“صباح و مسا”.. مختبر جمالي يحفز وعي المتلقي على الانخرط في اللعبة المسرحية #المغرب

من مسرحية صباح ومسا – فرقة دوز تمسرح

“صباح و مسا”.. مختبر جمالي يحفز وعي المتلقي على الانخرط في اللعبة المسرحية – رضوان خمران #المغرب

“صباح و مسا” نص المسرحي الفلسطيني غنام غنام وإخراج المسرحي عبد الجبار خمران مسرحية مثقل موضوعها بأفكار ذات أبعاد إنسانية وكونية. استطاع العرض الذي قدمته فرقة “دوز تمسرح” خلخلة أعمق بنيات المجتمع وأكثرها تعقيداً، وأفكار تم تفكيكها وسبر أغوارها من خلال رؤية إخراجية اعتمدت على مقومات إبداعية وجمالية شعرية جعلت العرض سمفونية ذات إيقاعات مشهدية تشد المتلقي منذ البداية ولا تتركه إلا عند إنتهاء العرض.

قوة العرض، في نظرنا، تكمن في استناده إلى رؤية إخراجية تتلنى منهجية التفكيك والتركيب؛ تفكيك تمفصلات النص المسرحي وبنائه اللغوي وإعادة تركيبها وفق أدوات دراماتورجية تم الإشتغال عليها بكثير من الدقة لإنتاج العديد من الرسائل التي يستشفها المتلقي المنتبه ليس عبر البعد البصري والسمعي فقط ولكن عبر البعد الحسي الوجداني.

يبدأ العرض بجزئية في غاية الأهمية؛ حيث يظهر (الموسيقي/زكرياء حدوشي) الذي يدخل الخشبة وهو يدفع عمود الضوء، لإثارة الإنتباه الى أننا أمام لعبة مسرحية يتحكم في تأثيت فضائها. خطوات أولى لنقل المتلقي من الواقع المألوف الى المتخيل المغاير، هي محاولة لجر المتلقي إلى عوالم أخرى غير التي اعتادها، هي عوالم داخلية ستدعونا عبر العرض إلى فتح حوار مع الذات ومع الآخر.

بعد هذا الاستهلال يدق “الموسيقي” اثنى عشر دقة في إشارة زمنية “ربما” الى منتصف الليل، وهي إشارة تتظافر مع الجو العام على الخشبة الى كل ما يحمل الليل من معاني؛ الظلام/ العتمة/ نهاية يوم/ استشراف يوم آخر/الإصغاء الى الذات/ التيه/ منتصف العبور من حالة الى حالة أخرى؛ من المساء الى الصباح. وقد أبدع سينوغرافيا العرض الفنان يوسف العرقوبي الذي بات يشكل مع عبد الجبار خمران ثنئيا فنيا ثابتا داخل فرقة “دوز تمسرح”…

تدخل شخصية أخرى (صباح/ رجاء خرماز) فرقص امرأة فوق جسر، تتفقد المكان هل تتذكر بعضاً من أحداث حياتها..ربما، بعدها يتسلل شاب (مسا/ توفيق إزديو) الى الجسر نعرف فيما بعد انه مقبل على الإنتحار، تمنعه الشابة من إلقاء نفسه من أعلى الجسر لتحول بينه وبين الموت. تتأسس بنية الحكاية على لعبة الإفصاح أو هو “كاتارسيس” بمعناه النفسي. خصوصية هذا الإفصاح أنه لا يخضع لتسلسل خطي، بل هو متشابك ومتداخل.

يبدأ الشاب (الذي أبدع في تشخيصه الفنان توفيق إزديو) بالحديث عن أمه وعن دُماه التي يحملها معه في حقيبته، وعن صديقته التي ينتظرها في بيته، وعن كل حكاياته مع النساء. تسترسل الحكاية مع المرأة، التي تحكي عن لقائها مع صديقها الذي تركها وحيدة لسفلة الليل وكلابه. أما غصتها الكبرى فهي قصتها مع أبيها “السكير” الذي منعها من المدرسة وحظر عليها الرقص متعتها الوحيدة في الحياة، لتُقرر الرحيل لأن حبيبها الأول أطفأ أنوار بيته وأطفئ معها أنوار حبها له وأملها في الخلاص، و جعل جسدها مظلماً من دون حياة.

في منتصف الحكاية، يصل الإثنين الى نقطة التلاقي، ويدركان أنهما كانا في فصل واحد، اختلفت مواهبهما والتقت ذكرياتهما في أغنية؛ أغنية الطفل الذي يفكر في الحياة. في هذا الوقت بالضبط تأخذ الحكاية منحى آخر، يغرم الشاب في المرأة، و يعترف لها بأنه كان حباً قديماً منذ أيام الدراسة، وقدره أن تظهر هذه المرأة مرة أخرى وعلى هذا الجسر في الوقت الذي قرر فيه يضع حداً لحياته.

تبادله المرأة حبا بحب. بعدها تتجه الحكاية الى النهاية، فرغم كل شيء يقرر الشاب أن يضع حداً لحياته، فيلقي بنفسه وينتحر، وتبقى هي فوق الجسر وحيدة تناجي حبه واختفاءه. 

هذا هو ظاهر الحكاية، لكن عندما نغوص في عمق العرض، نجد أنه يحمل في طياته حالة وجودية يمكن تجسيدها في بنية دائرية؛ حيث البداية هي النهاية والنهاية هي البداية، داخل بنية تقود الى “اللامتناهي” وتشخص انظرتنا الى مصائرنا وإلى جدوى وجودنا من منطلق حتمية الحياة والموت، إنها محاولة لطرح أسئلة وجودية حارقة؛ هل الموت بداية أم نهاية؟ هل لنا الحق في أن نعيش كما نريد؟ وأن نموت كما نريد؟ ومتى نريد؟ هل مخولون بتحديد مصائرنا؟ أم علينا أن نرضخ، ليس للواقع، و لكن للآخر؟ الرجل يتحكم في مصير المرأة ويُشيئ وجودها، والمجتمع يتحكم في مصير الفرد و يطمس إرادته، والحاكم يتحكم في مصير المحكوم ويقوض حريته. هذه الحالة يمكن تلمسها في تركيبة “الصباح” و”المساء”، وهي تركيبة زمنية تشير الى المنتصف، الى زمن ملتبس لا يتحدد فيه الخيط الأبيض من الأسود ولا الصباح من الليل.. إلتباس يعيشه الإنسان، خصوصاً في ما يتعلق مسألة تحديد المصير وإمكانيات الإختيار.

عرض “صباح ومسا” تصوير لتمثلات إنسانية صارخة، وتعرية لحالات اجتماعية متجدرة، التي تتجسد في عدة صور منها صورة المرأة في المجتمعات العربية، وسلطة المجتمع الأبيسي والحجر الذي يمارس عليها كزوجة وكإبنة… والتي لمسناها في مقطع جد معبر بلغة دارجة قوية، حين فاضت المرأة في حكيها عن معاناتها مع أبيها السكير كيف كان يعنف أمها /زوجته ويضع أنفها هي تحت حدائه ويغلق عليهما الأبواب كسجان محترف،  هي صورة استطاعت أن توصل كل هذه الشحنات النفسية التي تعاني منها المرأة في مجتمع ذكوري يعاني من عقدة قديمة شكلت وعيه وحتمت عليه اجترارها في أشكال مختلفة.

صورة أخرى عكست هذا الطرح وهي توظيف فكرة الجسر، والتي ترمز الى العبور والفيصل، و تتجسد كذلك في ثنائية الصباح والمساء، إنه عبور من المساء الى الصباح، عبور الإنسان من حالة الظلم والظلمَة الى مناشدة العدل وانبلاج صباح رحب، حيث النور و سعة الأفق.

العرض صرخة مدوية، دعوة للمرور من ضفة الظلم، و الحجر، و كتمان الأنفاس الى ضفة الحرية، الإنعتاق والإنطلاق… 

أما من الناحية الجمالية، فقد تمكن المخرج عبد الجبار خمران من كتابة العرض دراماتورجيا، عمليةٌ مكنت من  إخراج كل هذه الأفكار الدفينة في عمق النص المسرحي من خلال الإشتغال على رؤية إخراجية جد مركبة. رؤية جمالية وإبداعية شاملة تأسست على استحضار العديد من المكونات الجمالية التي تؤثث العرض المسرحي، كالموسيقى، الكوريغرافيا، الاستعارات الوظيفية، ازدواجية اللغة مابين الفصيح والدارج…

في ما يخص عنصر الموسيقى في عرض “صباح ومسا”، فإن المخرج والمؤلف الموسيقي تبنيا اختيار الإشتغال من منطلق “التأليف الموسيقي” وبالتالي اعتبارها جزءاً في البناء الدرامي، وليس موسيقى مصاحبة فقط. وهذا ما يمكن تلمسه من خلال حضور الموسيقي الحية على الخشبة وتأثيرها القوي والفاعل، وتفاعلها مع إيقاع اللعب المسرحي والحالة النفسية للشخصيات وكذا تغيرات الإضاءة. بل أكثر من ذلك نجد الموسيقي يتقمص العديد من الشخصيات، والتي شكلت منعطفات مهمة في البنية الدرامية للعرض، لذلك نجده يمثل الحبيب والسائق والحارس والممرض الضخم… هو إذاً اختيارٌ جمالي له وظيفة تمثلت في استثمار عنصر الموسيقى في تفعيل الإيقاع الداخلي للشخصيات والايقلع الخارجي للعرض وضبط إيقاع التلقي وبالتالي وسعت دائرة التفاعل مع العرض.   

أما قوة العرض، والتي شكلت مِفصَل الرؤية الإخراجية الأساسي وجعلت منه مادة مرنة تتحرك فوق الركح، فهي اختيار الإشتغال على الجسد واستثمار إمكانياته اللامحدودة، هذا العالم اللا متناهي الذي أعطى فسحة كبيرة للتعبير الجسدي والإيحاء الإيمائي وكذا التمثل والتأويل. فإذا كانت بنية الممثل المسرحي تتكون من مرتكزات الحوار والمظهر الخارجي والتعبير الجسدي فإن المخرج، في تناسق مع رؤية كوريغرافية للمبدع توفيق إزديو، استطاعا أن يتلقفا المتلقي ويضعانه في مساحة أخرى للتلقي عبر البعد المشهدي والبصري السمعي من خلال تشكيل رقصات وتموجات جسدية كوليغرافية عكست ما يعجز المنطوق، في كثير من الأحيان، التعبير عنه بعمق، وجعلت المتلقي يتفاعل مع الفرجة وانتاج المعنى على الخشبة ويهتز لاهتزات الممثلين ويسكن لسكناتهم.

هذه الصور الجمالية في تمثل الجسد تجسدت من خلال الرقصات، وأكثر الصور تعبيراً هي رقصة “صباح/رجاء خرماز” خرماز التي برهنت عن علو كعبها في الأداء المسرحي وكذا قدرتها على التعبير الجسدي الراقص.. ابتدأ العرض برقصة أولى لها خلال المسرحية عبرت برقصتها عن احاسيسها في غرفتها التي تصل حد الجذبة، رقصات جسدت من خلالها حالة نفسية مركبة، مزيج من الأحاسيس المتناقضة التي يعيشها كل واحد منا؛ الألم و الرغبة في التخلص من هذا الألم، رفض الإضطهاد والتوق إلى الحرية، شذب الوصاية و إنشاد الإنطلاق، مواجهة المجتمع وتحقيق الذات، مواجهة العنف وتربية الحب، انها ثنائيات لعبة “الصباح والمساء” العرض والمعنى. وكذلك هي رقصات “مسا”.. رقصات على إيقاع مختلف لكنها تحيلنا على المعنى ذاته،الترقب، الحنين، اليأس ثم الرغبة في الإنتحار الخلاص… سيرورة من التعابير الإستعارية والإيحائية مكنت من إيصال أحاسيس تنفجر كبركان لتصور لنا معاني واقع مأساوي يجعل الحياة مأزقا إنسانياً نعيشه على جسر ونتأرجح فيه بين ورطة الحياة وخلاص الموت.

تتوالى الرقصات التعبيرية في “صباح ومسا” بتناغم مدروس مع إيقاع العرض ورؤيته الإخراجية، فتتحرك “صباح” كفراشة في الجهة اليسرى مقابل حبيبها في رقصة ترمز الى الرغبة في الإنعتاق والإنطلاق الى فضاءات أرحب. فرقصة اللقاء والحنين عندما يدرك “مساء” أن “صباح” هي نفسها تلك الفتاة التي كانت تدرس معه في الفصل يغنيان أغنية طفل يريد الحياة.. ورقصة العرس عندما يتفقان على الزواج. هي إذا رقصات تعبيرية حملت، منذ بداية العرض وحتى نهايته، كل الأحاسيس التي تخالج الشخصيات. وهو اختيار له مسوغ وظيفي وجمالي يتوافق والتصور العميق الذي اشتغل عليه المخرج وفريق العمل؛ رمزية الرقص هي تحرر الجسد والرغبة في عبور جسر الحياة الى ما هو أفضل وأجمل.. رغبة التجاوز وكسر القيود الوهمية التي سيج المجتمع بها حياة الأفراد، وتقزيم حريتهم وتلخيص دورهم في إعادة انتاج المعنى الجاهز والمتداول…

و استرسالاً في الغوص في  ثنايا هذا العرض المسرحي، نجد أن المخرج عبد الجبار خمران من المخرجين الذين يؤمنون بأن استحضار أي شيء فوق الخشبة لا يجب أن يكون مجانيا أو اعتباطياً، بل هو يؤذي وظيفة معينة ومقصودة وتوظيفه له دلالات تخدم العرض وخطه الدرامي وتغني بنيته الجمالية. في تنسيق مع السينوغراف يوسف العرقوبي، تبنى المخرج تقنية الإختزال في الإكسسوارات وهو اختيار جمالي يُمكِّن من إعطاء مساحات أوسع للممثل، وجعل جسده محور العرض و علة وجوده.

من بين الصور التي عكست هذا التصور الجمالي، الشريط الأحمر مثلا، الذي يظهر في آخر العرض، يحمله الموسيقي/الممرض و يسلمه لمساء ليشكل به الأكمام الطويلة للسترة التي يرتديها المجانين عادة، في إشارة الى العودة الى المصحة النفسية.. وتشاركه صباح تكبيل يديها بالشريط نفسه في إشارة الى العودة الى السجن، الشريط الأحمر يرمز الى فكرة العودة إلى الواقع المعاش (الواقع / السجن): منبه سيارة الإسعاف/الشرطة.. انها العودة الى نقطة البداية وتكريس استحالة الهروب من الذات والمجتمع. أما رمزية المكان، المصحة النفسية و السجن، فهما مكانان يحيلان على نفس القدر؛ كبح جماح صباح و مسا، و هي إحالة استعارية على تقويض حرية الإنسان. بعد ذلك يأخذ مساء هذا الشريط ليشكل به حواجز متقاطعة.. وهو محاولة لتهيئ مكان اللقاء مع القدر، هذا الجسر هو نقطة التحول، هو رمز للعبور، عبور من ضفة الحياة الى ضفة الموت.

ومن الصور المؤثرة كذلك، تجسيد حالة الإجهاض، صورة تم الإشتغال عليها بكثير من الذكاء لتحقيق نوع من التفاعل الحسي مع هذه الظاهرة التي تعاني منها المرأة في كل المجتمعات؛ تقف صباح فتسقط من تحتها “قطعة ملطخطة بالدماء”، تمسحها بمنذيل أبيض.. رمز الى بياض قلبها وبراءة أنوثتها والتي لطخها “شريكها” المفترض الذي وضع في رحمها بذرته كما تقول، تمسح الدم من على الأرض وتحمله بمنديلها بين يديها وتقدمه لمسا، يأخذه و يغسله في سطل القمامة المعلق في عمود الضوء، سطل أسود مربع من حديد بارد، يرمز الى القسوة والتحجر وغياب اي احساس ويعكس مأزقة الإنسان تجاه أطفال أبرياء يغَسَّلون بماء بارد. صورة مؤلمة عكست معاناة المرأة التي تتحمل وحدها فساد العلاقة بين الرجل و المرأة. 

و ختاماً، نقول عرض “صباح ومسا” يمكن اعتباره مختبراً تجريبياً خلق مساحات إبداعية وجمالية مكنت من رفع سقف ممكنات القراءات السيميائية. هو عرض، حسب تقديري، قرر فيه المخرج خمران عبد الجبار وفريق “دوز تمسرح” أن يشتغل باستعداد كبير وإعداد محكم على نظرية جمالية التلقي للعمل المسرحي، على اعتبارها أهم عملية في الإبداع الفني، بمعنى أنه اشتغل على إيصال (ما يريد) أن يقوله النص المسرحي لكل فئات الجمهور/ المتلقي بمختلف مستوياتهم من دون إقصاء؛ فنجد أنه ركز على كل أبعاد التلقي؛ البعد السمعي – من خلال جعل الموسيقى جزءاً من الرؤية الإخراجية وعنصر مهم في التركيبة الدراماتورجية للعرض ومرآة عاكسة لأحاسيس و تموجات الشخصيات وإيقاع الحدث الدرامي – البعد الثاني هو البعد البصري – عبر الإشتغال على الجسد وعلى تموقعات الممثلين من خلال رقصات تعبيرية تجسد حالات نفسية تعكس دواخل الشخصيات سواء على مستوى علاقتها بنفسها أو على مستوى علاقتها بالآخر – أما البعد الثالث فهو البعد الحسي – و هو أعقد تركيبة في سؤال التلقي، و الذي يتجسد من خلال رسم مشاهد حسية ووجدانية تعكس قضايا مجتمعية تمس الفرد والمجتمع، تمس الرجل والمرأة، تبحر في ثنائية الجبر والإختيار وترسم تقاطعات حتمية الحياة والموت.

عرض (صباح ومسا) يمكن تصنيفه في خانة العروض التي مثلت “حساسيات جديدة” تسعى الى إخراج المسرح/ المَسرَحة من إطاره الكلالسيكي ودفعه نحو أفق أرحب، أفق يضمن انفتاحه على تناولات نقذية مختلفة وعلى ممكنات قراءة سيميائة متعددة تتحد من خلال زوايا النظر المختلفة.. انه يحرك وعي المتلقي ووجدانه ويجعله ينخرط في الفرجة/اللعبة المسرحية. 

رضوان خمران – المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش