عبد الجبار خمران يكتب : المدن الكبرى تحت الشمس ليوجينو باربا.. أوعندما يصير العالم منفى

باريس – قدمت فرقة “أودين-تياتر” على امتداد الاسبوع الثالث من شهر مارس 2016 بإخراج مؤسسها المسرحي الإطالي المعروف يوجينو باربا، العرض المسرحي الموسيقي ” المدن الكبرى تحت القمر” بفضاء لاكارتوشري مقر فرقة مسرح الشمس التي تديرها المخرجة أريان منوشكين. وذلك في إطار استقبال فني هو الرابع من نوعه الذي تخص به المخرجة الفرنسية فرقة أودين تياتر.(كان الاول عام 2000 والثاني عام 2005 والثالث عام 2012) قدم يوجينو باربا خلالها خمسة عروض من إخراجه.
عرض “المدن الكبرى تحت القمر” ولد بالصدفة، يقول يوجينو باربا، “ففي عام 2000 في إطار تبادل ثقافي بين مسرحنا ومجموعة مرضى مصحة نفسية في مدينة بيليفيلد الألمانية اعتقدنا اننا سنقدم هذا العرض لمرة واحدة فقط فإذا به يغدو عرضا من ريبرتوار عروض فرقتنا”.
يحاكي العرض المسرحي-الموسيقي بشعرية وتأني من خلال مشاهده المتعاقبة ثيمة المنافي والحروب العابرة لمدننا الكبرى منذ هيروشيما الأمس الى حلب اليوم مرورا بتراجيديات اجتياح العراق وأفغانستان وتفجيرات باريس ولندن ومدن أخرى ملقاة في لجة حروب عصرنا الراهن..
مادة العرض عبارة عن نصوص لبرتولد بريشت، والذي تهيمن مفردات جماليات مسرحه الملحمي على جسد فرجة باربا هذه، بالاضافة إلى نصوص كل من الشاعر الامريكي عزرا باوند والكاتب النرويجي جون بجورنيبوي.

مُبتدأ العرض فضاءٌ فارغ إلا من ثمانية كراسي وضعت على شكل نصف دائرة وبعض آلات موسيقية وأكسسوارات ظاهرة وأخرى أخفيت تحت قماش هنا و أسفل كرسي هناك إلى ان تصل لحظة ظهورها في العرض.
ستة من الكراسي شاغرة واثنين يجلس عليهما عازفة كمان وعازف قيثارة وقد شرعا في العزف بينما الجمهور دخول الى القاعة. بعد ولوج آخر متفرج ولحظة تخفت الاصوات ويسود الهدوء في الصالة، تعلو أنغام الموسيقى أكثر في حين يلتحق بالخشبة ستة ممثلين آخرين ليجلسوا على الكراسي الشاغرة. دون إطفاء تام لإنارة الصالة ذلك أن المتفرجين والممثلين يشتركون في مصدر الضوء المسلط عليهم كمجموعتين، في إشارة الى اكتمال الدائرة التي نصفها فوق الخشبة ونصفها الآخر في الصالة.
غناء فردي، فثنائي، ثم كرالي.. لتصدح احدى الممثلات بأبيات شعرية. فندخل كجمهور في حالة من التواطئ مع الممثلين.. فهم أنفسهم يتفرجون على بعضهم البعض.
ثم يقتحم فضاء العرض ممثل ببذلة عسكرية وبخطوات منتظمة وثابتة. يرتدي الممثل قبعة زرقاء وعلى ذراعه الايسر علم كنديٌ صغير، فيتوسط نصف الدائرة المكونة من الكراسي. يقف وقفة عسكرية في مركز الخشبة تماما ولا يجلس طيلة العرض. ينشد القصائد حينا ويتفرج صامتا أحيانا أخرى. لربما يحرس كل ما يحدث.. كان حضوره “إجابيا” في العرض. لماذا العالم يحتاج، للأسف، إلى القبعات الزرق ليحرسوا المدن الكبرى والصغرى أيضا؟ بل ليحرسوا العالم ككل..؟
ممثل يطلب من على كرسيه أن تُنطقَ الخرساء.. فتحمل ممثلة وردة حمراء لتهديها الى الممثلة الجالسة على جانبها الأيمن. ثم ترتدي أمام الجمهور بذلة وقبعة وقفازات كلها حمراء اللون، تُغير حذاءها ذو الكعب الطويل بآخر دون كعب. تتقدم وسط الخشبة : إنها “كاترين” الخرساء ابنة الأم شجاعة. يتم استدعاء شخصية برتولد بريشت إلى هذا العرض لا لتحذر مدينة كبرى بإشاراتها الإمائية من الحرب. بل لتحذرنا جميعا من كل الحروب حول العالم. تحمل ورقة صغيرة طبعت عليها خارطة العالم الملونة. يتقدم ممثل ليمزق الخارطة ويضعها في فم الممثلة/كاترين التي تسقط أرضا.. “العالم كله تحول إلى منفى” .
الممثلة التي أُهدِيت الوردة الحمراء تحملها وتمشي نحو وسط الخشبة تغني على نغمات الكمان والقيثارة وترمي بالوردة أمامنا ثم تحمل مزهرية بلون سماوي فتلقي بمحتواها الذي ليس إلا تُرابا وفحما على الوردة الحمراء.. تأتي بمكنسة لونها غير بعيد عن زرقة السماء فتشكل بها من التربة على الارض نجمة النازية المعقوفة ثم… أخيرا تكنسها تغني وهي تراقص المكنسة وتداعبها.
تتقدم ممثلة أخرى لتنزع الوردة الحمراء من كومة التراب وكأنها تستل جمالا من قبح وتنقذ قيمة إنسانية من مزبلة تاريخية وجب أن تتكدس فيها كل الفاشيات ورموزها وكل الإديولوجيات العنصرية ودوافعها وكل مفردات الاقصاء وكل الافكار الظلامية المسببة للقتل وللحروب والمنافي.
امرأة في مدينة ما في هذا العالم تحيك كنزة وتجر وراءها كرات من صوف وكأنها تحيل إلى الكرات الحديدية التي تربط بسلاسل إلى ارجل سجناء القرون الوسطى.. هل هي مبرمجة ؟ إنها تحيك في لامبالاة بجسد ممثلة اخرى والتي ليست الا كريستين التي ما تزال ملقاة على الارض وفي فمها مزق خارطة العالم.. ما الذي يشغل الانسان عن الإنسان..؟ إنها جهنم الحروب المنفتحة فوق رؤوسنا.
يحضر رمزيا وشعريا حوض ماء صغير من زجاج تسبح داخله سمكة صغيرة حمراء تفتّت الممثلة الخبز وتغني وتمنح قوتا/حياة للسمكة الصغيرة.. آخرون يأملون في الهجرة والعبور إلى الضفة الاخرى ويمنحون اجسادهم قوتا لحوت أكبر.. وإذا ما نجح البعض في العبور فكل المدن منفى.. ويستحضرني هنا صوت درويش “كم مرة ستُسافرون / وإلى متى ستُسافرون / ولأيّ حلم؟ /وإذا رجعتم ذات يوم / فلأيّ منفى ترجعون..” الرحيل منفى والعودة منفى ..
العرض متوالية لوحات خارج أي خط درامي كلاسيكي رهين ببداية ووسط ونهاية. لوحات يتخللها غناء ورقص ويؤثث خلفيتها المشهدية نصوص شعرية تداري في بطنها صمت عزلتنا وفوضى العالم (الغير منظمة).. العالم الذي تحول بكل مدنه الكبرى تحت قمر أحلامنا إلى منفى..
عبد الجبار خمران

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *