رحيلك يا منصف السويسي رحلة تتواصل في انكماش الفراغ

د. صلاح القصب 

في ليلة بلا قمر والسماء تمطر والرياح لا تكل وعلى الجدران الزجاجية دموع اغرقها المطر في تلك الليلة التي جمعتني مع صديقي الراحل المنصف السويسي في تونس حدثني عن مسرحيته الأخيرة والارض المستطيلة.

“المشهد الأول” 

ستارة المسرح الحديدية ترتفع خلف أبواب زجاجية، برك لا يتحرك فيها المساء، رجال ونساء من الشمع في حلبات سياق الخيل، حشد من إيادٍ مصافحات لا تهتز، صرخت الله يا منصف هذا المشهد يؤشر لي كجوق ينشد نشيد الأبدية. المنصف السويسي صامت لا يتكلم كأنه اختفى في حلم أسطوري.

“المشهد الثاني” 

كانت قراءته كمخرج لتلك المسرحية أشبه برذاذ الموت والدمار، أيادي الممثلين تمتد باتجاه الأضواء التي كانت تشع كألسنة نيران ملتهبة، أرتال أطياف زرقاء تتجه نحو ظلمة الفراغ ما بين الفكرة والواقعة ما بين الحركة والفعل والأطياف تتساقط على الارض المستطيلة، حشود أخرى لممثلين يرتدون ملابس فسفورية زرقاء تتجه نحو الأطياف المشعة بالحرارة النووية تريد الأمساك بها.

لحظات صمت، كل شيء توقف، الزمن تجمد داخل الزمن، الأضواء تتغير لتشكل لنا مكاناً آخر لعرض أوبرالي خلف ابواب زجاجية مضببة ، هنا صمت المنصف السويسي مذهولاً صرخ بصوت أشبه بزفير شلالات مياه تندفع من بحيرات تمحو ظلال الذاكرة، بعدها توقف السويسي عن الكلام في ألم لا يمكن وصفه، استيقظ فجأة ليهمس في أذني سراً قال يا صلاح رأيت أمس حلماً لخيول تجفل في لجة الغبار تريد ان تخترق الأبواب الزجاجية والقلاع مزدحمة بعربات محملة بالميتين، كيف أستطيع فك شفرات هذا الحلم الكابوس وكان هناك فراغ ممتد بأتجاه الشمس محفوراً بأقدام الريح.

“المشهد الثالث” 

المسرح يشع بهاءً من ثريات لا نظير لها – حشود من الممثلين عراة دخلوا الى غرف زجاجية كي يستحموا بماء المطر. ظلالهم مزدحمة، متداخلة ومتشابهة يركضون يريدون الإمساك بظلالهم التي استطالت كأشجار الشتاء المدثرة بالثلج يركضون، يصرخون في فضاءات المسرح المسكونة بالوجع والخوف، أصواتهم تتلاشى وتمتزج مع الفراغات الرطبة التي تملأ المكان، المنصف السويسي استيقظ ثانية وقال بصوت رطب يا صلاح القصب المسرحية لم تنتهِ بعد فقلت مندهشاً الله يا منصف السويسي إعد إليّ عقلي الواعي لقد انزلقت روحي في تلك الفراغات الرطبة، قال سأعيد لك وعيك بعد هذا المشهد.

“المشهد الرابع” 

توابيت فضية تبدو كغابة ثلجية تنتظر إشارة كي ترحل داخل زمن الخطيئة الوحشي، كان هذا المشهد كزئير ليل طويل بالنسبة لي، بعدها أمتلأ المسرح بجنود البعض يرتدي ملابس الوقاية النووية، أطباء ممرضات، موسيقيون ، مهرجون، مجانين، كانوا متعبين يتصببون عرقاً يركضون الى حيث لا تستطيع الحشود الأخرى اللحاق بهم، استيقظ صوت المنصف السويسي ثانية قال يا قصب هكذا هو المشهد الأخير لمسرحية (الارض المستطيلة) سأعيد لك وعيك في نار الحلم وتصدعه، المشهد كان أشبه بمدينة ميتة، صمت ،لا شيء هناك غير أضواء تشع من مكان الى آخر على سرادق أشبه بأغطية المرضى الأضواء تتلاشى تدريجياً تدريجياً ،تتموج وتتغير ما يخلق جواً مرعباً في فضاء يبعث في ممراته ظلالا شفافة غير محددة ، نساء متسربلات بالبراقع السوداء غارقات في الدموع يحمللن بأيديهن زهوراً عليلة، يدخلن في ممرات طويلة ويبتلعهّن الظلام الداكن قرع الأجراس يربك سكون الليل، الأجراس تدق بلا انقطاع صرخ المنصف السويسي مرة اخرى يا قصب أنظر الى هذا المشهد أنه نشيدي الأخير في “الارض المستطيلة”.

“النشيد الأخير للارض المستطيلة”

هياكل دراجات نارية جاثمة وسط مراء لا شيء هناك غير قبر مشيد بمرمر اخضر، ساعات ذات نبرات مأتمية وأصوات عويل الدراجات لم يتوقف، اطياف تحوم بقلق وجنون حول حلقات الضوء المتشابك الذي يحفر على الارض خطوطا أشبه بالزمن الذابل. المنصف السويسي يسحب الستار كي يرى الفراغ ولم يبقَ من كل العرض الذي تم نسيانه سوى هذه الصورة النهائية، رحيلك يا منصف السويسي رحلة تتواصل في انكماش الفراغ .

————————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – المدى

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *