سيميولوجيا الثقافة.. مدرسة موسكو تارتو الجزء الاول/أحمد شرجي

 

المصدر / المدى / محمد سامي موقع الخشبة

اتجهت مدرسة تارتو إلى دراسة العلاقات التي تربط الأنظمة المختلفة مثل: علاقة الأدب بالبنيات الثقافية الأخرى، كالدين والتقاليد والأعراف، من أجل الكشف عن العلاقة التي تربط تجليات الثقافة الواحدة عبر تطورها الزمني، أو بين الثقافات المختلفة، أو بين الثقافة واللاثقافة (عبد الله إبراهيم وآخرون، معرفة الآخر، ص:109 ما بعدها).

ولأن الثقافة: هي تنظيم كل مفاصل المجتمع في مجالاته المتعددة، لجمع كل ذلك في وعاء واحد، فإن هذا التنظيم يكشف على أن كل ما هو خارج الثقافة، يمثل فوضى، إلى الحد الذي “يبدو الثقافي واللاثقافي مجالين يحدد كل منهما الآخر، ويحتاج إليه، وأن آلية الثقافة نظام يحول المجال الخارجي إلى نقيضه الداخلي، يحول الفوضى إلى نظام، ويحول الجهلاء إلى علماء، والمذنبين إلى أولياء، ويحيل الفوضى إلى معلومات، ولأن الثقافة لا تعتمد في حياتها على التقابل بين المجالين الداخلي والخارجي فحسب، بل تعتمد على الحركة من أحدهما الآخر، فإنها لا تحارب (الفوضى) الخارجية فقط، بل إنها تحتاجها أيضاً، إنها لا تكتفي بتحطيمها، ولكنها أيضاً تخلقها باستمرار”( يوري لوتمان، وبوريس اوسبنسكي،  ص:319).
وبناءً عليه، فقد ميزت جماعة تارتو بين مفهومين للثقافة وفق الدراسات السيميوطيقية:
– مفهوم الثقافة من منظور النظام العلمي الذي يصفها.
– الثقافة من منظور الثقافة ذاتها، بمعنى تمظهرها في مجالات متعددة وأشكال محددة. ويتعارض هذا التمظهر مع ظواهر التاريخ البشري والخبر والممارسة الحياتية اليومية.
يرتبط مفهوم الثقافة ­إذن­ بنقيضه “اللا ثقافي”. وهذا يتوقف على نمط الثقافة المعطاة من حيث التعارض، مثل: تعارض الديني والدنيوي، والمعرفة والجهل. ولعل الأهم في هذا التعارض، هو الانتماء لمجموعة عرقية معينة، وعدم الانتماء إليها. وكنه هذا التعارض هو الانصهار داخل مجال مغلق والخروج عنه من أجل تأسيس شكل مفهوم الثقافة من المنظور الداخلي. وتتأسس الثقافة من وجهة نظر أعضاء جماعة تارتو، “على أنظمة سيميوطيقية متدرجة من ناحية، وعلى ترتيب متراكم للمجال اللاثقافي الذي يحيط بها من ناحية أخرى. ولا جدال في أن البنية الداخلية ­التي تعتمد على التآلف والترابط المشترك بين أنظمة سيميوطيقية فرعية خاصة­ هي التي تحدد نمط الثقافة في المحل الأول”( يوري لوتمان، وبوريس اوسبنسكي، ص:322).
ومن هنا، فإنه من الممكن أن تشكل ثقافات عديدة وحدة بنائية أو وظيفية، نتيجة ارتباطات عرقية أو جغرافية أو سياقات دينية أو مذهبية عقائدية. وتندرج الثقافة الإسلامية والثقافة اليهودية والمسيحية ضمن هذا المفهوم، بحيث يشكل الارتباط العقائدي لهذه الأديان ­مذهبياً­ الفروع الثقافية للوحدة البنائية المتكاملة وظيفياً، وعلاقتها مع بعضها البعض. كما يشكل من جانب آخر، علاقة الفرع الثقافي داخل الوحدة البنائية المتكاملة التي تتضمن التعدد الثقافي. ونستدل على ذلك بالثقافة الإسلامية التي ينتهجها الفرد العراقي، ونظيرتها في تونس أو المغرب وغيرهما من البلدان، فهي تندرج ضمن الوحدة البنائية ووظيفتها الثقافية. لكن الثقافة الإسلامية المذهبية الفرعية (الشيعية) للشيعي العربي العراقي، لا تنخرط بالضرورة ضمن الوحدة البنائية المتكاملة مع الشيعي الإيراني، وقد لا تتطابق. وهنا يبرز لنا الاختلاف الجوهري، وهو الاختلاف اللغوي، الذي يشكل عائقاً أمام تواصلهما عقائدياً، وفق مفهوم الوحدة الثقافية الواحدة أو الوحدة البنائية. وينطبق الشيء ذاته على العادات والتقاليد والسلوكات المكتسبة، لأنها تخضع لطبيعة المجتمع.
لقد اهتمت مدرسة تارتو بالثقافة، بوصفها الوعاء الشامل الذي يضم جميع نواحي السلوك البشري. ويتعلق هذا السلوك وفق السيميوطيقا­ بإنتاج العلامات وطرائق استخدامها داخل المجتمع. ولذلك فإن العلامة ­حسب جماعة تارتو­ لا يمكن أن تكتسب دلالتها إلا من خلال وضعها في إطار شكلها الثقافي والبيئة التي ولدت فيها، على اعتبار أن العلامة الدلالية لا تنتج إلا من خلال العرض والاصطلاح، بفعل التفاعل الدينامي للمجتمع. ولهذا لا تنظر جماعة تارتو إلى العلامة بشكلها المفرد، بل بشكلها الجمعي بوصفها أنظمة دالة، أيّ مجموعات ونظم من العلامات، ترتبط ببعضها البعض. واتخذت طروحات مدرسة تارتو عمقاً خصباً، انطلاقاً من بحثها عن علاقة الأدب بالبنيات الثقافية الأخرى مثل: الدين، والاقتصاد، والسلوك اليومي، والعادات، والتقاليد. ومن ثم الكشف عن تجليات ذلك الاختلاف عبر تطورها الزمني(سيزا قاسم، السيميوطيقا: مدخل إلى السيميوطيقيا،ص:38-44).
فالثقافة من المنظور السيميوطيقي، هي أنظمة من العلامات المتنوعة والمتعددة، مما يحتم دراسة هذه الأنظمة وفق معطيات العلائق المشتركة التي تربطها ثقافياً، واجتماعياً، ونفسياً، لأن التغيرات الثقافية في مجتمع ما­ وخاصة في المجتمعات التي تخضع لتغير اجتماعي حاد­، هو تغير ذو مغزى و”يكون عادة مصحوباً باتساع في مدى السلوك السيميوطيقي” الذي قد يعبر عنه بتغير الأسماء والألقاب، إلى درجة أن محاربة الطقوس القديمة قد تصبح هي ذاتها الطقس الجديد. ومن زاوية أخرى، فإن إدخال صيغ جديدة من السلوك وكثافة القدرة السيميوطيقية للصيغ القديمة يمكن أن يفصحا عن تغير نوعي في نمط الثقافة…”( يوري لوتمان، وبوريس اوسبنسكي، ص:296). وهو ما تعرفه العديد من الثقافات العربية، من خلال عودة الحركات الدينية الأصولية والسلفية، بعد (الربيع العربي). فقد تحولت علمانية بلدان عربية مثل: تونس، وليبيا، ومصر، والعراق إلى أصولية متشددة. وما ينطبق على البلدان العربية نجده في بعض البلدان الأوربية مثل ألمانيا وخاصة في جانبها الغربي، التي تشهد حراكاً شديداً لجماعة “النازيين الجدد”، وبدأت هذه الحركة في الاتساع وأضحت لها جيوباً في اليونان، وهولندا، وانكلترا، واسبانيا. ومن جانب آخر، تبرز ثقافة الطقوس القديمة من جديد داخل الثقافة المعاصرة، عبر جوانب عديدة منها العادات، والتقاليد، وأزياء الموضة، وحلاقة الشعر، والبناء العمراني، لأن التغيرات في نظام ثقافي ما “ترتبط بتراكم في  المعرفة أثمرته الجماعة البشرية، وترتبط كذلك باحتواء الثقافة على العلم بوصفه نظاماً مستقلاً نسبياً وله مبادراته الخاصة”( يوري لوتمان، وبوريس اوسبنسكي، ص:309).

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *