة النظر في بعض ما يحسبه من المسلمات.

إن إعادة إحياء أسطورة أنتيغون برؤية معاصرة جاءت صدى لمن تحدّوا الوقوف دقيقة صمت على ضحايا الإرهاب، الذين كان آخرهم مدرّس التاريخ صامويل باتي، حيث أحصت وزارة التربية الفرنسية نحو أربعمئة مخالفة لتعليماتها، رفعت ضدّ أربعة عشر من مرتكبيها قضايا جزائية بتهمة “تمجيد الإرهاب”. غير أن الكاتبة تريد أن تفهم ذلك السلوك وتسبر دوافعه، وتذكّر بما تلقاه الأقليات في فرنسا من صدّ وجور وحيف، حتى لكأننا أمام معاملة نيوكولونيالية.

Thumbnail

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …