شخصية المضحك في المسـرح /علي خليفة

 

 

 

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

لمضحك – أو المهرج أو البلياتشو أو البهلوان هو شخص عمله الأساسي إضحاك الناس وتسليتهم.
ولا تكاد أمة تخلو في أي عصر من وجود هذه الشخصية التي منحها الله القدرة الكبيرة على إضحاك غيرها مستخدمة وسائل القص والحكي والتمثيل، وعناصر الإضحاك المختلفة كإلقاء النادرة والتعليق المضحك، والقيام بالحركات والإيماءات المثيرة للضحك، وأيضًا تقليد البشر والحيوانات وأصوات الطبيعة المختلفة، وغير ذلك من وسائل المضحكين في كل عصر وكل مكان.
وليس كل مضحك يمتلك هذه المواهب كاملة، بل بعض المضحكين يتميزون في مواهب معينة وآخرون يمتلكون مواهب أخرى في الإضحاك.
وعرف العرب قديمًا هذه الشخصية سواء أكانت مضحك الشعب كأشعب والغاضري وابن المغازلي، أو مضحك الخلفاء والأعيان كأبي دلامة وابن أبي مريم المدني.
ولكن لعدم معرفة العرب المسرح قديمًا، فلم نر هذه الشخصية إلا في الحكايات الطريفة والنوادر القصيرة.
وحضور هذه الشخصية في هذه الحكايات والنوادر يعلي كم الفكاهة بها، فتصير – في رأيي – من أمتع الحكايات والنوادر.
أما عن وجود هذه الشخصية في المسرح القديم، فالحقيقة أنني لم أر لها مكانًا واضحًا في المسرح اليوناني سواء التراجيديا أو الكوميديا.
فلم تكن التراجيديات اليونانية فيها مواقف طريفة للتخفيف عن المشاهد، كما في بعض مسرحيات شكسبير، كمسرحية ماكبث ومسرحية الملك لير، بل كانت التراجيديات اليونانية القديمة مشبعة بجو الأسى من بداية المسرحية حتى نهايتها.
أما الكوميديات اليونانية لاسيما مسرحيات أرسطوفان، فلم أر هذه الشخصية في أي مسرحية قرأتها له، وربما كان ذلك لأنها لم تكن شائعة في المجتمع اليوناني آنذاك.
ومع ذلك فيلاحظ أن العبيد والخدم في مسرحيات أرسطوفان كانوا يقومون بأدوار تهريجية أشبه بما يقوم به المهرج في مسرحيات شكسبير على وجه الخصوص.
ولم يزدهر المسرح في العصر الروماني، لانشغال الرومان بمباريات المصارعة الدموية عن أي شىء، ومع ذلك فما قرأته من مسرحيات رومانية لبلاوتوس وترنتيوس فير ليس فيه هذه الشخصية.
وشكسبير – على وجه الخصوص – أهم كاتب وظف هذه الشخصية في مسرحياته التراجيدية والكوميدية، وفي مسرحياته التراجيدية كان يهدف من وراء وجودها تخفيف الأثر التراجيدي عند المشاهد من حين لآخر في المسرحية، وكان يهيئه بظهور هذه الشخصية لمواقف عصيبة بمسرحياته، كما نرى في مسرحية ماكبث، فهناك أشخاص يتصرفون كالمهرجين السكارى قبيل مقتل الملك دنكان، وأيضًا نجد في مسرحية الملك لير أن من أقرب الناس إلى لير – بعد أن تخلى عنه الكثيرون – مهرجه الذي يصاحبه في رحلة معاناته، وأحيانًا يقوم بالتهريج لتخفيف الأثر التراجيدي في بعض المواقف بالمسرحية، وأحيانًا ينطق بالحكمة مغلفة بتهريجه وادعائه الجنون.
وكذلك نجد هذه الشخصية المضحكة الظريفة في بعض مسرحيات شكسبير الكوميدية مثل شخصية فولستاف.
وإذا نظرنا للمسرح الكلاسيكي الذي كان معاصرًا في فترات منه للمسرح الإليزابيثي – فإننا لا نجد كتاب التراجيديا الكلاسيكية – لاسيما كورني وراسين – يوظفون شخصية المهرج في مسرحياتهم تلك، كما وظفها شكسبير في تراجيدياته.
وكذلك لم أر هذه الشخصية في أي مسرحية قرأتها لموليير، – وقد قرأت أكثر مسرحياته – ولعل من أسباب هذا أن موليير لم يكن بحاجة لهذه الشخصية ليبث الكوميديا من خلالها في مسرحياته؛ لأنه كان يعتمد على بث الكوميديا فيها من خلال النماذج الكوميدية كالبخيل والمتحذلق، والمدعي العلم، ومدعي المرض، وغير ذلك من النماذج الكوميدية التي أوجدها في مسرحه، وبث الكوميديا من خلالها، وبخاصة في علاقاتها بالآخرين، أو المفارقات التي تحدث في اختلاطها بهم.
وفي المسرح العالمي الحديث وظفت هذه الشخصية كثيرًا، ولكن ليس الهدف من ذلك مجرد التهريج والإضحاك، ولكن من أجل أهداف أخرى، ولا بأس بأن يكون الإضحاك هدفًا ثانويًّا خلال ذلك.
ومن المسرحيات الحديثة التي اعتمدت في بنائها على هذه الشخصية مسرحية “المهرج” لجون أوزبورن. وهذه المسرحية تعرض حال أسرة من الجد والابن والحفيد يمارسون مهنة المهرج في المسارح الصغيرة، ويقدمون من خلالها بعض فنون الفرجة الطريفة، والتعليقات الساخرة، والنكات المضحكة.
وتصور المسرحية حال هذه الأسرة البائسة من خلال ما تعانيه من أوضاع حياتية صعبة، ومشاكل أسرية عويصة.
ومن أهم ما تعانيه هذه الأسرة أفول نجم هذه الشخصية
– شخصية المهرج –، فقد ظهرت فنون أخرى سحبت منها الأضواء، كالسينما والتليفزيون.
ونرى خلال المسرحية عرضًا لمشاكل هذه الأسرة، وأيضًا فقرات من التهريج يقوم بها الابن في صالة العرض ليضحك زبائنه.
وأيضًا من المسرحيات العالمية التي ظهرت فيها شخصية المهرج مسرحية “أسكوريال” للكاتب البلجيكي “ميشيل ديجلدرود”. وفي هذه المسرحية يظهر المهرج فوليال، مع ملك مريض بالسادية، ويستمتع بالتعذيب والقهر، ويتبادل مع مهرجه الأدوار في المسرحية برغبة من الملك، فيصبح المهرج ملكًا لدقائق والملك مهرجًا.
ثم تعود الأوضاع لطبيعتها، وتنتهي المسرحية بقتل الملك لمهرجه، وفي الوقت نفسه تموت الملكة التي كان يحبها المهرج، ويسئ الملك معاملتها.
وهذه المسرحية تصنف ضمن المسرحيات الطليعية، وضمن مسرح القسوة على وجه الخصوص. ويمكن أن نفهم من هذه المسرحية أن البراءة والضحكة الصافية لم يعدلهما مكان في عصرنا الذي ساده القهر والقسوة والألم.
أما عن توظيف هذه الشخصية في المسرح العربي الحديث، فإننا نجد بعض الكتاب قد وظفوها لأهداف مختلفة وبطرق مختلفة أيضًا.
ولعل أول من وظف هذه الشخصية في المسرح العربي الكاتب على أحمد باكتير في مسرحية “أبو دلامة مضحك الخليفة”، وفيها يظهر أبو دلامة شخصًا خفيف الظل كثير التواجد في قصر الخليفة لإضحاكه، وكذلك نراه أحيانًا في بيوت بعض السادة لإضحاكهم، وفي بعض الأسواق يعيش مع بعض الناس ليضحك منهم؛ وليضحك آخرين عليهم.
وهذه المسرحية طريفة في القراءة، وفي التمثيل أيضًا، ولكنها مع ذلك تفتقد قوة البناء؛ لأن الكاتب جمع فيها نوادر أبي دلامة وحكاياته الطريفة، ولكنه لم يحاول إعادة النظر فيها وتنسيقها لخلق كوميديا متماسكة منها.
ومع ذلك يظل لباكثير فضل الريادة في توظيف هذه الشخصية التراثية في المسرح العربي بمسرحيته هذه.
وهناك من المؤلفين العرب من وظفوا شخصية المهرج في مسرحياتهم لأهداف سياسية، ولبث الفكاهة فيها أيضًا، كما نرى في مسرحية الملك هو الملك لسعد الله ونوس، ومسرحية الرجل الذي يريد أن يضحك لوحيد حامد.
ففي المسرحية الأولى، هناك مضحك للملك، وهناك أيضًا أبو عزة الذي يدَّعي أنه هو الملك الحقيقي، ويجتمع بعامة الناس، ويتحدث إليهم على أنه الملك، وينظر إليه الكثيرون على أنه مجنون أو مهرج مضحك، ثم بعد ذلك يحاول الملك الحقيقي أن يعبث به، ويضعه في منصب الحكم، ولكن ذلك المهرج يستطيع أن ينفرد بالحكم دونه.
أما مسرحية الرجل الذي يريد أن يضحك لوحيد حامد، فبطلها بهلول شخص ظريف يسهر كل ليلة في حانة فقيرة مع بعض رفاقه، ويشربون ويمزحون، ويأتي إليهم وزير الملك، ويطلب إلى بهلول ومن معه أن يأتوا لإضحاك الملك الذي لم يعد قادرًا على الضحك، ويتهددهم بأنهم إن لم يضحكوه فسيكون مصيرهم الموت.
ويأتي بهلول مع رفاقه لإضحاك الملك بعد أن يكونوا قد أعدوا تمثيلية قصيرة يمثلونها أمامه، ويفهم منها أن عدم قدرة الملك على الضحك؛ لأنه لا يحسن إلى رعيته، ولا يرعى شئونهم.
والجزء الثاني من المسرحية تكاد تختفي الفكاهة منه، وفيه يكون بهلول المضحك جادًّا في أدائه لدور الملك الذي يعجز عن الضحك لظلمه لرعيته.
أيضًا وظف يوسف إدريس شخصية المضحك في مسرحية “البهلوان”، والبهلوان في هذه المسرحية، يعيش حياة جادة لا متعة فيها، خاصة في وظيفته الأساسية، ويرى أنه بهذا لن يستطيع مواصلة الحياة، ويلجأ للعمل بسيرك في وظيفة بهلوان؛ حتى يرضي الجانب الآخر من نفسه، وبهذا يرى أنه يستطيع أن يتوازن في حياته، بين الجدية التي يضطر للتعامل بها في عمله الأساسي، وبين إفراغ شحنة التهريج في السيرك.
وأحيانًا نرى لشخصية المهرج حضورًا ثانويًّا في بعض المسرحيات، مثل مسرحية “عريس لبنت السلطان” لمحفوظ عبد الرحمن. فمضحك السلطان فيها شخصية ثانوية، ومع ذلك فهو من أعقل الناس الذين يعيشون داخل السلطنة، ويصفه أحد أبطال المسرحية بأنه أعقل واحد في هذه السلطنة.
وهو ينطق ببعض الحكم والعبارات الثورية، ويسجن من قبل الوزير، ومع ذلك فهو شخصية ثانوية في المسرحية، ويمكن الاستغناء عنها أيضًا.
وبهذا نرى أن شخصية المهرج شخصيته ثرية في المسرح قديمه وحديثه، وأن توظيفها في المسرح القديم يختلف كثيرًا عن توظيفها في المسرح الحديث، فقد أخذت في المسرح الحديث أبعادًا سياسية ونفسية واجتماعية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *