شكسبير.. سرُّ الخلود وصناعة الجمال علي لفتة سعيد

المصدر : المدى : نشر محمد سامي موقع الخشبة

لم يكن وليم شكسبير الذي يعرفه العالم باسمه الثاني شكسبير(1564 – 1616) وليد صدفةٍ بل كان قدراً لكي يقول جملته الكبيرة وتسير من بعدها الفنون الأخرى على ذات النهج كونها تصنع الحياة حيث قال: (المسرح يصنع الحياة) وهو الذي دخل قرنين كانا ربما من أصعب القرون التي مرت على البشرية، ليس من حيث الحروب بل من حيث التأسيس للحياة والانتقال من مفهوم السلطة صانعة الحياة الى مفهوم الفن والجمال والحرف والتوق الى صناعة ما هو مؤثّر في كينونة الانسان.. وحين نقول أنه لم يكن صدفةً فإنه ربما وبحسب مسحٍ بسيطٍ نجده الكاتب الأوحد أو الأكثـر ترجمةً لأعماله، سواء منها المسرحية ـ والشعرية فضلاً عن استمرار مخرجي العالم في إخراج أعماله، أو استلهام أعماله لتكون ميزان أعمالهم، أو قيام مؤلّفين باستنطاق نصوصهم من خلال نصوصه وتضمين نصوصهم بأقوالٍ من مسرحياتهم، سواء كان الهدف منها إعطاء ملمحٍ لقوّة نصوصهم أو استغلال الأسم لتبوّأ النصّ الجديد مكانة.

شكسبير هو الأكثر قدرة منذ القرن السادس على معرفة خفايا الإنسان.. وبالإمكان القول إن تلك الفترات لم تكن مزمنةً في التقدّم العلمي بل مصابةً بتثوير العقل والفلسفة والتفكير المنطقي واستنتاج واستظهار واجتراح حتى المصطلحات الفنية منها والأدبية، وهي الفترة التي شهدت فيها تقدم العقل على العاطفة، وربما يعود الفضل في أغلبه لشكسبير، كون نصوصه التي يمثلها هو أو يخرجها كانت تعرض لتكون مؤثّرةً في مواجهة الجمهور، وكان الجمهور يفهم الرسالة.. خاصة وإن فترة الفتوة والشباب التي كان عليها هي التي جعلته ثائراً على حزن الحياة بهدف إنتاج ما هو جمالي، فوجد وهو بعمر الخامسة والعشرين، إن المسرح هو الذي يتيح له هذه الخاصية، فكتب أغلب مسرحياته ونصوصه الشعرية من 1589 الى 1613.
ولأن ذكراه الأولى بعد الأربعمئة هذا العام، دليل على إن لا شخصية مثله تخضع لكلّ هذا الاحتفال والاحتفاء.. لكن السؤال الذي يمكن أن يكون مطروحاً في مواجهة الظاهرة الشكسبيرية إن صحّ التعبير، ما هو السرّ في خلود هكذا شخصية قد تكون موازية في شهرتها لبعض الأنبياء وأكثر شهرةً حتى من العلماء، إذ إن الجميع حول العالم يعرف شكسبير، لكن لا أحد يعرف من هو السياسي الذي كان في زمنه يقود البلاد،  إلّا إذا رجع الى التاريخ وكتبه.. وقد كنت أردّد دائماً للأصدقاء، إن الفن هو الأبقى دوماً لأننا نقرأ للمبدعين ونعرف أسماءهم المتداولة ومنهم شكسبير الذي من خلاله نعرف في أي قرنٍ كانت عليه بريطانيا وكيف كان منتجها الثقافي، ولكن لا أحد يعرف التاجر في ذلك الزمن أو رجل الدين أو حتى السياسي.
إن الإجابة هنا قد تكون صعبةً ولن تكون من خلال عملية بحث تاريخية لأن الأسرار دائماً ما تكون مدفونةً وإلّا فقدت عذريتها.. والرجوع الى التاريخ لا يتيح معرفة الحقيقة بجوانبها الثلاثية الأبعاد، بقدر ما تكون محكومةً بنزعات التوافق والتعارض، خاصة وإن تعريفنا للتاريخ” إنه رجل أعور وصاحب فتنة” يتيح لنا التركيز على التحليل أكثر من الوقوع في البحث عن حقيقة مدفونة تحت طيات الزمن.. والإجابة هي، إن عبقرية شكسبير وتوقه للتقّدم وإيمانه بما يقوم به وقبل كل شيء حبّه لنفسه والفن وايمانه إن ما يقوم به هو الحقيقة، ثم إن الخطوات الأولى لاكتشافه لهذا الفن هو الذي جرّه الى اكتشاف موهبته، لأنه كان قد دخل المسرح (كخادم في مرتبة وضيعة جداً) وكذلك (صدره كان يجيش بأشد الطموح ).. ويمكن مراقبة أداء شكسبير من  خلال التحليل، إن الكثير قبله قد ولدوا من أجل المسرح وكتبوا له وكان هو فاحصاً للنصوص ومنقّحاً لها لكي تقدّم للمسرح، وهذه النصوص كانت تسمى روايات مسرحية، ثم إنه ممثل أيضاً، فاجتمع حبّ المسرح مع موهبة التمثيل، ليكون منتجاً مسرحياً.. ولأن العالم يعرف شكسبير مؤلّفاً أكثر من كونه ممثلاً وشاعراً، فإن السرّ يكمن في إنه ومن خلال كتابته للروايات كان يبحث عن الذات لا عن الظاهرة، كان يريد النقد للجمال والحياة والمعرفة لا إصابة الحياة بالتذمّر.. إن السرّ يكمن أيضاً إنه تمكّن من التحوّل من إنسان فقيرٍ الى إنسانٍ يمكنه ولوج أصعب الأماكن سواء منها الحكومية أو النفسية، وبالتأكيد فإنه تأثر بالفلسفة وما حمله افلاطون وارسطو وسقراط ومن قبلهم وبعدهم، ممن تمكنوا من وضع الخطوات الأولى لفن الشعر والحياة والجمال والمسرح.. مثلما يكمن السرّ بأن المخرجين والمؤلفين وجدوا في كتاباته ما ينقصهم من قدرة الغوص في الأعماق البشرية التوّاقة للحياة والمناهضة لكلّ ما هو سيّئ.. فكلّ العبقرية التي يتمتّع بها شكسبير لم تكن متوافرةً لديهم، فانتبه لها الفنانون الآخرون سواء ممثلّين ومخرجين ومؤلّفين الى هذه العبقرية لتأليف وخلق عبقرياتهم، فزادوا من قوّة حضور شكسبير بعد موته الذي كان كما يذكر المقربون له (لقد مات شكسبير كما عاش، من غير ما يدل كثيراً على انتباه العالم، ولم يشيّعه إلا أسرته وأصدقاؤه المقربون، ولم يُشِد الكتاب المسرحيون الآخرون بذكراه إلا إشادات قليلة، ولم تظهر الاهتمامات الأولى بسيرة شكسبير إلا بعد نصف قرن).
إن الدخول الى عالم شكسبير من قبل الفنانين بعد موته، يعد واحداً من أكثر العوامل التي أعطت للعبقرية أن تكون متاحةً، كونه كان في مسرحياته لا يشير فقط بل يعالج، ولا ينتمي بل يخلق، ولا يقف بل يواجه، ولا يصمت بل يصرخ، حتى إن مسرحياته لم تترك تصنيفاً إلّا وولجته، سواء منها الجادة أو الهزلية وحتى التاريخية التي لم يكن يسعى لتدوين التاريخ بل لتوضيح حقيقته.. ويكمن ربط هذا الاستنتاج بأن شكسبير كان شاعراً كبيراً، لكن المسرح هو الذي استحوذ على اهتمام العالم وكانت مسرحياته تمازجاً ما بين الفعل الدرامي والشعر.. حتى إن مقولة (أكون أو لا أكون هذا هو السؤال) لم تزل تتردّد في الأرجاء على مرّ القرون وليس السنين فضلاً عن مقولته (الرجال الأخيار يجب ألا يصاحبوا ألا أمثالهم) وهي مقولة فلسفية يمكن معرفة الاتجاهات الفكرية لشخصية مثل شكسبير، ومثلها تحمل مقولته الأخرى عن الحب ذلك العمق الفلسفي الكبير (يمكننا عمل الكثير بالحق لكن بالحب أكثر ) وهي دعوة لم تزل نحتاج الى العمل بأصولها سواء بالحياة، أو من خلال استثمارها في أعمالٍ فنيةٍ أو أدبية .. وهناك الكثير من الناس حول العالم يردّد أقوالاً وربما لا يعرف إنها لشكسبير من مثل (الذئب ما كان ليكون ذئباً لو لم تكن الخرافُ خرافاً) وكذلك (مداد قلم الكاتب مقدس مثل دم الشهيد) وتلك اللوعة التي ينطقها العشاق دوما (أن الحزن الصامت يهمس في القلب حتى يحطمه) لإعطاء المزيد من جرعات الشجاعة والمواجهة مع الحزن لكي يكون المرء قوياً.. وإن مقولته الأشهر التي تعدّ ما يشبه براءة اختراع له (الدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح ) ومقولته الأشهر الثانية (موت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتي أجلهم، أما الشجعان فيذوقون الموت مرة واحدة) يردّدها دائماً من يطلقون على أنفسهم صفة النضال.
وربما أجمل مقولة يجعلها الآخرون حكمةً أو مفهوماً مقلوباً أو حقيقةً متوارية (الأحمق يظن نفسه حكيماً، لكن الرجل الحكيم يعرف أنه أحمق ) لأنه دائماً يفكّر، وهو ما يعطي مدلولاً إن شكسبير لم يركن الى تفكيرٍ محدّدٍ أو أنه كان قنوعاً بما لديه، بل استفاد من كونه شاعراً ومؤّلفاً وفاحصاً ومخرجاً ليكون كاتباً مسرحياً بامتياز.
إن مسرحيات شكسبير لا يمكن حصرها في فئةٍ محدّدةٍ كما ذكرنا لأنها كما قال النقاد عنها (تاريخيات شكسبير‏ وتراجيديات شكسبير‏ وكذلك كوميديات شكسبير‏) ولكن من بين العشرات من المسرحيات التي كتبها أو مثلها شكسبير تبقى مسرحيات لها رنينٌ خاص وإنها ذائعة الصيت أكثر من غيرها، مثل انطونيو وكليوباترا وتاجر البندقية وحلم ليلة صيف والعاصفة وماكبث وهاملت وكذلك وهنري السادس ويوليوس قيصر والملك لير والاشهر للعشاق روميا وجوليت وكذلك عطيل. وآخر المسرحيات العاصفة التي أراد شكسبير فيها معالجة  قضية القدر والإرادة الإنسانيّة باستخدام طرق روي جديدة ومعالجة فنطازية.
إن شكسبير سيبقى سرّ العالم الجمالي التوّاق الى معرفة أن الجمال هو الذي يصنع الحياة، وإن الفن روح الجمال، وإن مقولةً حقيقيةً صادقةً قد تصنع جيلاً كاملاً فيه من الوعي ما يصنع حضارة.. مثلما يبقى الآخرون رهيني البحث عن سر كل هذا الخلود.!!

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *