د. لمياء انور تكتب : رائحة الحرب وتداعي الذكريات

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

عندما تطارد الأحلام بل الكوابيس صاحبها لتصبح جزءاً لا يتجزأ من حياته يعيش بداخلها وخارجها ، يحيا الجد حياته محاصراً برائحة الحروب التي ملئت وأختنقت بها الغرفة الإفتراضية

التي يعيش فيها هو وزوجته وحفيده ، تلك الغرفة وربما رأس هذا الجد الذي يتداعى ذكرياته مع الحروب التي عاشتها العراق ، ومنذ الوهلة الأولى للعرض يأخذنا الجد (رجل الحرب)”عبد الستار البصري” إلى الإيمان بنوازعه الدينية المستتر ورائها في تجسيد حي لإقامة صلاة يصطف فيها هو وزوجته والحفيد ، حيث يؤكد المشهد المسرحي من المدخل الرئيسي للعرض ، لإباحه الجد لأفعاله الاجرامية في الحروب التي خاضها ، هو ما أكده من خلال الحوار بإطلاق لسانه بالآيات الدينية المختلفة ، كما أنه لم يخلق إلا ليحارب ويجاهد في سبيل الله ، فالمجاهدون لهم جنات عرضها السماوات والأرض ، وهنا ينزل وابلاً من اتهامات الزوجة (الجدة)”بشرى اسماعيل” على زوجها بأنه مجرم وليس محارباً بل محتالاً ، وفي عدة حوارات دائرة بين الحفيد والجد ، يسأله الحفيد (لماذا تطاردك أحلامك ؟) ، مجيباً بأنها ليست أحلام نوم ، بل يقظة ، ولا جدوى من تنظيف غبار الحروب ، وهنا يدخل الحفيد في حالة من الصراخ والهزيان (حرب 1988- 1990- معركة الصحراء- الحصار- 2003 احتلال العراق- 2011مظاهرات- داعش) ، تتعالى الأصوات وتحاول الجدة تهدئه حفيدها ، موصية إياه بألا يرث أحلام جده ، مؤكدة في ذلك بأن الحرب قد تسببت في دمار البلاد ، ففي لمح البصر تم تسليم المدن بسبب الخيانة والتخابر وفقد الزمم.
يصاحب هذا المشهد صورةً لبرج مراقبة على شاشة البروجيكتور التي توسطت عمق الخشبة ، ليراقب الحفيد العالم الخارجي ، ثم تظهر خريطة للعراق تبين مدى اتساع البقعة الحمراء (الدماء) إلى أن تلطخ بها الجد وأصبح جزءاً من هذا الدمار ، إلى أن سادت المساحة الحمراء لتملئ الشاشة في نوفمبر 2014.
وفي محاولات الحفيد للمغادرة والفرار من كوابيس جده ورائحة الحروب التي ملئت المكان تاركاً رسالته لجده ( بحر هنا ، بحر هناك، موت هنا ، موت هناك ، أنني اغرق يا جدي ، ألف لقلق ولقلق في هذا البحر ، اللعنة على بحرك يا جدي ، إنني أغرق ) ، نستطيع من خلال تلك الرسالة أن نستنتج لسان حال هذا الجيل من الشباب الذي فقد وطنه ، فقد المستقبل .
يعود الحفيد حيث لا محاله من الفرار فالحرب في كل مكان ، فلقد اختنق من رائحة الحرب في الخارج ، مطالباً الجد بإعطائه النصيحة كي يستطيع المضي قدماً ، يصاحب هذا ظهور درجاً عالياً على الشاشة يعقبه شرحاً وافياً من الجد للوصولية واهم شروطها :
1- أن لا تمتلك شيئاً في الشأن العام .
2- أن تمتلك رصيداً لغوياً وبهلوانيات.
3- أن تتمتع بقدرة استثنائية على بناء تحالفات للضرر بالأخرين.
4- أن تبيع قوت الأخرين.
5- أن تعرف كيف تغازل السلطة والمعارضة لتحسين فرصك.
6- أن تشم بسرعة غريبة رائحة انتهاء المعارك ، وفي اللحظة الأخيرة تندفع لجمع الغنائم .
وحاذر أن تسير في المقدمة وحينما يخونك اصبعك بالضغط على الزناد ، استخدم قدميك في الهرب “افلت” ، ولكي تضمن حياتك أينما تحاصر ، ألبس تحت ملابسك شيئاً من البياض ، قدم حياتك على موتك ، وبهذا تعيش طويلاً ، فلربما يضحي بك الأخرون.
وبهذا فإن الجد يقدم الوصفة السحرية التي يتبعها الكثيرون من الخونة الذين يعيشون على حطام الحروب ودمار البلاد.
تضيع المعاني والمبادئ ، ويظل اللقلق “الحفيد” يتساءل ، ولماذا اللقلق يقف على ساق واحدة ؟، ثم يأخذ كل من الثلاث شخصيات كرسياً يلتفون به حول بعضهم وكأنهم يلعبون لعبة الكراسي الموسيقية ، ثم يصطفون لإقامة الصلاة وهنا نسمع الآية الرابعة من سورة يوسف (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين……) ،
فمع تطور الزمن للمعنى الحقيقي للحروب نجد أنها لم تعد كالسابق حروب مدافع وطائرات ، بل اختلفت ، فاليوم أصبحت أزرار ، لاب توب ، هواتف نقالة ، مواقع تواصل ، فما عادت الحروب خشنة كالسابق ، فحروب اليوم رقيقة وناعمة وباردة ، فبكبسة ذر واحد يموت الآلاف هناك ، وبكبسة ذر صغير يموت الآلاف هنا.
تتوالى الذكريات وتندفع كنهر جاري ، ويتدلى ثلاث توابيت للثلاث شخصيات (الجد والحفيد والجدة) يتذكر إثناءها الحفيد أن الجد قد سرد له حكاية ذبح أحدهم ، ويتساءل من كان الذبح ولماذا تم ذبحة؟ ، فيبرر الجد في سرداً بارداً للإحساس بأن التفكير تحت النار ليس بالتفكير تحت شجرة ، فلابد من قربان للحد من الخسارة ، فلقد كان بحاجة إلى دمه كي يبرد فوهه البندقية ، وهنا يلعن الحفيد جده ويحاول شنقه بالسبحة ذاتها التي كان يتأرجح عليها الجد ، إلى أن تتدخل الجدة بأن يتركه فالموت راحة له ، بل دعه يموت كل يوم بل كل دقيقة بذكرياته التي تخنقه موتاً.
وفي حالة من الصراخ والفزع يطالب الجميع بفتح الأبواب الموصدة ولكن دون جدوى ، فالاختناق يزداد ، والأسوار تزداد ، ورائحة الموت في كل مكان .
ينتهى العرض بنزول ثلاث شاشات لصور الدماء والقتلى والضحايا ، يقف فيها الجد في المنتصف حيث صوراً لشلالات الدماء التي لوثت العالم ، وهنا يأخذ الحفيد والجدة قراراً بالفرار ويطالبون بفتح الابواب ثانية ولكن دون جدوى ، و يتحول المكان إلى براكين من النيران التي اندلعت لتلتهم المكان ويقف الجد في المنتصف ليعزف لحن الدمار واشتعال النيران إلى أن ينتهي المشهد بموت الجد.
فعلى الرغم من بساطة الطرح والمعالجة الدرامية لأحداث العرض، إلا أن العرض يدوي بصرخات الضحايا ، ضحايا الحروب ، ويطلق في وجوهنا وبشكل مباشر كيف يتعامل رجال الحروب من الخونة مع تلك الحروب ، والأثار السلبية الناجمة عنها ليس فقط على أهلها بل على العالم بأسره.
وهنا لابد من الوقوف أولاً على الأداء التمثيلي حيث يمثل من وجهه نظري المرتكز الأساسي والمدخل الأساسي للعرض ، فهذه الشخصية (الجد) والتي لعب دورها “عبد الستار البصري” أتسمت بملامح من الكوميدية وإن كان هناك قصدية من هذا ، فلا ننسى أن شخصية الجد رجل الحرب المتقاعد حين يتداعى ذكريات البطولات الحربية التي قام بها فلابد من تجسيد صارماً وقوياً من حيث الأداء الجسدي والصوتي والوعي الكامل بالتحولات داخل الشخصية التي يلعبها فلا تتحول المسألة لرجل مجذوب طيلة الوقت يدعي التدين ويقوم بحركات كوميدية لإضحاك الجمهور ، وبالتالي تفقد الشخصية سماتها وأبعادها الأساسية في التجسيد ، وعليه فإن الجدة (بشرى اسماعيل) والتي تلعب دور الأم التي فقدت أبناءها جراء الحروب والمنوط بها أداءاً جسدياً خاصاً لإمرأة أهلكتها الأحزان وهرمت من كبر سنها وأوجاعها ، ظهرت كربة منزل عادية شاهدة على ما يدور على الخشبة دون أن تتفاعل معه ، وبالتالي فالحفيد (أمير إحسان) اللقلق الذي طل من بين شخصيتي الجد والجدة والمنوط به تمثيل المستقبل التائه للعديد من الأجيال الضائعة ، مستخدماً جسده للتعبير عن اللقلق الذي يقف على قدم واحدة ، هذا الطائر المهاجر الذي لم يستطع الارتكاز في مكان واحد فقد الأداء لأنه يستقي أداءه من الجد فوقع في فخ الخروج عن النسق الدرامي للأحداث ، فأصبح شخصية لا رؤية لها ولا روح.
ولا شك من إجادة المخرج (عماد محمد) في اللعب السينوغرافي البسيط والمعقد والمليء بالعلامات المسرحية الدالة والمؤكدة على المعاني الصارخة بالعرض والتي صاحبت الكلمة ، مثل العلامات المادية والمرئية من السبحة التي تأرجح عليها الجد ، وكذلك استخدام الستائر المعدنية التي يختبئ ورائها كل شخصية مؤكدة على ما يخفيه صدر كل شخصية من الشخصيات الثلاث ، ومن ثم العلامات الصوتية باستخدام بعض الآيات القرآنية المصاحبة للمشهد المسرحي ، وقراءة الفاتحة أكثر من مرة للدلالة على كثرة الضحايا وأم مصير كل من هم داخل تلك الغرفة أمواتاً بالنهاية ، فإما ان تكون مؤكدة للفعل المسرحي ، أو أنها تعارضه وتلعب على التناقض في الشخصية .
أما عن الإضاءة فقد التزمت بالبؤر الضوئية على الثلاث شخصيات ، واستخدامها تارة في دور سجادة الصلاة ، وتارة في الدائرة المختنقة التي تخنق صاحبها ، وتارة أخرى في ضوء المستقبل الضائع ، ولقد لعبت التكنولوجيا الرقمية دورها باستخدام البروجيكتور وأسقاط أفلاماً مصاحبه للحدث ومؤكدة عليه ، فلقد أستغنى المخرج عن قطع الديكور الثقيلة باستخدام الشاشة ، وذلك للتأكيد على قيمة الفراغ داخل الغرفة التي تحولت في نهاية العرض إلى خندق يموت ويختنق من به.
فنستخلص في النهاية عرضاً مسرحياً بسيطاً في الطرح والمعالجة ، يمر على ذهن وأعين المتلقي كالوجبة الخفيفة في التلقي والدسمة في المعاني وإعادة نظر في الأداء التمثيلي.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *