عزوف نسوي عـن الخشبـة

ثمة أحاديث كثيرة تشكو من اختفاء الأسماء النسائية في مجال الكتابة المسرحية، مرددين «أين كاتبات المسرح؟» خاصة أنه لدينا الروائيات وكاتبات القصة اللواتي يصدرن عشرات الأعمال القصصية والروائية على نحو سنوي، ولدينا الشاعرات، الأمر الذي يشير إلى عزوف نسوي عن المساهمة في صناعة «أبي الفنون».

المقدمة السابقة التي تبدو شكلًا صحيحة، تحمل في فحواها تاريخاً من التهميش التي تعانيه الكاتبات العربيات، بخاصة في مجال المسرح الذي يعاني بدوره أزمة كبيرة ليست في الدول العربية وحدها وإنما في العالم أجمع، وتدفع الكاتبات- على قلتهن- ثمناً مضاعفاً لتأثيرات تلك الأزمة.

مع الحالة التي يشهدها المسرح من تراجع كبير في عدد قاعات العرض، وانخفاض هائل في الإنفاق الحكومي أو القطاع الخاص على الإنتاج، يصبح من الطبيعي ألا نشهد أسماء لامعة كثيرة في الكتابة المسرحية، رجالًا كانوا أو نساء. لكن هذا الإقرار لا ينفي وجود كاتبات للمسرح وإن كن يعانين- كما يعاني المسرح نفسه- من التجاهل والتهميش والاستبعاد.

وإن أردنا فعلياً أن يعيش المسرح مرحلة من الانتعاش، فإنه يتوجب علينا أن نعي بداية أن العملية المسرحية لعبة ديمقراطية تتطلب ممارستها سياقاً منفتحاً يحترم حريات الرأي والتعبير، فضلًا عن حماية حقوق المرأة، خاصة أن الكتابة المسرحية مواجهة مباشرة مع الجماهير متفرجين وقراء، وآلية من آليات التغيير، ولا يمكن أن تستقيم أو أن تصبح ممكنة بالأساس إلا بتوفر الحريات الشخصية والقدرة على مساءلة المجتمع بعاداته وتقاليده، فالمسرح بتعبير الناشط المسرحي أوجستو بوال «شكل من أشكال المعرفة، ويجب أن يكون وسيلة لتغيير المجتمع، لأنه يساعدنا على بناء مستقبلنا بدلًا من مجرد انتظاره».

نشر خجول

وباستثناء سلاسل نشر خجولة تهتم بالنصوص المسرحية، لا يمكن لأي متابع أن يرصد حركة نشر خاصة بالمسرح، مما يقلل فرصة متابعة المنتج الكتابي، ناهيك عن أن المسرح عملية أدائية، وقراءة النصوص غير كافية، وتتطلب عملية بث الحياة في أجساد هذه الكتابات تخصيص ميزانيات إنتاج، وخشبات تمثيل، ومؤديين ومخرجين ومصممي ديكور وسينوغرافيا ومهندسي صوت وإضاءة، إلى آخر كل ذلك، وهو ما أصبح غير متاح بخاصة مع الأزمة المالية الشهيرة في 2007، أو مع اندلاع ما يسمى ب«الربيع العربي»، وربما أصبح من النادر الاعتناء بالمسرح منذ بدء أزمة فيروس كورونا مطلع العام الماضي.

وكمحاولة لكسر أطر التجاهل، وتسليط الضوء على الكاتبات، أصدر الملتقى الإبداعي السابع للفرق المسرحية المستقلة بمكتبة الإسكندرية في 2010، باللغتين العربية والإنجليزية، سبع مسرحيات ألفتها سبع كاتبات عربيات، وضم الإصدار «باريس في الظل» للسورية يم مشهدي، و«شبيهي» للمغربية بديعة الراضي، و«سيدة الأسرار عشتار» للتونسية حياة الرايس، و«اللقب امرأة» للفلسطينية نهيل مهنا، وثلاثة أعمال مصرية هي «انترفيو» لنورا أمين، و«شباكنا ستايره حرير» لمروة فاروق، و«غانية مستترة» ليسرا الشرقاوي.

تجاهل 

التجاهل لا يخص كاتبات المسرح، قد يطال في بعض الأحيان الكتابات النقدية التي تُعنى بالكتابة النسائية، ففي نهاية 2019 أصدرت الناقدة المصرية والأكاديمية بجامعة عين شمس هبة بركات كتابها «تشكيل الفضاء في مسرح كاتبات المنطقة العربية» وهو في الأصل أطروحة ماجستير 2017، وعلى الرغم من أن بركات تتناول أبرز الكاتبات ونصوصهن خلال العقد الأخير في القرن العشرين، لكننا لا نجد أي رؤية نقدية منشورة عن الدراسة باستثناء بعض الكتابات السيارة.

ومن الجدير بالإشارة أن الناقدة سعت إلى دراسة عمليات بناء الهوية الأنثوية من خلال نصوص السعودية ملحة عبدالله، والتونسية سامية العمامي، والعراقية عواطف نعيم، والعمانية آمنة الربيع، والإماراتية باسمة  يونس، والسورية علا المصياتي، والمصريتين مروة فاروق وصفاء البيلي.

اسم مستعار

ظاهرة اختفاء كاتبات المسرح ليست شأناً عربياً فحسب، فكثير من الثقافات الأخرى تشكو من الظاهرة نفسها، ويبدو أن الاعتراف العالمي بالدور الذي لعبته النساء في الكتابة المسرحية «خجولًا» ولا يتناسب فعلياً مع الجهد الذي قدمته المرأة للمسرح أداء . وتتنوع الأسباب التي تقف وراء عدم الاعتراف المشار إليه بين ظروف سياسية وثانية اجتماعية وثالثة نفسية، وأخرى تتعلق بالقيود المفروضة على حرية تعبير المرأة وممارسة دورها في الثقافات البشرية في عصور مختلفة.

ووقفت هذه العوامل جميعها ضد الاعتراف بالنساء بوصفهن كاتبات للمسرح، ما أسفر في النهاية عن الاعتقاد بضآلة الإسهام التاريخي الخاص بهن على خشبات المسارح، وهو ما دفع بعدد من الباحثين للترويج إلى تراجع موهبة المرأة «مسرحياً» وعدم تفانيها في إخراج منتجها الفني.

بعيداً عن الرؤية التنميطية وغير العلمية، هناك دلائل تؤكد الإسهام النسائي في تاريخ المسرح العالمي، بيد أن السياقات الاجتماعية كانت سبباً رئيسياً وراء إخفاء تاريخ الكتابة النسوية، وتذكرنا بعض الأمثلة بتخفي النساء أنفسهن وراء أسماء ذكورية مستعارة، من بين هذه الأمثلة الأخوات برونتي «شارولت وإيميلي وآن»، العائلة الأدبية التي عاشت في القرن التاسع عشر بإنجلترا، وكن ينشرن قصائدهن ورواياتهن تحت أسماء رجال مستعارة هي كورير، وإليس، وأكتون بيل. كذلك «ماري آن إيفانس» الروائية الإنجليزية التي ولدت وتوفيت وهي أكثر شهرة باسمها القلمي جورج إليوت.

وإذا لم تقرر المرأة إخفاء اسمها فإنها تعرضت لعمليات استبعاد وإخفاء من أولئك الذي سطوا على عملها وكتاباتها، على سبيل المثال، كتاب «تاريخ حياة وعهد وموت إدوارد الثاني» للشاعرة والمسرحية البريطانية إليزابيث كاري «1585-1639» وهي حكاية سياسية تستند إلى أحداث تاريخية، ولم تنشر حتى عام 1680، بعد وفاتها بوقت طويل، حمل اسم زوجها وليس اسم كاري، وهو نسب استمر من القرن السابع عشر حتى بدايات القرن العشرين وتحديداً في 1935.

شكسبير امرأة

في سياق آخر، تشير بعض الكتابات الغربية إلى أن الكاتب البريطاني الشهير وليام شكسبير كان سيدة؛ إذ زعمت الكاتبة الأمريكية إليزابيث وينكلر، أن «الجميع في هذه المسألة كانوا يبحثون في المكان الخطأ ولم ينتبهوا إلى إميليا باسانو» 1569، المرأة التي يعتقد بأنها كتبت مسرحيات شكسبير، وأتيح لها ذلك من خلال عشيقها اللورد هونسدون المسؤول عن المسرح الإنجليزي وراعي الشركة التي نفذت المسرحيات الشكسبيرية، حسبما يشير جون هدسون في كتابه «سيدة شكسبير المظلمة» الصادر 2016.

وفي الوقت الذي تسخر فيه الأستاذة الفخرية للغة الإنجليزية بجامعة بنسلفانيا والرئيسة السابقة لجمعية شكسبير الأمريكية، فيليس راكين، من كون شكسبير هو إميليا، فإنها ترى على نحو يقيني بأن للنساء دوراً ويداً في كتابة عدد من المسرحيات التي قدمها شكسبير على مسرحه.

وبينت راكين، أن الدراسات التاريخية الأخيرة تشي بمشاركة نسائية واضحة في إدارة الشركات التي تمتلك المسارح المحترفة خلال فترة الازدهار في مرحلة إليزابيث الأولى، فترة المسرح الإليزابيثي أي مسرح عصر النهضة الإنجليزية، مستندة في رؤيتها إلى أن ثمانين في المئة من مخطوطات النصوص المسرحية في نهايات القرن الخامس عشر تفتقر إلى إسناد المؤلف؛ إذ لم يشارك معاصرو شكسبير اهتمام الجماهير الحديثة في تعيين المؤلفين.

 

https://www.alkhaleej.ae/

القاهرة: مدحت صفوت

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش