دراما جزائرية تحاول إنقاذ الضمير الإنساني / شريف الشافعي

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

العرض الجزائري الفرنسي “الحارقون” يختصر أزمات المهاجرين واللاجئين العرب في مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تخلق واقعا موازيا وتكشف غياب العالم.

يحرق العرض الجزائري الفرنسي “الحارقون”، الذي شهده مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، كل خيوط الأمل، ناكئا جراح المغتربين بفعل الحروب والكوارث والأزمات الداخلية، ومختصرا أزمات المهاجرين واللاجئين العرب في مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تخلق واقعا موازيا وتكشف غياب العالم.

تلتقي عروض الدورة 25 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، المستمرة حتى 21 سبتمبر الجاري، في سمات مشتركة، منها الاتكاء على لغة الجسد الصاخبة في تعبيراتها وحركاتها وإيماءاتها، والارتكاز على الأبعاد المرئية المركبة وتقنيات المسرح المتطورة، والانطلاق من موضوعات وقضايا حيوية ساخنة تشغل العالم بأكمله، والوطن العربي على وجه الخصوص، حيث تتصاعد نيران الحروب والاضطرابات والقلاقل، وتستعمر الآلام والأدخنة الأرض المحروقة التي هجرها سكانها ليضيعوا في بلدان أخرى لم يجدوا فيها غير المتاهة.

المسرح فن حي، وعلى عكس الادعاءات بأنه يعيش مأزقا قد ينهي فاعليته، شأنه شأن ادعاءات موت الرواية في أواسط القرن الماضي، وعلى غرار الرواية المستمرة إلى اليوم فنا أدبيا مهيمنا، يستمر المسرح في تقديم الجديد وفي احتكاكه المباشر مع واقعه، فالمسرح العربي مثلا يعد الواجهة الفنية الأولى التي تتصدى للواقع المحتدم بالنقد والتفكيك.

من بين هذه الأعمال الدرامية القاتمة التي تشتبك مع أوجاع الحاضر العربي المخيف، العرض الجزائري “الحارقون”، الذي انطلق على مسرح “الهناجر” بدار الأوبرا ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في يوبيله الفضي، وهو من تأليف ألكسندرا باديا، وإخراج عزالدين حكة، ومن إنتاج مجموعة “الغمزة”.

تدويل الأزمة

يقدم العرض تجربة مسرحية مبتكرة تعتمد على تبادل الرسائل الإلكترونية والصور بين شاب وفتاة، يتقاسمان البطولة، ومعهما تلعب شاشة السينما الذكية دور البطل الثالث، بما تتيحه من إمكانات وطاقات بصرية هائلة ونصوص مكتوبة ورسوم متحركة وغير ذلك من مواد مبهرة ومعلومات رقمية.

يحمل العرض شعارا هو “لا حدود”، وقد حملته لوحة ظهرت على المسرح في المشهد الختامي معلنة انتهاء الفواصل بين الدول، ليس بالمعنى الإيجابي الموحي باحتضان الإنسان لأخيه الإنسان، لكن بالمعنى المضاد الذي يحيل إلى فقدان الخصوصيات والهويات وضياع بوصلة الذات، وذوبان الحياة الحقيقية الدافئة وتلاشيها في صقيع الكون الافتراضي.

هذا التعميم، يجعل من قضية العرض التي تخص المجتمع الجزائري في الأصل مسألة إنسانية أوسع نطاقا، فليس المقصود فقط رصد معاناة المغتربين الجزائريين في فرنسا من خلال بطلي العرض (الفتاة المهاجرة وصديقها المصور الصحافي)، إنما وضع اليد على مآسي المهاجرين واللاجئين عموما في عالم يتظاهر بالوحدة، بينما هو ممزق حد التفتت.

هذا “التدويل” لقضية الاغتراب في العرض الإنساني الثري، يتسق مع زخم الثقافات المتلاقحة في فرقة “الغمزة”، فهذه المجموعة التي تأسست في باريس عام 2005 تضم مسرحيين وموسيقيين وسينمائيين جزائريين وتونسيين وفرنسيين ورومانيين، ويشير اسمها “الغمزة” إلى تلك العلاقة المتجذرة بالجمهور، حيث تنطلق عروضها دائما من قضايا اجتماعية وسياسية، تجري مناقشتها ومعالجتها دون صيغ مباشرة.

 لجأ صنّاع عرض “الحارقون”، وعلى رأسهم الكاتبة الفرنسية والرومانية الأصل ألكسندرا باديا، إلى استحضار الرمز في كل تفاصيل العرض، بداية من عنوانه الذي يمكن تأويله بأولئك المهاجرين واللاجئين، الذين يحرقون كل شيء في حياتهم: الآمال، الأوراق، الهويات، الماضي، الواقع الملموس، إلخ. وصولا إلى حرق “الحدود” في العبارة الختامية الدالة التي توسطت بطلي العرض، والمكتوبة بالإنكليزية (NO BORDERS).

هارموني متناغم

ينبني عرض “الحارقون” على التناقض والصراع بين رؤيتين؛ الأولى: تخص فتاة جزائرية اضطرتها الأوضاع السيئة والظروف المحبطة والواقع المتوحش للهجرة من وطنها إلى فرنسا، مدفوعة بالحلم الذي تحول إلى كابوس، والرؤية الثانية: تخص مصورّا صحافيّا فضل الصمود والبقاء في بلاده، والتنقل بالكاميرا إلى مناطق الحروب والصراعات بالعالم، ليتلقط صورا تعرّي الحقائق المأساوية.

علاقة حب جمعت الاثنين في مقتبل عمرهما، قبل أن تفرقهما الأحداث والأفكار المختلفة، ثم عادت الرسائل الإلكترونية لتجمعهما من جديد، حيث يدافع كل منهما عن اختياره ووجهة نظره، ومن خلال الشبكة العنكبوتية، تبدأ الفتاة في الانفتاح على أحوال بلادها والعالم من حولها، وتختزن في ذاكرتها الكثير من الأرقام المخزية بشأن قتلى الحروب وضحايا الهجرة غير الشرعية والنازحين واللاجئين، كما علقت بمخيلتها عشرات الصور الفوتوغرافية التي يلتقطها المصور الصحافي الشاب.

العرض يقدم تجربة مسرحية مبتكرة تعتمد على تبادل الرسائل الإلكترونية والصور بين شاب وفتاة، يتقاسمان البطولة

هذا الصراع بينهما يقود في النهاية إلى نوع من التقارب يتطور إلى إحياء الحب القديم، فالفتاة التي لم تستطع الاندماج بالعالم الأوروبي، ويكاد يقتلها شعورها بالاغتراب والبرد، تستشعر دفء الإنسانية في تلك الإطلالات الإلكترونية التي تضخ الحياة في عروقها، حيث تطالع صور الأطفال المشردين في أيدي المسعفين والمنقذين، وتوافيها رسائل شبكة الإنترنت بالعديد من قصص الشبان والشابات المهاجرين من الجزائر ودول المغرب العربي، المتعلقين بسراب الآمال خارج أوطانهم بلا جدوى.

يُعلي عرض “الحارقون” من شأن الذهنية واستخدام وسائل المنطق والإقناع والتحليل والبيانات الرقمية والمعلومات والإحصاءات والأدوات الإعلامية وغيرها، باللغتين الإنكليزية والفرنسية، من أجل إضاءة مصابيح الحقيقة وإيقاظ العقول وإنقاذ الضمير الإنساني.

ولا يأتي ذلك الإعمال العقلي في العرض على حساب الجماليات، وإن كانت مدارات الإدهاش نادرة بسبب قلة عدد الشخوص، وثبات الديكور، وغلبة السرد على العرض (تقنية الرسائل)، على حساب الحركة والحوار.

وينوب التعبير الجسدي بالإيماءات والإشارات والانفعالات عن اللغة المنطوقة في الكثير من الأحوال، خصوصا أن العرض بالفرنسية والإنكليزية، بما يعني صعوبة التواصل مع المشاهد العربي من خلال الكلام.

تتجلى فنيات العرض وعناصره من خلال التداخلات بين الحقيقة والخيال، والواقع المعيش والآخر الافتراضي، والحاضر والماضي، وهزلية الحياة المتبددة وجدية الصور الفوتوغرافية المتجددة، التي يرى ملتقطها أنها ليست بحاجة أبدا إلى تعليقات تفسرها، بل إنها هي التي تفسر كل ما حولنا.

هذه الفضاءات التأملية تنمّيها وتغذّيها شاشة السينما بطاقات سحرية من الكائنات والرسوم المتحركة، كالأسد المفترس الذي يغزو المشهد محيلا إلى التوحش المهيمن على مسرح الحياة، بالإضافة إلى الحروف والكلمات التي تتطاير من أشعة الشاشة السينمائية، كاشفة الكثير من أسرار القلوب وخبايا مواقع التواصل الاجتماعي ورسائل الشبان والفتيات من المتطلعين إلى الهجرة.

يتسع العرض لهارموني متناغم بين ما هو بشري وآلي وتقني، باعتبار أن الواقع نفسه ينقسم إلى جانبين؛ حقيقي وافتراضي. وتأتي الموسيقى الوترية الغامضة والإضاءة الخافتة القريبة من الإظلام لتضفيا على المسرح قدرا من السحر والسمات الأسطورية، في مواجهة عالم صار لا يقبل إلا الأرقام، لكنه صار مضطرا في النهاية لمصافحة كائن وليد اسمه “الحب”.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *