دمشق بيوت حنين لا يعود – جواد الأسدي

المسرحي العراقي جواد الأسدي

دمشق بيوت حنين لا يعود – جواد الأسدي

لا أريد معاودة الحديث، لا عن الموت ولا عن الموتى، فالسنوات المهزومة تركت على قمصاننا ونهاراتنا ثقلا فريدا يكاد يطيح بسعاداتنا المتهاوية.. ضحكة بعد أخرى، بدءاً بالعراق المرمي تحت حوافر القتل والاحتلال مرورا ً بغزة، فرن الاولاد الموتى، و صولا ً لسلطة عربية مصابة بزكام أبدي وخوف من معاقرة الحرية.

بالنسبة لي، أنا القادم من كربلاء الندب وبعد أن حطيت الرحال بدمشق الشبابيك وآذان الصباح وبيت سعد الله ونوس وأنوار سعيد مراد وحورانية وممدوح عدوان، يبدو أن مشروع الحديث عن مدينة بلا هؤلاء مثل الحديث عن حديقة غادرها حارس وورودها، تاركا ً المصطبات والزوار بلا أمل يذكر، وربما تكون “رفيف الساجر” هي فاكهة هذا النص، لعودة سريعة حمل فيها فواز إبنة روحه وقصيدة شبابه رفيفا ً، التي أوقفها ذات يوم على خشبة مسرح القباني ليطلب منها وهي بعمر الرابعة عشر أن تقرأ أمامي قصائد بوشكين..

الساجر
المسرحي السوري الراحل فواز الساجر

فواز بإيقاعه المتفجر، يدرب ممثليه غسان مسعود ودلع الرحبي وفارس الحلو على سكان الكهف، بلهفة عالية كان يدعوني لحضور بروفاته، وبلهفة مماثلة كان يحضر بروفاتي، مرة مع سعد الله ونوس و احيانا بدونه، كأنما ورود المسرح السوري وقتذاك كانت على وشك تكون ثمرة عالية الابتكار و التركيب، حرقة سعد الله لمسرح تجريبي لم ير النور، وآلام فواز لتكوين ريبتوار مسرحي سوري متفرد، و صداقة فذة رتبت حلما ً مسرحيا يقوم على اضلاعنا التي انكسرت بسرعة|..

إن ملاك العُجالة الذي خطف سنوات النضوج عند فواز وجرز النميمة، ذالك المرض المتربص عند باب بيت سعد الله ونوس، كأن الغربة الوحشية قد قررت ذبح المدينة بسرقة جسدين معرفيين في اوج عطائهما، بقسوة فريدة من نوعها.. كيف لي العودة الى دمشق بلا فواز و لا سعد الله، في اية مرآة سأحدث فتاتين مشتعلتين بالحنين الى أبويهما، رفيف و ديمة ، لم يناما على سجادة طفولة متروية و لم يشربا من ذلك الحنو العذب، والينبوع الحر، لمخرج أطاحت المقصلة أوج لهفة لعروضه الاختبارية  وسفكت صوت ودم اعتى كاتب مسرحي عربي، فواز الساجر و سعد الله و نوس، ووحشة مريبة لمدينة أ ُطفأت انوارها في حياتي، الابواب والبيوت وصداقات والحوار والاختلاف والضحكات، البروفات والممثلين، والاعياد المسرحية… كلها، كلها، كلها ارتمت وإلى الأبد دون عودة.

لم تعد دمشق دمشقتي، ركبني يتم وحشي، رغم وجود فنانين و ادباء اخرين على درجة عالية من النبل والمعرفة و الجمال، لكن لا احد يعوض خسارتي في الساجر وسعد الله، والمدينة ببيوتها بدت مثل معاودات لذكريات وبيوت، و نصوص، وأحيانا ً عروض، و بروفات… ولكن بلذة مكسورة وربما ميتة، و قد يكون موت قمر غرناطة الدمشقي عمار الكسان بالصورة المريبة الدراماتيكية قد ذبح في اخر لهفتي لآخر بيت، مع ميار الرائع وريم المتفجرة بفرحها المغدور، دون ادنى مبالغة، تحولت المدينة بجمالها و هجرت ممثليها عن روحي، الى مدينة سكوت، حيرة، خواء…

الله ونوس
الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس

الآن انا في بيروت، على المقعد في الجانب الأيسر سعد الله ونوس، و في الجانب الأيمن فواز الساجر وعمار الكسان وهو يكتب سيناريو لطاولة الماء، وحيدا ً وبوحشة هائلة، ينتابني احساس بالمرارة كلما جرتني السيارة من قلبي الى دروب الشام حيث لا نور في تلك البيوت التي كنت ازورها، بما فيهم بيتي في شارع بغداد الذي كان ارضا ً للعب و الحنو و حوارا ً  لفواز و سعد الله وعمار وآخرون، أقول حتى هذا البيت قد بعته من اجل مسرح بابل متوهما ً ان هذا المسرح سيكرس لي فرحا وسعادة كنت قد نزفتها وخسرتها…

فواز الساجر، أقول لك ان رفيف الرائعة المسكونة بحلمك المسرحي صارت طائر الطاولة الذي يجمعنا. وأن دمشق المسكونة بك وبسعد الله وعمار الكسان عبثا احاول التجانس مع دروبها، انها ريح الغربة العتية بين مدن مرمية على سكك حديد مخضبة ،انه رماد الحنين الى تلك الأ يام.

جواد الأسدي – العراق

(*) الكلمة اأرسلها المخرج العرافي إلى احتفالية دار الفنون بفواز الساجر في ذكرى رحيله الواحد والعشرين / ماي 2009 وقرأتها الكاتبة ريم حنا في الأمسية التي أقيمت تحت عنوان (فواز الساجر في الذاكرة)، وشارك في تنظيمها موقع الجمل الالكتروني، وعائلة فواز الساجر.

( الجمل)

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.