حين يستشرى الجهل والطمع.. شعب «بلاد السعادة» يخذل حاكمها الطيب / محمد الروبي

المصدر / المصري اليوم / نشر محمد سامي موقع الخشبة

«حدث فى بلاد السعادة» هى المسرحية المعروضة حاليا على مسرح السلام، من إخراج مازن الغرباوى عن نص كتبه وليد يوسف. وهو العرض الذى سيحاول به مازن الغرباوى أن يرضى طموحه فى صُنع حالة فرجة يمتزج فيها الاستعراض بالكلمة الجادة بالحكمة السياسية. وللحق نجح مازن الغرباوى – إلا قليلا – فى صُنع هذا المزيج بمعاونة فريق محترف من ممثلين ومصمم ديكور بارع، وموسيقى موهوب، ومغنيين يمتلكان قدرات صوتية كبيرة.

أما لماذا قلنا (إلا قليلا) فهذا ما سنحاول تفسيره عبر السطور التالية.

بداية، تدور أحداث المسرحية فى مملكة مجهولة اختار لها كاتبها اسم «بلاد السعادة» فى مفارقة دالة تعمق البؤس الذى يحياه شعبها. وكأى مملكة ابتدعها مؤلفون عرب كثيرون، ستستمد ملامحها الأساسية من التاريخ أو بالأحرى من عوالم تشبه التاريخ، عوالم ألف ليلة وليلة، تلك التى كانت وستظل معينا لا ينضب لتناول تلك العلاقة السرمدية فى المسرح العربى، علاقة الحاكم بالمحكوم.

فى المملكة سنرى حاكما، غريبا عنها، احتلها منذ عام، هو نمط مكرر لذلك الحاكم الضعيف، المخنث، المهتم بملذاته ورغباته الحسية. وفيها سنرى أيضا نمطا آخر لوزير ماكر يدير من خلف ستار، يفرض بدهائه سيطرته على الملك وبقهره سيطرته على الشعب. فى المملكة أيضا سنرى الشعب، كما رأيناه فى مسرحيات عربية كثيرة سابقة، حفنة من أنماط تتوزع بين تاجر غلال، وشحاذ، وصاحبة حانة، ولاعب حيل، وآخرين لا مهنة لهم ولا ملامح، مجرد أفراد يزداد بهم عدد (الشعب).

فى البدء وقبيل الدخول فى قلب الحدث، سيحرص المخرج على أن يُدخل أفراداً من شرطة تلك المملكة بوجوه حيوانية يحيطون بنا نحن متفرجى الصالة، بينما يظهر راو (مُغنٍ) يدخل من باب خلفى للصالة، وأخرى (راوية مغنية) تظهر من بين انفراجة ستار الخشبة التى لا تزال مغلقة وستظل حتى نهاية الأغنية. بهذه البداية، سيعقد المخرج معنا اتفاقا مفاده أننا شعب هذه المملكة، أو للدقة جزء من شعبها، يسرى علينا ما يسرى عليه. بل إن الاتفاق هذا سيتأكد أكثر حين سيجعل ممثليه يحدثوننا مباشرة، وجوههم فى وجوهنا وإشارات أياديهم تدل علينا.

وأخيراً، سينفرج الستار عن ملامح مملكة اختار لها مصممها (حازم شبل) فكرة المتاهة تفسيراً للحال الذى يصيب الجميع، حاكماً ومحكومين. فشعار المملكة متاهة، وكرسى العرش يستند على متاهة، جدران المملكة متاهة، وكذلك قصور السادة وأعشاش العامة، و… وتبدأ الأحداث، ومع خطواتها الأولى ستطل عليك من بعيد فكرة «الملك هو الملك» تلك التى صاغها القدير سعد الله ونوس مستندا كما سبق وأشرنا على أجواء عوالم تتشبه بالتاريخ ولا تكونه.

وحين نقول (تطل علينا) لا نعنى إطلاقا أن وليد يوسف كاتب «.. بلاد السعادة»، نقل أو أعد أو تلاعب برائعة ونوس، إنها فقط وكما حرصنا على دقة الوصف (تطل علينا)، فللحق بنى ونوس فكرة مسرحيته على لعبة أراد بها الملك أن يدفع بها الضجر عن نفسه، فإذا به يتورط فى حبائلها، إذ يصدق الناس والحاشية أن الصعلوك (أبا عزة) هو الملك حقا ما دام يرتدى ثيابه وينام على فراشه ويجلس على كرسيه. لكن عند وليد يوسف سيكون التبديل بقرار واع من ملك أراد أن يتخلص من ورطة ليعود سريعا إلى بلده الأصل التى يهتز استقرارها. وهو فارق ليس بالهين، بل إنه سيؤسس لفارق أعظم وأجل يتمثل فى الموقف من (الشعب) بين الكاتبين.

وهو ما سنفسره أكثر فى سطور تالية. لكن قبلها لابد من الإشارة إلى أن ليست فقط «الملك هو الملك» من ستطل علينا، فبعد قليل من أحداث، ستطل رائعة أخرى ولونوس أيضا وهى «الفيل يا ملك الزمان»، تلك التى خذل فيها أفراد الشعب قائدهم حين اتفق معهم أن يذهبوا إلى الملك يعلنون شكواهم من فيله الذى دمر زرعهم وحطم بيوتهم ودهس أطفالهم. فصمتوا صمتا أجبره على أن يهتف بحياة الملك والفيل، بل ومطالبته بضرورة تزويج الفيل لينعم الله على مملكتهم بذرية صالحة من أفيال صغيرة. هنا أيضا لابد من التوقف للقول- إحقاقا للحق- أن وليد يوسف لم يستند استنادا كاملا على رائعة ونوس، بل يمكن القول إنه عارضه فيها، فالشعب عند وليد يوسف لم يخذل قائده، بل خذل الحاكم الذى صعد من بينهم آملا أن يحقق أحلامهم، فإذا بهم ينكرون عليه ذلك، بل ويطالبونه بعودة الأمور إلى ما كانت عليه. إنه شعب متخاذل لا يستحق إلا قهراً سيناله حتما من وزير تآمر على الحاكم وعلى الشعب ونصب له ولهم فخا وقعوا فيه.

والآن لنعد إلى المنهج الذى اختاره مازن الغرباوى لإخراج عمله، ولنتذكر البداية أو ما قبل البداية على وجه الدقة، جنود تحاصر الصالة (الشعب) ونزول دائم ومتكرر للراوى والراوية إلى الصالة حيث ينتمون، باعتبارهم فردين من الشعب، وحديث مباشر من المؤدين جميعا إلى الصالة التى هى جزء من المملكة. الإدانة إذن واضحة، فلم يخذل الحاكم إلا الشعب، ذلك الذى يريد الحانات، ويفضل التسول على الجهاد، ويطالب بتحرير الأسعار و.. و..، ولا يجد الحاكم الطيب (بهلول) ابن الشعب، إلا أن يعلن تنحيه عن الحكم متأسيا فى مونولوج مؤثر على أحلامه التى ضاعت، ليبقى الوزير (المحتل) حاكما منفردا عقاباً لشعب يستحق!

قد تتفق مع هذه الرؤية أو تختلف مثلى معها، لكنها رؤية كاتب ومخرج، نجحا معا فى إيصالها عبر مفردات عدة، كان على رأسها اختيار موفق لممثلين (وعلى رأسهم علاء قوقة فى دور الوزير ومدحت تيخة فى دور بهلول الحاكم المخذول وفاطمة محمد على فى انتقالها من دور راوية مغنية محايدة إلى زوجة بهلول الرافضة لمنطقه)، وكذلك عبر تصميم منظر مسرحى وعى مصممه حازم شبل بمعنى العمل واجتهد فى تلخيص مفرداته، وإن كنا لم نسترح كثيرا لتقسيم الخشبة إلى نصفين متساويين (كتلة فى منتصف العمق، وكتلتين على كل جانب)، وهو التقسيم الذى سيدفع بالمخرج حتما إلى رسم حركة ممثليه بما لا يخل بميزان الخشبة، فطوال الوقت سيحرص مازن الغرباوى على الحفاظ على هذا التوازن، وكلما ذهب ممثل أو أكثر إلى جهة اليمين مثلا، سيدفع بآخرين ليقابلوه فى جهة اليسار، وهكذا. وهو فى ظنى ما سيؤثر تأثيرا خفيا على إيقاع الممثل ليوقعهم جميعا (باستثناء أصحاب الخبرة منهم) فى أداء صوتى وحركى متشابه ومتوازن اتزانا يفرضه تقسيم الخشبة. كذلك لن نرتاح إلى استخدام الميكروفونات ذات الدرجات الصوتية العالية، التى ستمنع الممثل بالتأكيد من تلوين انفعالاته بدرجات صوتية مختلفة، خشية إزعاج سيسببه علو الصوت ولو كان حديثا هامسا متآمرا.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *