داتا الموصل” مسرحية فرنسية عن الخلود في العصر الرقمي / أبو بكر العيادي #فرنسا

 

 

 

داتا الموصل” مسرحية من تأليف وإخراج الفرنسية جوزفين سير، تستعرض حقلا ثيميّا واسعا يشمل أثر الذاكرة وماديتها، كتابة التاريخ، سقوط الحضارات، تدمير المواقع الأثرية، وحفظ المعطيات الرقمية، لتعالج من وراء ذلك كله قضية الخلود في العصر الرقمي.

“داتا الموصل” هو عنوان مسرحية جديدة ألفتها وأخرجتها الفرنسية جوزفين سير.

و”داتا”، كما هو معروف، عبارة إنكليزية تعني “البيانات”، وتستعمل في مجال الاتصالات للدلالة على المعطيات التي يمكن أن تتنقل عبر شبكة تليفونية أو إلكترونية، باستثناء المعطيات الصوتية.

أما مدينة الموصل فتحضر في زمنين، زمن نينوى وأشوربانيبال وابنه سنشارشكون آخر أباطرتها، وزمن الموصل الحديثة تحت همج داعش.

وتدور الأحداث في أمكنة وأزمنة وحضارات مختلفة، أبطالها ميلا شغّ (واسمها جناس تصحيفي لغلغامش)، وهي مهندسة معلوماتية في ضيعة “بيغ داتا” بكاليفورنيا عام 2025، فقدت ذاكرتها نسبيا من 2014 إلى 2016، وما عادت تتذكّر ما عاشته ما بين الرابعة والعشرين والسابعة والعشرين.

وظلت تعاني من اضطراب في الذاكرة، ولم تحفظ سوى صور منحوتات لثيران مجنّحة برؤوس بشرية تزين مدخل قصر خورس آباد، ولم تدرك سوى أنها وافقت على المساهمة في مشروع تخليد معطيات معلوماتية، قبل أن تتفطّن إلى أنها خلافا لقناعاتها، سوف تساهم في وضع برمجية لحذف معطيات معينة، فتلوذ بفندق يعيش فيه مقاومون، هجروا الشبكة العنكبوتية، وأداروا الظهر لمجتمع الرقمنة الشاملة. ما قادها إلى البحث عن ذاكرتها الدفينة، بحث سيكون منطلقا لرحلة عبر الأزمنة غنية بالأحداث والوقائع.

وفي تلك السنوات الثلاث التي فقدت خلالها ميلا شغّ ذاكرتها، كانت ثمة في الموصل امرأة تحاول إنقاذ لوحات آشورية قديمة من دمار الداعشيين الذين عاثوا في البلاد وآثارها فسادا، وبدت أنها آخر أمل لإنقاذ تلك الآثار لكي لا يمحى التاريخ من الذاكرة. ولكن جنود الدولة الإسلامية سبقوها، بل إنهم حاولوا تجنيدها لاستخراج تلك الآثار القديمة لبيعها في السوق السوداء.

تلتقي حكاية المرأتين بحكاية سنشارشكون آخر الأباطرة الآشوريين الذي شهد سقوط نينوى، تلك العاصمة القديمة التي قامت على أنقاضها، وبالأحرى جانبها، مدينة الموصل. كما تلتقي بحكاية مكتبي من ولاية ويسكونسن الأميركية، وكان قد جمع ما بين عامي 1990 و2010 مئات النصوص المجهولة.

جوانب كثيرة من حيوات نسجت بغير ترتيب لتروي الصمود أمام القتل والاضطهاد، ومقاومة النسيان، ومحاولة حفظ المخطوطات وحرية الوصول إليها.

ثمة خوف من الضياع والنقص والنسيان

من خلال ذلك كله تطرح الكاتبة قضايا عديدة: ماذا يُحفظ إذا وجدت حضارة ما نفسها في خطر؟ أي آثار سوف تشهد عن حياتنا الرقمية، في عصر فرضت فيها غافا (الأحرف الأولى لغوغل، آبل، فيسبوك، أمازون) استيلاءها على معطياتنا الشخصية؟ وهل يكون لعالمنا وحيواتنا معنى بلا أرشيف أو وثائق؟

في إطار تلك الفضاءات الجغرافية والحقب التاريخية والحضارات القديمة والجديدة، تتحرك تلك الشخصيات الأربع، وتلتقي حول مبدأ حفظ السرديات وتمرير التاريخ. وفي تلافيف حكاياتها يبرز غلغامش، بطل أول ملحمة في سجل البشرية، ذلك الملك السومري الأسطوري المسكون برغبة إدراك الخلود. أي أن الأحداث تحوم حول نينوى الداثرة، والموصل، تلك المدينة العريقة التي مزّقت أوصالها الحرب والتمرّد والتدمير الممنهج لتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي.

كذلك تمضي تلك الحكايات المتعدّدة، ليلتقي أبطالها في آخر مجلس لآخر إمبراطور آشوري في فندق آشوربانيبال الذي يديره البريطاني جورج سميث، أحد المتخصّصين في التراث الآشوري، ضمن خلية تناضل لأجل تحرير الحقوق الرقمية، بالمرور عبر وادي السيليكون ومكتبة الموصل.

“داتا الموصل” مسرحية تطرح العديد من القضايا كمكانة الكتابة في علاقتها بما هو حميم، والذاكرة، والحضارات، والزمن، والآخر، والحياة، والموت والغياب، وتعالج الالتباس بين الأخبار والحقيقة، وانتشار الصور، والنزوع إلى ما يمكن تسميته بخصخصة الذاكرة.

ثيمات حارقة تستكشفها جوزفين سير في تلافيف رحلة الكتابة، وبالأحرى إعادة كتابة التاريخ. ثيمة معقدة، تتفرّع إلى ثيمات، ولكي تفك شفرة هذه الظاهرة، تمزج المؤلفة عدة حكايات على طريقة رسم متعدد الألوان، في فضاءات وأزمنة مختلفة، وكأنها تريد أن تقيم الدليل على ضياع المعالم في عالم لا يني يفقد ماديته وإنسانيته.

والمسرحية في النهاية تعبير عما صرّح به المؤرخ روجي شارتيي “أوروبا الحديثة يسكنها خوف متناقض، لا يزال يضنينا. فمن جهة، ثمة رعب أمام انتشار غير منظم للمكتوب، وتراكم للكتب عديمة الفائدة، وفوضى الخطاب. ومن جهة أخرى، ثمة خوف من الضياع، والنقص والنسيان”.

رحلة عبر الأزمنة غنية بالأحداث والوقائع
______________
المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش