دراسة عن الواقع الافتراضي والمسرح بقلم د.عماد هادي الخفاجي

   

     دراسة عن الواقع الافتراضي والمسرح

بقلم د.عماد هادي الخفاجي

لقد برز مصطلح الواقع الافتراضي في فضاء التداول في مجال أدب الخيال العلمي، حينما أستعمل الكاتب الأمريكي وليام جيبسون* (William Gibson) عام 1984 في قصة عنوانها نيورومانسر (Neouromancer) ليصف به العلاقة ما بين الإنسان وإدراكه لفراغ مكون من المعلومات المجردة, أو ما وصفه بالمصفوف.([1]) ليواجه هذا المصطلح العديد من الانتقادات والاعتراض، على اعتبار أنَّ المصطلح يتكون من لفظين متناقضين هما (الواقع) و(الافتراض)، وبالذات على مستوى الترجمة الحرفية بمعنى الواقع الأكثر شيوعاً وتداولاً، بينما يشير هو إلى مفهوم  البيئة الاصطناعية أو الحقيقة الاصطناعية، أو تقنية المحاكاة…

إنَّ مصطلح الواقع الإفتراضي(VR)  أستعمل من قبل العديد من المعنيين وبعدة معاني ومفاهيم، إذ إنَّ بعض الأشخاص الذين يعني لهم مصطلح الواقع الإفتراضي مجموعة من التكنولوجيات الرقمية المحددة، مثل خوذة الرأس،ونظارة الإستقطاب, وكفوف إدخال المعلومات والصوت ، وهنالك من عرف المصطلح بأنَّه عالم مُولد من قبل الكمبيوتر يتعامل مع حاسة, أو أكثر من حواس الإنسان ويعتمد على ردود الأفعال لتصرفات المستعمل بشكل آني,  فضلاً عن أنَّ بعضهم يعرفونه  بأنَّه تقنية رقمية تمكن الإنسان من التفاعل مع الكمبيوتر بشكل مرئي، أو إنها الوسيط بين الإنسان والكمبيوتر

ويرى الباحث بأنَّ جميع المفاهيم والمعاني لمصطلح الواقع الإفتراضي تصف التكنولوجيا, أو الكيفية التي تعمل بها التكنولوجيا, وان الواقع الإفتراضي هو الحقيقة التي لها التأثير على الحقيقة الفعلية, وليس على محتواها الأصلي وبمعنى آخر أنَّ مفهوم الواقع الإفتراضي يمثل محاكاة لواقع تم تخيله ويمكن تجربته بصرياً في الأبعاد الثلاثة (الطول,العرض,العمق) مع توافر تجربة بصرية في حركة كاملة وفي وقت حقيقي مع المؤثرات الصوتية, وربما مع تفاصيل أخرى ضمن بيئة ثلاثية الأبعاد تحتاج إلى تجسيد وتفاعل مع الواقع الافتراضي, إذ تعطي البيئة الافتراضية للمتلقي القدرة على التصور والتفاعل والإندماج مع الكمبيوتر, ومع البيانات والمعلومات, لأن القدرات السمعية والبصرية فضلاً عن القدرات الحسية الأخرى للمُستخدم يمكن أنْ تُدمج مع مؤثرات العالم الواقعي لخلق بيئة أو عالم افتراضي ضمن الكمبيوتر. حيث يقدم الفضاء الإفتراضي ضمن هذه البيئات محاولة لنقل مشاعر معينة- غير حقيقية- للفرد، إذ يمكن للفرد أن يشعر بالانتقال الجسدي من عالمه الفيزيائي إلى عالم من الخيال المطلق, أنَّ الفضاء الافتراضي يشبه من حيث الخواص الديكورات للمواقع التي تُستخدم في الأفلام السينمائية التي من الممكن أنْ تكون تمثيلاً متطابقا كلياً أو جزئياً من مكان موجود فعلاً على ارض الواقع أو يمكن أن تكون صورة خيالية لعالم آخر, إلاّ أنَّ الميزة التي تقدمها البيئات عامة, والفضاء الافتراضي بشكل خاص القدرة على التأثير في وعي المتلقي وإدراكه, ليحيله إلى جزء من هذا العالم الخيالي، وليس مراقباً له، إذ يمثل الفضاء الإفتراضي حالة من التنظيم الذاتي واللامركزية، المرونة الفائقة إلى حد الفوضوية، مع القدرة الهائلة على التطور والنمو“([2]) .

ويرى الباحث أنَّنا لكي نستطيع خلق تعايش واندماج مع البيئات الافتراضية، وتحويلها إلى بيئة تعطينا إحساساً بالحقيقة والواقعية، يتوجب أنْ نتمكن من استحداث الحواس الأساسية الخمس (البصر، اللمس، الذوق، الصوت، والشم) بالكمبيوتر وبوسائل وأنظمة إيحائية حسية مصطنعة. إذ إنَّ تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والإعلام لم تأتِ مستقلة بعضها عن بعض, بل ترافقت وتزامنت في التطور وتفاعلت حتى باتت التكنولوجيا والمعلومات والإعلام صيغة ثلاثية ، تتصل بكل ما في هذا العالم من تنمية، وحركة بشرية ، في المجالات الاقتصادية, والاجتماعية, والسياسية, والتربوية, والثقافية, والفنية وهنا يأتي المسرح موضوعاً للتأثر في واقع التكنولوجيا الرقمية، بوصفه جماع الفنون والآداب ، وملتقى العلوم الاجتماعية، فهو ممارسة سيسيوثقافية، وتواصل احتفالي، ووسط تخاطبي، ومصدر للخطابات المتفاعلة تواصلياً وجمالياً وتعبيرياً, فليس ثمة شك بانَّ خطاب الإبداع بالعرض المسرحي يتشكل نتيجة التعارض بين متغيرات الواقع الحياتي، فمنذ أنْ خطى رواد المسرح قبل آلاف السنين نحو تنظيم طقوس الفرجة المسرحية واستثمار فضاءات جديدة لاستيعاب فاعلية النشاط المسرحي وترحيله من الممارسة العفوية إلى آفاق رسالة قصدية جمالية مشروطة بصياغات المنهج الكلاسيكي الذي أحتضنته أثينا القديمة ودعمت برامجه ووفرت له مساحات من الديمقراطية، إذ أنَّ المسرح بالنسبة لهم حاجة أجتماعية وفكرية وبيئية محيطة وتاريخ وأزمات وأداة تغيير معبرة عن الآلية الاجتماعية والمحيط الفكري والتاريخي فما زال المسرح يعلن عن قدرته كأداة للتعبير والتغيير فاعلة ومؤثرة ومنافسة لإبراز الوسائل الإتصالية التي يشهدها العصر الحديث إذ التطورات التقنية والمعلوماتية الهائلة. لذلك فان معظم النتاجات المسرحية باتت تعتمد في إنتاجها اليوم على التكنولوجيا الحديثة عن طريق الكمبيوتر الذي يعد الآلة التقنية الوحيدة القادرة على خلق أشكال جديدة غير مألوفة, إذ يقوم على أساس فرضية وليس على أساس مادة موجودة بالواقع, ويصبح للكمبيوتر القدرة على إلغاء الحقيقة وخلق بدلاً عنها فرضيا مادة جديدة تصبح في جوهرها هي الحقيقة وهكذا يمكن القول أنَّ المحاكاة تمتلك أنموذجا مفاهيميا مغايراً عما كانت عليه, فهي باتت تأخذ الإفتراض الثالث أصلاً لها فإذا كانت :

  1. الطبيعة إفتراض تشبيهي عن مثال أصل.
  2. كان الفن إفتراضاً تشبيهياً عن الطبيعة.
  3. وكانت التكنولوجيا الرقمية إفتراضاً مضاعفاً على إفتراض الفن([3]).

إذ أنَّ التطور التكنولوجي في العصر الحديث له الأثر الكبير, إذ يساعد في توظيف السينوغرافيا لصناعة الصورة المشهدية التي تتلائم مع متطلبات اللحظة التاريخية المعاصرة, وبما أنَّ المسرح يشكل الوعي الجمعي عن طريق التعبير عن أفكاره ومضامينه ومواقفه سعى إلى إستعمال التكنولوجيا, لكي تكون كأداة من أدوات الفعل الإبداعي كونها فاتحة لفضاءات تفكير جديدة تمكن المسرح من زيادة زخم خطاباته، وكفاءاتها في خلق مستويات تواصل عدّة واعية ولا واعية عبر ما توفره تكنولوجيا التقنيات الرقمية من مجموعة من الأدوات والمعارف والمهارات اللازمة, لتحقيق إنجاز معين ممن تشكل أسس, أو قواعد التكنولوجيا”([4]), وأنَّ ظهور الكمبيوتر والعالم الرقمي يعد من الإنجازات الفاعلة والمتفاعلة مع العرض المسرحي, والتي تدفع بمكوناته إلى الأمام من حيث التوظيف والجمال, وكل هذا التحديث في التقنيات انعكس بشكل مباشر, أو غير مباشر على جميع قطاعات الفن والثقافة ، الأمر الذي سيجعل من العرض المسرحي أنْ يتفاعل مع هذه المتغيرات التقنية من أجل صناعة سينوغرافيا تستطيع أنْ تصنع الدهشة البصرية بما يحتاجه المتلقي في العرض المسرحي الجديد، وأفاد المسرح المعاصر من التقنية الحديثة والمتمثلة بالتكنولوجيا الرقمية بشكل جيد, وذلك عن طريق المزاوجة بالعمل بين برمجيات الكمبيوتر, وسينوغرافيا العرض المسرحي ولا سيَّما على المستوى الحسي والبصري,  فأطلق على المسرح الذي يتعامل مع هذه التقنيات وبحسب إستعماله لهذه التكنولوجية الرقمية المتمثلة بالكمبيوتر وبرمجياته بمسرح التقنيات الرقمية, ولأجل إخراج عرض لمثل هكذا مسارح كان لا بد من إنتاج بيئة للواقع الإفتراضي, وهذا يحتاج إلى  تهيئة برامج (Software) قادرة على إنتاج بيئة للواقع الإفتراضي يمكن التحرك داخلها بصرياً إذ تستطيع خلق تعايش وإندماج مع هذه البيئات الإفتراضية, وتحويله إلى بيئة تعطيبنا إحساساً بالحقيقة والواقعية, ومُضافاً إلى أنه لا بَّد من توافر الممثلين الإفتراضيين, أو الرقميين وهم شخصيات وهمية يتم التحكم بهم من خلال برامج يديرها أشخاص ذوو خبرة ودراية ببرمجيات الكمبيوتر, وبعد هذا كان لابّد من التحدث عن الواقع الإفتراضي والتعايش مع البيئة الافتراضي ([5]), وهذا يعني بان هذا المسرح أي مسرح التقنيات الرقمية هو ليس مسرحا رقميا بمعنى الخلق بالمعادلة الصفرية ولكنه المسرح الذي يعتمد على معطيات التقنية الرقمية في بناء وسائط معالجته الفنية للإضاءة والمنظر والمؤثرات الصوتية بما يثري رؤية الإخراج جماليا وفنيا إذ أنَّ استعمال الكمبيوتر والبرمجيات سيجعل من المعالجات الإخراجية في رسم السينوغرافيا أكثر تعبيراً وتوظيفاً وجمالاً, ولا سيَّما إن العالم اليوم لامس وإفاد من الوجود التكنولوجي في مستويات رفيعة تضع العاملين في مجال المسرح بحاجة إلى إستعمال وتوظيف هذه التقنية لتأسيس نظام صوري سينوغرافي يعتمد الكمبيوتر أصلاً في التصميم، وعلى هذا الأساس نرى أنَّ المسرح الحديث مبني على حقيقة إفتراضية عرفها البعض على أنَّها واقع مُصنَّع يصور المستخدم في فضاء ثلاثي الأبعاد, وهي محاكاة (الكمبيوتر)لأشكال حقيقية من الواقع يمكنها التفاعل مع الإنسان”([6])، إذ أنَّ الواقع الافتراضي صور تخيلية من جانب ، وتتحول بالتفاعل إلى عالم إفتراضي يتم فيه خلق أنساق تجريبية تنتهي بالتحقق من الفروض المتجسدة بفعل التقنية الرقمية، ومن ثمَّ فأنَّ حصيلة القيم المتحققة على الرغم من إرتباطها بالعالم الإفتراضي الذي أتاحته التقنية الرقمية، إلاّ أنَّها من جانب آخر ستحاول أن تكتسب واقعيتها الطبيعية من كونها مرتبطة بالنسق الفكري الذي صدر عن وعي بشري,   فالكومبيوتر عندما يقدم صوراً لأشكال لم تزل هي الأخرى في خيال المصمم ، فأنَّها تبدو نوعا ما واقعية بمقدار ما تجيزه مهارة المستخدم  لها في هذا البرنامج”([7]) ، وهي تلك المهارة البرمجية في إدارة وتشغيل البرنامج المحاكاتي، وهي  هنا تقترب من مهارة التخييل في العملية التفاعلية مع مخرجات البرنامج المحاكاتي ولكن الإخراج المسرحي لهذه الشخصيات الافتراضية من خلال هذا المسرح تبقى محاولات بائسة للوصول إلى جوهر العلاقة المسرحية وطبيعتها الفاعلة في تحديد ماهية النشاط المسرحي لان المسرح معرفة ممتعة وجزءا من نشاط التحليل العقلي من خلال التركيب الجمالي الذي يبنى على الممثل/الممثلة الإنسان الكائن المادي العضوي بحضوره وما يتعلق به جوهر الممارسة الإبداعية في المسرح أما الافتراض أو الرقمية نظام رياضياتي قائم على الاحتمال الرياضي الذي ينتهي بمتتالية عددية وهو ما يتناقض مع المسرح الذي يقوم على الاحتمال الفني والذي ينتهي إلى متسلسة لا نهائية من الاحتمالات وليس إلى قيمة رياضية بعينها وهو ما يسقط طابع الإبداع عن أي نشاط رقمي يحل بديلا عن النشاط المسرحي الفني الإنساني هذا من جانب ومن جانب آخر إن الإنسان هو محور ذلك الفرض الجمالي بحضوريته الفيزيقية والفكرية وهو أصلا غير موجود بمثل هكذا مسارح وعليه فان هذه المسارح وتقنياتها المبهرة ستظل محاولات شبه مسرحية تقنية تجريبية ممتعة.

 

 

 

 

 المصادر:

 

* ويليام فورد جيبسون (1948)  روائي أمريكي كندي له طابع خيالي تأملي, أدخل جيبسون مصطلح الفضاء الإلكتروني في قصته القصيرة “الكروم المحترق” التي صدرت عام 1982 ثم أشاع هذا المفهوم في روايته الأولى نيورومانسر التي صدرت في عام 1984. في تخيل الفضاء الإليكتروني، قام جيبسون بأول وصف لعصر المعلومات وذلك قبل ظهور الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين. كان له الفضل أيضًا  في إرساء المفاهيم الأساسية المرتبطة بالنمو السريع للبيئات الافتراضية مثل ألعاب الفيديو، والشبكة العنكبوتية العالمية يُعد جيبسون أحد أشهر كُتاب الخيال العلمي في أمريكا الشمالية. كتب جيبسون أكثر من عشرين قصة قصيرة وعشر روايات انتقاديه لاذعة. كما أنَّه أسهم بكتابة مقالات عدهَّ لمنشورات رئيسة، وتعاون بشكل كبير مع أداء الممثلين، وصانعي الأفلام، والموسيقيين. كان لفكره تأثير كبير على مؤلفي روايات الخيال العلمي، والتصميم، والأوساط الأكاديمية، وثقافة الإنترنت، والتقانة.

 See: https://ar.wikipedia.org/wiki, Access date,10/11/2017

([1])See: http://vr.isdale.com/WhatIsVR/ ,access date 11/9/2015.

  (2).See, http://www.zoominfo.com ,Emil M. Petriu, Virtual Environments, University   of

Ottawa, accesses date 13/11/2017

   (3) See: Matthew, Causey , Theatre and Performance in Digital Culture from simulation to embeddenedness, London and New Yourk,2005,pp151-152

(4) ينظر: سلام, محمد سعيد: التكنولوجيا الحديثة  (الكويت : سلسلة عالم المعرفة ، 1982) ص54

( 5)   See: http://vr.isdale.com ,previous source, access  date 18/9/2015

(6) ينظر: الحيالي, ميادة فهمي: الإدراك البصري للتصميم الداخلي ولصورته الافتراضية على الحاسوب ، رسالة ماجستير (غير منشورة ) جامعة بغداد ، كلية الفنون الجميلة ، 2001 ، ص60                               

 

(7) ينظر: لامرز,جيم ومايكل بيرسون:تعلم برنامج ( 3d studio max ) تر: مركز التعريب والترجمة, بيروت (الدار العربية للعلوم ) ط1 ،1996 ،ص9.

  

 

 

 

.

 

 

 

.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *