عرض ( ثلاثين وانا حاير فيك ) .. غروتسكية ( اجبالية ) تختزل المسرح والمجتمع معا بقلم : يوسف الحمدان

 

 

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

لعله من أصعب الأمور في المسرح هو الاختزال أو التكثيف ، وخاصة ما إذا تصدى له مخرج مبدع يدرك معنى ودلالة الإيجاز البلاغي للفعل المسرحي ، ومدى قدرته على تكثيف وفلترة أزمنة الحياة الطويلة الممتدة في زمن لا يتجاوز الساعة الواحدة أو ما يزيد عليها بدقائق ، بتعاقب وتقاطع واشتباك أحداثها وشخوصها وأمكنتها ومتاهاتها ومساراتها وانفصاماتها وركودها وتوهجها وتفلتاتها وانشطاراتها وبؤسها ويأسها وتناقضاتها ومفارقاتها وفجائعها وسوداويتها وعبثها .

وإذا كان هذا الاختزال يصعب على من يتصدى له في العرض المسرحي الواحد ، فما بالك باختزال عروض مسرحية تم تقديمها خلال ثلاثين عاما لتكون في نهاية الأمر عرضا مسرحيا واحدا وكما لو أنه أعد ليكون العرض الأول لتجربة مسرحية جديدة أنتجت خلال أشهر عام واحد ؟

هكذا كان عرض ( ثلاثين وانا حاير فيك ) الذي قُدم في ختام مهرجان المسرح العربي العاشر بتونس ، لسيد الاختزال في المسرح التونسي المخرج المبدع توفيق الجبالي ، الذي اشتغل على تجربة الثلاثين لفرقة تياترو بروح مختبرية باحثة جديدة ، ليشكل وينسج منها عرضا مسرحيا جديدا ساخرا إلى حد السخط من الواقع التونسي السياسي والاجتماعي والديني والديمقراطي والأيديولوجي العقائدي الذي استثمر ماضيه ليكون راهنا يصعب التنبوء لمستقبله إلا من خلال رؤيته الغروتسكية الغاضبة التي توج نهايتها بمشهد القمامة والشاهد على بقائها واستمرارها بوصفها وطنا يحكمه الجهلة وعديمي البصر والبصيرة ويرثه من لم يكن له ماض ولا راهن ولا مستقبل ولم يشتد بعد عود ذاكرته وعمره الطري الغض حتى يكون ومؤهلا لهذا الحكم .

عرض مسرحي هو من الجرأة إلى درجة لم يكن الحديث معها وعنها عن طرقه لأبواب التابوهات الثلاثة المعروفة ( الدين والجنس والسياسة ) مجديا ، ذلك أنه تجاوز كل هذه الخطوط الرقابية الحمراء ، وأصبحت معها مثل هذه الخطوط هي من قبيل السائد والاعتيادي الذي يسهل طرق أبوابه والتصدي له .

إن الجبالي يدشن في هذا العرض ( الثلاثيني ) الأول بوصفه قراءة جديدة اشتباكية مع هذه الأزمنة الثلاثينية ، يدشن رؤية تتجاوز كل هذه التابوهات ، وتدعوك لقرائتها من منطلق كون هذه التابوهات منطلقا رئيسا تبنى على ماضيه تابوهات أشد خطرا ومرارة على النفس والروح والمجتمع بأسره ، حيث يضيع الفرد في نفسه ، ويضيع الفرد في الكل ، ويضيع الكل في الكل ، ولا تبقى سوى كائنات هلامية مسخية لا هوية ولا ملامح لها ، كائنات تتعدد أشكالها وتستباح كينونتها وقيمها ، وكما لو أنك في مواجهة حالة غابت عنها كل الأزمنة وتعثرت فيها كل الأمكنة وأصبحت بقايا أو ظلال أشباح كارتونية لا تُبرق إلا ما يزيدها شحوبا .

إنها التابوهات ، حين يكون كل تابو منها في حد ذاته سلطة ، فكيف إذا تعددت السلطات وانبثقت عنها سلطات أشد مرارة والتباسا وعصية على التفسير ، كيف يمكنك أن تؤطر لكل واحد منها مصطلحا أو مفهوما وهي التي تكون في اللحظة ذاتها مهيأة لتوالد نووي يصعب معه حصر جزيئاته أو تصنيفه وتوصيفه ؟

إنها قسوة وعبء أن تستحضر كل هذا الزمن الثلاثيني ليكون في الآن نفسه وهنا عرضا مسرحيا ينتمي لزمن غير زمنه ، إذ يصعب أن تقرأ العرض وفق مجتزآت التجربة المشهدية لهذه العروض ، ذلك أن الروح التي اختزلتها الآن ، لم تعد تلك الروح التي كانت مقرون حضورها بأزمنة تعددت فيها العروض ولم تلتقي إلا في هذا العرض .

وما أقسى هذا الزمن ( الثلاثيني ) حين يكون معضدا ومقرونا أمره بالحيرة ، تلك الحيرة التي نزعها الجبالي من مصدرها الغنائي العاطفي الذي لم يتجاوز زمنه ( السنتين ) ، لتكون ثلاثين سنة من الحيرة السياسية الشائكة التفسير والتأويل حد الشك في كل شيء ، ولتكون هذه الحيرة قلقا يصعب إخماد ناره بعد ثلاثين عاما من العمل في مختبر المسرح ، وكما لو أنه لم ولن يبدأ العمل في المسرح طالما غول هذه الحيرة المزدوجة يطارده ، أو كما لو أن عنوان كل تجربة مسرحية يختبرها الجبالي لا بد وأن تكون على درجة عالية من الحيرة والشك .

في هذا العرض اختار الجبالي الكباريه ليكون فضاء رؤيته وأحداثه وزمنه الملتبس المضطرب ، ولم يكن اختياره لهذا الكباريه المؤثث بأطر مفرغة ومشروخة ومعدة للحوار السينوغرافي الضوئي والصوتي وكل ما ينفذ من فراغاتها من بشر وقطع متعددة الوظائف ، لم يكن اختيارا عابرا ، إنما كان الجبالي مدركا تماما لاختياره هذا ، إذ في الكباريه غالبا ما تلتبس الملامح وتصبح الأضواء والموسيقى والأصوات ستارا وفضحا في الآن نفسه ، كما تصبح مساحة البوح فيه خارجة في الغالب عن اعتياديتها ، ويكون كل شيء فيه واضح ومبهم ومورط في الآن نفسه ، وتصبح فيه للنفس المبتورة حكايا ومواقف هي بمثابة استجلاء لذاكرة موتورة .

كل شيء في هذا الفضاء يبدو قبل اعتمال أحداثه هادئا وسيمتريا وكما لو أنه أعد لعرض مسرحي تقليدي ، ولكن ما إن تبدأ لعبة العرض ، حتى يصبح هذا الفضاء متعددا ومتشظيا وخارجا على اعتياديته وسميتريته ، لتنكسر معه آلات الزمن الواقعي الثابت ، ولتحيا فيه كل ما هو مغاير لأي مألوف فيه ، وتبدأ الشخصيات والأحداث تتمرد بسخريتها المرة على كل إحالة أو إشارة تنتمي لمكونها الواقعي المعهود ، حيث ترى من خلال إظلام هذا الفضاء شخوصا لا ملامح لها وبوح صوتي غرائبي ، هي أشبه بجنيات ماكبث ، أو أشبه أحيانا بديدان الأرض ، وكما لو أنها تمنحك نبوءتها لهذا الراهن وما سوف يحدث فيما بعد .

إن الجبالي لم يختر الكباريه إطارا عاما لحيوات عرضه فحسب ، إنما اختاره ليكون بيئة للتمرد والخروج على كل الأشكال التي يقترحها المسرح على من يتصدى له ، وقد كان إيقاع الكباريه الراقص والغنائي المتوتر الذي لم يفرط عن حافة المشاكسة الخلْقية لدى الجبالي حتى اللحظة الأخيرة من العرض ، كان بمثابة المُولّد البحثي الاستقصائي لكل نمرة من نمر العرض كله التي تتخللها فواصل أدائية تعلن حيرة استقرارها في موقع بعينه ، حيث تنبثق عن إطاره الكوميدي الغروتسكي العام ، أشكال أخرى ، كالفودفيل والكاريكاتير والكارتون والماريونيت والستربتيز ( المكرتن ) والمسرح المشيأ الذي يموت في حيزه كل نبض آدمي ، وكل هذه الأشكال تعج حيواتها بمفارقات كوميدية صعبة ، لا تعتمد على الإطار الموازي لتكوينها في الأداء فحسب ، إنما تتوالد من خلال الشخصية الواحدة وفيها ، حيث كل شخصية تبدو عالما يعج بمفارقات غريبة لا تحتاج إلى من يقاسمها أو يشاطرها هذه المفارقات من خارج ذاتها .

فإذا كان العدد الرقمي الواقعي للشخصيات التي جسدت العرض لم يتجاوز الثلاثين مؤديا ، فإن العدد المفارقاتي الدلالي الذي اختزنته واختزلته كل شخصيات هذا العرض لا يقل عن عدد مجتمع بمختلف طبقاته وأطيافه ومكوناته وألوانه .
ولعل هذه المفارقات بشكلها الساتيري والغروتسكي والكارتوني التي تعج بها شخصيات العرض ، هي ما جعلت مثل هذه التابوهات وما توالد عنها ، وخاصة ( الجنس ) مقبولة الإشارة والتلميح به حد الكشف والتعرية والفضح ، حيث تلتبس اللحظة الواقعية على المتلقي لحظة خضوعها لمثل هذه المفارقات .

وما الذي يحدث وسوف يحدث ..
كلام الليل إذ يخفي دسائس ومؤامرات السلطات على الشعب ، وإذ ينير ويريب دروب المسحوقين من عامة الشعب ، وإذ يصبح هذا الظلام غرفا ركنية لإبرام الاتفاقيات بين السلطة ومن يستهويها من المناضلين الذين يدعون الدفاع عن لقمة وأمن عامة الناس من المسحوقين والمقهورين ..
وما الذي يحدث وسوف يحدث ، حيث المهرج في الآن نفسه ساحر وكاوبوي وخارج هذه السياقات كلها في الآن نفسه ، فمن هو ؟
وحيث العرش الذي تتبوؤه كائنات لا تنتمي لزمن سوى زمن المسخ ، هي مع سلطتها وهي ضد سلطتها في الآن نفسه ..
وحيث المغنية الأوبرالية هي نسيج حسرة وبكاء وبهرجة مزيفة وأزياء مترفة ولم يكن هذا الصوت وهذا الزي المترف إلا شكلا يغطي عاهات وآهات كثيرة تعاني منها هذه المغنية برع الجبالي في مسرحتها أيما براعة
..
وحيث المنابر الخطابية الكارتونية التي تعري بوحها المهزوز والمضطرب ..
وحيث المشاهد تتوالى بمختلف مفارقاتها الساخرة والاستقصائية أداء حركيا وصوتيا وإيمائيا وغرائبيا ، كما هو حال الفتيات اللواتي يجرن حقائبهن بحثا عن أحلام تزيح عنهن ذلك الاضطراب الذي تلتهم وخزاته أجسادهن ، وحال من يشعل الحريق في جسد وطنه وجسده ، بغية إطفاء كل الحُرق التي تنهش روحه وتزين أقماعها رأسه ، وحال النشوة والشهوة المجهضتين حتى في لحظة الفرح والخلوة ، وحال من يقدم على الانتحار ليكشف لنا بمحاولته تلك أن المجتمع برمته منتحر منذ زمن ، وحال الحكايات المؤلمة الساخرة بين النساء المتحررات وأزواجهم المتطرفين عقائديا ، وحال النسوة اللواتي يتجاوز قهرهن وغضبهن من أزواجهم ومن الرجال المماثلين لهم حدود الخشبة ، ليعلن وبفضح فاقع لا ساتر أمامه غير وجوه جمهور العرض ولا ساتر خلفه غير مشهد لا يقل سخرية عنه .
وحال المشهد الغروتسكي الكاريكاتوري الفاضح أيضا للرجال الذين تحتمي أعضاؤهم التناسلية بكور مطاطية تشي أبعادها ودلالاتها الزحفية التمساحية إلى حالات يكون الخصي أقل درجاتها ، وقد كانت هذه المشهدية واحدة من أبدع المشهديات التي نسج الجبالي حرير تكويناتها البصرية والحركية في هذا العرض .
وحال المرأة التي يستشيط بها المكان حد ألا تجد أو ألا تعرف لطفل عربتها ولا لها مستقرا فيه ..
وحال الفتيات اللواتي يتجملن ببراميل القمامة عبر رقصة فالصية ساخرة ، ليصبح المسرح بكل ما فيه أشبه بمدينة أبطالها براميل وأكياس القمامة ، تلك التي يسترشد من خلالها رجل كفيف لا يعرف موقعه منها وبينها ، وكما يقول وليم شكسبير : ” عندما تأتي البلايا لا تأتي كالجواسيس فرادى. بل كتائب كتائب ”

إنها مشاهد تداعت وتشظت بروح أدائية تتملك قدرة غير عادية على صوغ ممكناتها الجسدية والصوتية وتوظيفها وفق رؤية إخراجية غروتسكية فارطة في شطوحاتها وذهاباتها الدلالية ، حيث يصعب تأطيرها في موقع محدد من المكان أو الجسد نفسه ، كما هو حال المخرج المبدع الرائي ساحر الصورة وفيلسوفها في مسرحنا العربي توفيق الجبالي ، الذي يصعب أن ترى في تجاربه المسرحية التي قدمها تجربة تشبهه عدا الإبداع .
وبعد هذه التجربة الاختزالية الساخرة ، نتساءل : ماذا تبقى للسخرية بعد هذه السخرية سيدي الجبالي

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *