عبد السلام مقبول.. الفنان الذي أودع سره في خطوط ووجوه يوسف الحمدان – البحرين

عبد السلام مقبول.. الفنان الذي أودع سره في خطوط ووجوه

يوسف الحمدان – البحرين

في الوقت الذي تعج وتضج فصول وأروقة واستراحات وخشبة مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية والقاعات الصغيرة المجاورة لها أو خلفها بشامية الكويت إبان سبعينيات القرن الماضي بأصوات وضحكات ومزاح واختبارات الأداء الصوتي والحركي وأزيز وهدير ماكينات المناجر وطرق المطارق بورش الديكور وفوق الخشبة وقرقعة الملاعق الصغيرة في أكواب وفناجين الشاي والقهوة وأدخنة السجائر المتكثفة سحبها الرمادية والبيضاء في كافتيريا المعهد ، في هذا الوقت الصاخب اليومي المتكرر في مصنع الإنتاج المسرحي ، يستوقفك ويأسرك الفنان الجميل الأنيق عبدالسلام مقبول طالب الديكور بخطاه الوئيدة الهامسة الواثقة التي تبدد لحظتها كل هذا الضجيج والصخب لترهف كل الحواس والأحاسيس والأحداس نحوها وهي تتحسس وتتنفس هواء الأروقة برفيف فراشة وكما لو أنها تكتنز بأسرار يدفعك الفضول للتعرف على أبسط وأقل خفاياها ، وما إن ترفع عينيك نحو وجهه الهاديء الوادع حتى تكون في مواجهة عينين مضيئتين مشعتين هي أقرب لحدقتي الصقر بالرغم من انبثاقهما واتصالهما وتعالقهما واستقرارهما على رابية وجنتين مسترخيتين وكما لو أنهما تزنان جناحي الجسد والروح لحظة التحليق في فضاء التفكير والإبداع .

لم يلتحق الجميل عبدالسلام مقبول إلى المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1975 وهو خاو من ذخيرة الفن والإبداع في حقوله أو لأنه موهوب فيها فحسب ، بل كان حينها أستاذا في مجاله ، شأنه شأن أغلب ملتحقي وخريجي هذا المعهد في سبعينيات النهوض الفكري والثقافي والفني والإبداعي ، فهو فنان تشكيلي عايش وجاور كبار مبدعي الحركة التشكيلية في الكويت ، من أمثال سامي محمد وناجي العلي وعبد الرسول سلمان و حميد خزعل و عبد الله القصار و بدر القطامي وغيرهم ، كما أنه أحد أهم رسامي الكاريكاتير الذين تتبارى وتلهث أكثر الصحف والمجلات الكويتية للحظوة بهم ، وكان حينها واحدا من أهم الفاعلين في الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية وأحد أهم المشاركين في معارضها التشكيلية ، وهو نتاج مختبر فكري وفني ساخن أسهم في تطوير الحراك التشكيلي وفن الكاريكاتير في الكويت ، لذا لم يقبل على التخصص في الديكور المسرحي ليهجر ركيزتي الإنطلاق الأول وهما التشكيل والكاريكاتير ، بل اقتحم هذا التخصص ليضيف ويضفي إلى هاتين الركيزتين ( التشكيل والكاريكاتير ) حسّا جديدا ونفَسًا ثالثا مغايرا يمنح الروح الحركية إليهما ويمسرحهما ويستنطقهما بأبعاد درامية من شأنها أن تشكل وهجا إبداعيا جديدا إلى ما تلقاه واستبره في هذين الفنين ، وشاءت الظروف أن نكون بحكم المجاورة الأكاديمية في المعهد أن نحضر ونشهد نتاج هذا الفنان في بعض المعارض التي تقيمها الجمعية .

إن هذا الهدوء والوداعة والسكينة التي يتمتع وتكتنز بهما روح الفنان عبدالسلام مقبول يجدون مجالا رحبا في ذاته المبدعة التي تضج بمواقف وحيوات ورؤى تدعونا لتأملها والوقوف على كيفية استنطاقها في فنونه المتعددة ، وخاصة الكاريكاتير الذي لا شك أنه يصدر عن عين قناص كاشفة مجهرية لاقطة تدرك متى تتوجه دفتها ومتى تتحدد بوصلتها ومتى تستقر اتجاهاتها ، والجميل في الأمر أنه حظي بنخبة متميزة في دفعته الأكاديمية ، من أمثال الفنان البحريني الصديق محمد عبدالله جناحي وهو أقرب الأصدقاء إليه وخاصة أنه يتمتع بمزاج قريب من مزاجه ، والفنانة خولة أحمد ( زوجته ) والفنانين الراحلين سالم بورسلي وأحمد النشمي والفنانة ميساء محمود والفنانة سهيلة الحبيب والفنانة بدرية الحسين ، هذه النخبة لا شك أنها استثمرت وجودها الفاعل بجانب الفنان عبدالسلام مقبول وأساتذتهم المؤسسين لفن الديكور بالمعهد وهم الأساتذة لويز مليكه وعبدالفتاح البيلي وعبدالله العيوطي وكمال شلتوت وعبدالله المنصوري ومصطفى صالح .

وكما أشرت إلى أن المعهد العالي للفنون المسرحية إبان سبعينيات الكويت المتقدمة المنفتحة على كل جديد في الثقافة والإبداع في العالم كله ، لم يكن بيئة للتدريس الأكاديمي فحسب ، وإنما كان حاضنة للإبداع في شتى أنواعه ومشاربه ، وأذكر أن الصديق الروائي المبدع الكبير إسماعيل فهد وهو رفيق دفعة 1976 في قسم النقد الأدبي والمسرحي ، وهو أحد أهم من تبنى كتاباتي الأولى في القصة القصيرة والنقد وساهم في نشرهما بجريدة الوطن الكويتية ، أذكر أنه كان يقود حوارا أدبيا حول تجربة قصصية نشرتها بعنوان ( الرقم المزدوج ) وكان ذلك في استراحة الكافتيريا بعد انتهاء إحدى المحاضرات ، وكان على جانب من أحد المقاعد بالكافتيريا يجلس الفنان عبدالسلام مقبول الذي كان يصغي لهذا الحوار دون أن يشي فضوله بذلك الاهتمام ، وأذكر أنه قد جمعتنا إحدى المحاضرات المشتركة التي كانت تجمع كل الأقسام معا في فصل واحد ، وغالبا ما تكون هذه المحاضرات مختصة في تاريخ الفن أو الإلقاء التطبيقي ، وكان يحضرها طلاب الدفعات السابقة ، ومن بينهم الفنانة سعاد عبدالله والناقدة الإعلامية أمل عبدالله والفنانة أحلام محمد وغيرهم من الفنانين ، وبعد انتهاء المحاضرة قصدني الجميل عبدالسلام مقبول مقترحا علي نشر قصة من القصص التي أكتبها في مجلة مرآة الأمة ، طبعا لم أتردد ، سلمته في اليوم الثاني القصة ولم يتأخر في نشرها .

 واستمر فيما بعد هذا التواصل بيننا ، لأكتشف أن هذا الفنان بجانب دراسته في مجال الديكور يتمتع بثقافة مستنيرة مميزة نظرا لاحتكاكه اليومي في الصحافة بأهل الشأن الثقافي والاجتماعي والسياسي ، وليكون على تماس مباشر بالقضايا الإنسانية في مجتمعه ودورها في التأثير على مساره الفني ومدى اختزان ذاته بها وقدرتها على تحويلها إلى نصوص كاريكاتيرية ساخرة ، ولم يهدأ له بال إلا بعد أن احتواها بين ضفتي كتابه (قبلة على جبين الأرض ) ، تلك الأرض التي همست لها خطاه وروحه في ضجيج الحياة ، ليكون هذا الكتاب رسالة حب يهديها إلى أهل الفن في البحرين عبر صديقه الحميم الفنان محمد عبدالله جناحي الذي لامس واستشعر مدى إنسانيته ومدى تعاونه الإنساني مع البعض دون أن يعلم هذا البعض بأن وراء هذا التعاون طائر قدّت روحه وجبلت على الحب والتفاني بلا حدود ودون أن ينتظر من الآخر ردا للجميل .

هو الفنان الصقر المبدع عبدالسلام مقبول الذي جاور كبار الفنانين والمبدعين في العالم بعد ارتحاله هو وزوجته خولة إلى أمريكا لإكمال دراساته العليا بعد أن حصد المركز الأول على دفعته بالمعهد ، ومن بينهم الفنان العملاق أنتوني كوين الذي وثقته فوتوغرافيا الفضول الجميل هناك ، وهناك تستقبل الحياة الجديدة ابنته البكر هيا عبدالسلام ، الفنانة المخرجة التي شاغبت عدستها عوالم الصمت والتأمل التي اكتظت بها روح ومخيلة والدها ، لتجد عالمها الدرامي الخاص بها .

فسلاما على روحك أيها الصقر الثاقب وسلاما على الأرض إذ تقبل في ثرى مأواك الأخير جبينك ..

———————————-

يوسف الحمدان – البحرين

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش