حول لطيف وخوشابا ودور السريان في نشأة المسرحية العراقية – العراق

” التاريخ يسجل للمسيحيين فضل إدخال هذا الفن الجديد إلى العراق وتنبيه الجمهور إليه “

 د. علي الزبيدي – المسرحية العربية في العراق ص76

لقد سبق التأليف المسرحي غيره من الأجناس الأدبية الحديثة في العراق المعاصر، وكانت بداياته على أيدي الأدباء الكلدان السريان الآشوريين. وتؤكد الدراسات المتخصصة بتاريخ المسرح في العراق (1) على أن رجال الدين المسيحيين وقدامى المعلمين في المدارس الملحقة بالكنائس كانوا من أوائل من ألفوا أو ترجموا الأعمال المسرحية الكوميدية والدرامية باللغة العربية، ثم مثلوها على مسارح الكنائس والمدارس، وبالتالي أدخلوا هذا الفن الجديد إلى العراق ونبهوا الجمهور إليه.  ولهذا نرى الطابع الديني، وسيما المسيحي منه، يغلب معظم الأعمال المسرحية العربية الأولى في العراق. ويعزو هؤلاء الباحثون أسباب ذلك مباشرة إلى أساليب الثقافة والتعليم التي كانت تنشرها البعثات التبشيرية والجمعيات والمدارس المسيحية من تعلم للغات الأجنبية الحية كالفرنسية والايطالية والانكليزية والألمانية، والاتصال بالغرب والاطلاع على ثقافته، ومن ثم محاولة تقليد الأجناس الأدبية الغربية وخاصة فن القص في إطاره التمثيلي لتوجيه طلاب المدارس إلى المثل العليا الدينية والتربوية.

وتُعَد مسرحيات الشماس (فيما بعد القس) حنا حبش (2)” كوميديا آدم وحواء” و”كوميديا يوسف الحسن” و”كوميديا طوبيا” من قبل جميع الباحثين العراقيين في المسرح من أولى المسرحيات العربية المكتوبة في العراق (وهي ليست مسرحيات كوميدية، بل مسرحيات تراجيدية، وإن المؤلفين في العراق في ذلك الوقت لم يفرقوا بين الكوميديا والتراجيديا مثلما لم يفرقوا بين الرواية والمسرحية، لأن هذه الأجناس الأدبية كانت جديدة عليهم) وكان بعض طلاب معهد الفنون الجميلة ببغداد؛ أحمد فياض المفرجي وزملاؤه قد عثروا في عام 1966 على مخطوطة تضم هذه النصوص المسرحية، وقد ختمت بختم يشير إلى سنة 1880. (3) ويؤكد د. عمر الطالب أن مخطوطة هذه المسرحيات هي الآن في حوزة المؤسسة العامة للسينما والمسرح العراقية (4) وأنه عَثَرَ على النص المطبوع لهذه المسرحيات في مكتبة الأب توما عزيز وقد طبع في لبنان من قبل الكنيسة الكلدانية (5). وقام صباح الأنباري مؤخرا بنشر نصوص المسرحيات الثلاث على الانترنت(6). ويُعتقد أن هذه المسرحيات الدينية  التي تحاكي قصص من العهد القديم مقتبسة أو معربة عن التمثيليات الدينية الفرنسية أو الانكليزية التي حملت الأسماء نفسها. بينما يرجح د. علي الزبيدي أن التمثيل الديني العراقي قد سبق سنة 1880 بكثير لأنه تقليد ديني كنسي ، ولكن وجود المسيحيين في بلد إسلامي وضمن أكثرية اجتماعية ودينية إسلامية في الموصل أو في بغداد لم يحقق الانتشار الذي حظي به المسرح الديني في أوربا. (7) وهو رأي أقرب إلى الواقع لأن مدارس البعثات التبشيرية التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في بغداد والموصل كمدرسة الآباء الكرمليين عام 1721 ومدرسة الكلدان عام 1843وغيرها مارست نشاطا مسرحيا متنوعا على نطاق واسع في الموصل وبغداد. (8) إلا أنه لم يصلنا من ذلك النشاط غير أخبار متفرقة هنا وهناك.

شكلت مسرحيات حبش الثلاث الحجر الأساس واللبنة الأولى لتشييد صرح مسرحي عراقي، ومما يؤسف له أن أحدا، من أولئك الباحثين والمؤرخين، لم يتناول نصوص هذه المسرحيات بالدراسة والنقد. واكتفوا بالإشارة إلى رياديتها، والى عدم تأخرها عن النهضة المسرحية التي بدأت بوادرها بالظهور في لبنان وسورية ومصر مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. صحيح أن نصوص حبش الثلاث ليست ذات قيمة عالية من الناحية الأدبية والفنية إلا أنها اكتسبت أهميتها من رياديتها، وقدرتها على تنمية جذورها ومدها عميقا في التربة العراقية البكر” (9)

وتدور مسرحية ” يوسف الحسن” (والحسن هنا صفة بمعنى الجميل وليست علماً )، حول قصة يوسف الصديق مع إخوته كما جاءت في سفر التكوين من العهد القديم. ومسرحية “آدم وحواء” كما هو واضح من عنوانها دينية مستمدة من الكتاب المقدس وبالتحديد من حكاية قابيل وهابيل. أما مسرحية “طوبيا” فهي الأخرى مبنية على أحداث من العهد القديم وتحكي قصة طوبيا مع سنحاريب الملك اثر حملته على اليهود في كنعان وسبيهم إلى نينوى.

ويجد د.عمر الطالب في مسرحيات حنا حبش الثلاث – وإن لم تكتمل كمسرحيات فنية – قصصا متقنة ، فيها أبطال رسمت شخصياتهم رسما محددا ، ثم هي تمثيليات مكتوبة بطريقة فيها قدر كبير من مراعاة مقتضيات المسرح وإن لم تكن على شيء ذي بال من الناحية الفنية (10). ويقول صباح الانباري في معرض تحليله لها “وقد تجسدت في الحكايات الثلاث أفعال تدميرية تراوَحَ أثرها بين القتل الفعلي والقتل الافتراضي، ففي مسرحية”آدم وحواء” هناك قتل فعلي متحقق يقوم به قايين، كفاعل ، ويقع أثره على هابيل كمفعول به . وفي مسرحية “يوسف الحسن” يتفق الإخوة على قتل أخيهم يوسف ولكنهم ينقذونه بشكل افتراضي. وفي مسرحية “طوبيا” هناك قتل مؤجل يتجسد في إصدار قرار الحكم بالقتل على طوبيا و أسرته. وبهذا نرى القتل في المسرحيات الثلاث يشكل الأداة الفاعلة في قضاء إحدى القوتين على الأخرى، ولا شك أن وقوعه الفعلي سيخلق أثرا على القارئ أو المشاهد يفوق أثره في حالة كونه افتراضيا أو مؤجلا. وان تباين درجات القتل (فعلي/افتراضي/مؤجل) ستؤدي إلى تباين درجات التشويق عند القراءة ، وستفعل الشيء نفسه عند المشاهدة المباشرة للعرض. ” (11).

وإذا أردنا تقييم مسرحيات حنا حبش الثلاث تقييما موضوعيا على أساس الفترة التي كتبت فيها ومقارنة لها بالواقع المسرحي في البلدان العربية آنذاك نجدها على الرغم مما يعتورها من ضعف فني وبلاغي تحمل قدرا لا بأس به من خصائص ومميزات الشكل المسرحي كجنس أدبي جديد يدخل للمرة الأولى الأدب العراقي المعاصر.

ويؤكد الباحثان د. عمر الطالب ود. علي الزبيدي على أن الخوري هرمز نرسو الكلداني ( 1820-1892) كتب فيما بعد مسرحية تاريخية تحت عنوان ” نبوخذ نصر” تدور أحداثها حول فتح أورشليم وأسر اليهود وسبيهم إلى بابل. وقدمت على مسرح مدرسة الآباء الدومنيكان في الموصل التي كان معلما فيها. لكنهما يختلفان حول تاريخ كتابة النص وتمثيله، إذ يشير د. عمر الطالب إلى أنه كتب في عام 1886 ومُثِّل في عام 1888 اعتمادا على المطران جرجيس قندلا الذي شاهد المسرحية على حد زعمه ، بينما يشير د. علي الزبيدي إلى أن النص كتب في عام 1888 ومُثل في عام 1889اعتمادا على كوركيس عواد. بيد أن كليهما يتفقان على أن نص المسرحية المطبوع في لبنان قد فقد. (12)  ويعد خضر جمعة حسن هذه المسرحية من أوائل المسرحيات غير الدينية التي قدمتها هذه المدرسة في الموصل.(13) .

ولم يكتف رجال الدين والتربويون المسيحيون بكتابة المسرحيات الدينية والتاريخية، بل قام بعضهم باقتباس وترجمة المسرحيات الفرنسية والانكليزية . وكانت أول محاولة رائدة في هذا الشأن مسرحية ” لطيف وخوشابا”  لنعوم فتح الله السحار (1855-1900) التي طبعت في عام 1893 بمطبعة الآباء الدومنيكان وكانت تقع في ثلاث وثمانين صفحة. وهذه المسرحية ترجمت بتصرف عن مسرحية  تحت عنوان: Fanfin et Colas للكاتب الفرنسي الكسندر لويس بتراند روبينو (1746-1823) الذي كان يكتب تحت الاسم المستعار الشهير مدام دو بيفوار (14) . والغريب أن أحدا من دارسي المسرح العراقي والسرياني بما فيهم د. عمر الطالب وخضر جمعة حسن وصباح هرمز وغيرهم لم ينتبهوا إلى اسم الكاتب الحقيقي فذكروا أن سحار ترجم المسرحية عن مدام دو بيفوار . وربما السحار نفسه لم يكن يعرف اسم الكاتب الحقيقي للمسرحية . وكان د. صالح جواد الطعمة معتمدا على فهرس المكتبة العامة بنيويورك ومطبوعات أخرى قد توصل إلى الاسم الحقيقي للكاتب الفرنسي. (15)

وإن كانت مسرحيات حنا حبش دينية وعظية وغير متقنة فنيا، ومسرحية هرمز نرسو الكلداني تاريخية تعليمية فأن مسرحية ” لطيف وخوشابا” لنعوم فتح الله السحار(1859—1900) ” عنت بمشكلة التمييز الاجتماعي أو الطبقي غير العادل، وكشفت عن تذمر الطبقة المستغلة وشروعها بالتمرد من أجل كرامتها”(16) مستعيرة بيئة وشخصيات سريانية عراقية بدلا من البيئة والشخصيات الفرنسية. أما لغة المسرحية فكانت متقدمة عن سابقاتها ” وتمثل محاولة للجمع بين الفصحى المبسطة والعامية المستحدثة في منطقة الموصل، بحيث يمكن القول أن نعوم فتح الله سحار، يعالج مشكلة الحوار في ترجمته لهذه المسرحية ، بطريقة مماثلة لمعالجة رائد المسرح العربي مارون نقاش. (17)

ولمسرحية ” لطيف وخوشابا” أهمية كبيرة في تاريخ المسرحية العربية في العراق لأسباب كثيرة أهمها تأليفها وتمثيلها في ذلك التاريخ المتقدم ، وطبيعة موضوعها الذي كان متباعدا أو بعيدا عن المسرحيات الدينية التي كانت تقدمها المدرسة الاكليريكية ، إذ كان اجتماعيا تربويا ، ثم لأسلوب حوارها الذي تردد بين العامية والفصحى، وأخيرا لطريقة اقتباسها عن الفرنسية وتعريقها والتصرف بها. (18)

ويقول د. علي الزبيدي إن هذه المسرحية كانت حدثا فنيا وأدبيا خطيرا في تاريخ المسرحية العربية في العراق ولا يقلل من أهمية هذا الحدث كونها مقتبسة عن أصل فرنسي ومعربة أو معرقة إذا أردت الدقة في التعبير. ( 19)

بينما يعدها د. عمر الطالب رائدة الفن المسرحي العراقي إذا استثنينا المسرحيات الدينية التي ألفها أبناء هذه الطائفة ومثلت في المدارس الأهلية المسيحية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (20)

وقد ترجم نعوم فتح الله السحار مسرحية أخرى عن الفرنسية هي مسرحية “الأمير الأسير” ومثلت هذه المسرحية على مسرح الآباء الدومنيكان في الموصل عام 1895. والذي دفع نعوم إلى الترجمة والاقتباس هو إتقانه اللغتين الفرنسية والانكليزية وإيمانه بما في تراث العالم المسرحي من مواضيع شيقة وحوادث مثيرة تخدم الإنسان العراقي المعاصر وتترك في نفسه أثرا حسنا.( 21) ويذكر روفائيل بطي في مقال عن تاريخ الطباعة العراقية نشر في مجلة لغة العرب (ج3-عدد 5 السنة الرابعة 1926) أن السحار ألف أو ترجم عن الفرنسية مسرحيات أخرى في الأخلاق والاجتماع ومثلت على مسرح مدرسة الدومنيكان في الموصل، فنالت إعجاب الأهلين وتقديرهم، إلا أنها أقل أهمية عن مسرحية ” لطيف وخوشابا”.

ونعوم فتح الله سحار ولد في الموصل في عام 1859 ودرس في مدرسة الدومنيكان، تعلم العربية على الخوري ( فيما بعد المطران) يوسف داوود اقليمس. بعد تخرجه تعين معلما في المدرسة نفسها. كان يجيد العربية والتركية والفرنسية. تولى فترة الإشراف على مطبعة المدرسة ، ثم اشرف على النشاطات الفنية في المدرسة. له العديد من المؤلفات منها: التحفة السنية لطلاب اللغة العثمانية – جزءان، 1894 والقراءة التركية 1893و المكالمات 1896 و أحسن الأساليب لإنشاء الصكوك والمكاتيب. وكان سحار يكتب أيضا، إضافة إلى المسرحيات- الشعر، إلا أن شعره ضاع أكثره. (22)

يقول د. علي الزبيدي “ومهما يكن من شيء ، فأن محاولة نعوم سحار المذكورة، وما قيل عن محاولاته الأخرى، إنما قامت – في تصورنا – نتيجة تشجيع المشرفين على المدارس التي أنشأتها البعثات التبشيرية . ويبدو أن الفكرة عن المسرح كانت مختمرة في الأذهان آنذاك، في هذه الأوساط، ذلك لما عرف عن صلة الوصل بحلب والشام، واتصال الرهبان ببعضهم البعض ومعرفتهم اللغات الأجنبية وعلاقتهم الثقافية بكل من روما وباريس مما عرفهم على الفن المسرحي في أوروبا وزودهم بثقافة فنية”(23)  والمشرفون على تلك المدارس كانوا من المسيحيين العراقيين الذين تمكنوا من استيعاب ثقافة العصر وسعوا إلى نقل ثمارها إلى العراق.  

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر أيضا ظهر المسرح الغنائي في الموصل على يد اسكندر زغبي الذي عاصر نعوم فتح الله سحار، وكان ملازما له. ومثلت مسرحيات زغبي الغنائية على مسارح المدارس المسيحية الأهلية في الموصل. ” وكانت  مسرحيات زغبي الغنائية برأي الدارسين تشبه من بعيد بما يعرف عند الغربيين باسم” الأوبريت” ، ويغلب عليها الزجل. وقد فقد أكثر هذه المسرحيات ولم يبق منها إلا عدد من المسرحيات القصيرة مثل “بزونتي ” و” البناء” و” ببالي وزوجها”التي مثلت على مسرح مدرستي الكلدان والدومنيكان ، وقد استخدم المؤلف فيها جميعا اللهجة العامية الموصلية. ودارت مسرحية “الخرده فروشي – بائع الخردوات” الطويلة التي مثلت عام 1905حول تاجر يدعى عمو إبراهيم يبيع الحاجات القديمة ويسخر منه الزبائن، ويخشى زوجته التي كانت تقسو في معاملته وتضربه أمام بناته كتبت باللهجة الموصلية أيضا، ومثلت بمصاحبة الموسيقى من قبل طلبة مدرسة الدومنيكان في الموصل ومجموعة من العمال كانوا يتلقون دروسهم فيها. (24)

وتوالت المسرحيات التي وضعها المعلمون الكلدان السريان الآشوريون في المدارس في الموصل. على سبيل المثال مسرحيتا سليم حسون ” استشهاد ترسيوس” عام 1904 و” شعو” عام 1905 اللتان قدمتا على مدرسة مار عبد الأحد في الموصل . وتدور الأولى حول الصبي ترسيوس الذي أراد إيصال رسالة إلى السجناء المسيحيين في روما فلقي حتفه في سبيل مهمته تلك، والثانية تحكي قصة الصياد الفقير ” شعو” الذي عثر في بطن سمكة اصطادها على خاتم الأمير الذي سقط منه أثناء استحمامه في ماء النهر. و” خاتم القبطان” للخوري روفائيل حبابة ، ومسرحية ” البريء المقتول” لحنا الرسام التي قدمت على مسرح المدرسة الاكليريكية عام 1911 ( أعيد تمثيلها بعد سنة، أي في عام 1912 بعد أن بدل اسمها إلى ” لوجه الله الكريم” ) ومسرحية “خراب  بابل” للخوري أنطوان زبوني والقس حنا حبي وتدور حول تآمر اليهود مع الفرس على احتلال المدينة، قدمتها مدرسة الكلدان في الموصل عام 1913م. و”الأميران الشهيدان” للقس (المطران فيما بعد) جرجيس قندلا عام 1915  وتدور حول قتل مار بهنام للأفعوان الهائل الذي أرعب السكان الآمنين. والعديد من المسرحيات المترجمة عن الفرنسية والانكليزية مثل مسرحية “جان دارك” المترجمة عن الفرنسية التي قدمتها مدرسة القاصد الرسولي في الموصل عام 1906( أعيد تقديمها من قبل طلبة الآباء الكرمليين في بغداد عام 1909- أنظر الإعلان المنشور في جريدة صدى بابل العدد 36 السنة الأولى/ 1909م عن المسرحية). ومسرحيتي ” الطيور الصغيرة” و” مار كاسان” المترجمتين عن الفرنسية اللتان قدمتا على مسرح مدرسة السيمينير في الموصل عام 1908. كما قام المطران جرجس قندلا بترجمة مسرحيتي ” الطبيب رغما عنه ” و ” المثري المتنبل” لمولير، ومثلتا على مسرح مدرسة الكلدان في الموصل عام 1908- 1910م. وقدمت المدرسة أيضا مسرحية سلسترا” أو ” الوطن” عام 1908، وهي مسرحية تركية للشاعر نامق كمال ترجمها إلى العربية  محي الدين خياط. وقدم دير مار ميخا في ألقوش، شمال الموصل، عام 1912 م مسرحية ” أستير الملكة” اقتبسها المطران اسطيفان كجو من الكتاب المقدس.

ومن الجدير بالذكر هنا أن نشاط الرهبان المعلمين لم ينحصر في الموصل ولم يقتصر على مدرسة مسيحية واحدة. إذ سرعان ما انتقل النشاط المسرحي إلى بغداد خلال السنوات الأولى من القرن العشرين. وكان طلاب مدرسة الكلدان ومدرسوها في بغداد مركز النشاط الفني المسرحي الجديد الذي لم يره أبناء عاصمة الرشيد من قبل. (25)

وقدمت مدرسة السريان السريان الكاثوليك في بغداد عام 1908مسرحية ” شهيد الدستور مدحت باشا”وهي مترجمة عن التركية وتدور حول سجن مدحت باشا وقتله. وكذلك قدمت المدرسة الكلدانية مسرحية سلسترا أو الوطن عام 1908وهي مسرحية مترجمة عن التركية للشاعر نامق  كمال نقلها إلى العربية محي الدين خياط في بيروت. وتذكر جريدة “صدى بابل” عددا من المسرحيات التي مثلت في بغداد بين عامي 1909-1912 وكلها مسرحيات مترجمة عن الفرنسية أو الانكليزية ، مثل مسرحية ” أرثور البريطاني” التي مثلت على مسرح مدرسة الصنائع عام 1910 ومسرحية “الأسيران الصغيران” التي ترجمت عام 1912ومسرحية ” الأقلون” ومثلها شبان المحفل اللاتيني عام 1912 على مسرح كنيسة اللاتين ومسرحية “الغدر” التي ترجمت عام 1912 أيضا . وكذلك مسرحيتا البرج الشمالي” و ” البنت الضائعة” اللتان مثلتا عام 1913على مسرح مدرسة الكلدان وغيرها إلى أن جاء الاحتلال البريطاني فركدت الحركة المسرحية في العراق.  

وقد عكست صحيفة ” صدى بابل” التي كان يصدرها المعلم داود صليوا بعض هذا النشاط المسرحي في بغداد من خلال الإعلانات التي كانت تنشرها على صدر صفحاتها في تلك السنوات. (26) .

وكان للمسرح المدرسي الذي بدأ نشاطه في المدارس المسيحية التابعة للكنائس في الموصل وبغداد والبصرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ثم انتشر في المدارس الأهلية العراقية الأخرى في أوائل القرن العشرين أثر في تطور فن المسرحية في العراق. (27)

كما كان لترجمة المسرحيات ولاتصال الأدباء العراقيين بالأدب الغربي الأثر الأكبر في نشوء فن المسرحية في الأدب العراقي الحديث. وأخذ هذا الفن شيئا فشيئا موضعه في الأدب العراقي الحديث، فنهج الكتاب العراقيون النهج الواضح ليسدوا هذه الحاجة واستعاروا فنهم من الغرب وخاصة من الكتاب الفرنسيين الذين كان أثرهم على العراق كبيرا لتأثيرهم على الفكر في الدولة العثمانية، ولإرسالهم البعثات التبشيرية إلى العراق. وهكذا شرع الكتاب العراقيون – وهم مسلحون بفن غير ناضج- يكتبون مسرحيات ليس فيها ابتكار في الشخصيات أو الموضوعات إلا قليلا ، ولكنها كانت عراقية الشخوص عراقية المناظر . وإذا كانت آثار هؤلاء الكتاب الأولين غير جيدة، فإننا يجب أن نتذكر أنهم كانوا يكتبون في فن جديد على الأدب العراقي. ومهما كان ضعف هذه المسرحيات الأولى فأنها كانت خطوة مباركة تمخضت عن رائدين كبيرين هما نعوم فتح الله سحار وحنا رسام. (28)

وبعد إحدى عشرة سنة على وفاة نعوم فتح الله سحار سار أحد تلامذته، حنا الرسام ( 1891-1958) على نهج أستاذه فعمل مدرسا في المدرسة الاكليريكية في الموصل بعد تخرجه منها بتفوق عام 1911 وانصرف إلى إتمام الرسالة التي بدأها أستاذه، ومثلت أولى مسرحياته ” “البريء المقتول” على مسرح المدرسة الاكليريكية في العام نفسه 1911م، وأعيد تمثيلها بعد سنة بعد أن بدل أسمها باسم ” لوجه الله الكريم” عام 1912م. وتقع مسرحية الرسام في أربعة فصول مقسمة إلى عدة مشاهد. وقد سار الرسام على نهج سحار في معالجة حواره وجعل كل شخصية تتكلم لهجتها العامية المحلية المتأثرة بالبيئة وعاداتها. وقد جمع بين لغة فصحى مبسطة استخدمها على ألسنة المتعلمين ولهجة عامية موصلية أجراها على ألسنة غير المتعلمين. أما مضمون المسرحية فهو مشكلة التمييز الاجتماعي والطبقي غير العادل(29). وكان الرسام موفقا إلى درجة كبيرة في مزاوجته هذه، حيث استطاع أن يقدم مسرحية تحمل نكهة فنية صادقة. (30) وهي ثاني مسرحية اجتماعية تكتب في العراق بعد لطيف وخوشابا.

للمؤلف عدد من المسرحيات التعليمية أهمها القرط الذهبي ” ( نشرت في مجلة قلب اليسوع البيروتية عدد6 عام 1929) و” رسول الأكواخ” 1925 و” فلسطين المجاهدة” 1936 وهي مسرحية وطنية تدعو للجهاد في سبيل تحرير فلسطين. ومن مسرحياته كذلك ” أحدوثة الباميا ” وهي مسرحية فكاهية شعبية استخدم في حوارها اللهجة الموصلية . وتقع مسرحية العواطف” الصادرة عام 1929 في خمسة فصول وهي مسرحية تهذيبية تدعو إلى التضحية في سبيل الغير.. ومسرحياته التاريخية هي ” الكونت سيليونسكي” 1925 و” الرجل النموذجي” 1930 و” ثمن الملكة” 1925 و” الغرباء” 1936 و” أسامة” 1937 و ” مثال الوفاء ومثال الوطنية” 1926 .

ويعد د. عمر الطالب أبرز من درس أعمال حنا رسام المسرحية، ويقول إنه ” يعتمد في جميع مسرحياته على الصراع الذي يولد الحركة المسرحية، وهذا أصل من الأصول الكلاسيكية الثابتة. وقد فطن الكاتب إلى المبدأ الكلاسيكي القائل بأن المسرحية تقوم على الصراع” ويضيف ” وقدم لنا حنا رسام عدة مسرحيات تاريخية إلى جانب مسرحياته الاجتماعية. والكاتب في مسرحياته التاريخية أفضل منه في مسرحياته المعاصرة” ويشبّه مسرحياته التاريخية بالمسرحيات التاريخية التي كتبها الآباء المسيحيون كسليمان الصائغ وحنا رحماني وحنا حبي وجرجس قندلا. أما عن أسلوبه فيقول” وأسلوب الكاتب بسيط يخلو من الصور البيانية المتكلفة ، ويخلو من الصنعة اللفظية التي تتمثل في التوازن والسجع ، ولغته فصيحة نقية بخلاف اللغة التي كانت سائدة في مسرحيات تلك الفترة . ويعتمد المؤلف على الشعر ليوضح بعض الصور أو ليعبر عن عاطفة مكبوتة أو ليبث شكاة حائرة. (31).

ولم ينتقل هذا الفن إلى العراقيين العرب إلا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بعد أن تأسس وشب على أيدي الكلدان الآشوريين السريان.

هوامش ومصادر :

(1)   أنظر: د. عمر الطالب- المسرحية العربية في العراق- مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1971 و أيضا: د. علي الزبيدي- المسرحية العربية في العراق- معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة ، 1967. وأيضا: أحمد فياض المفرجي-  الحياة المسرحية في العراق- بغداد. وخضر جمعة حسن – حصاد المسرح في نينوى-مطبعة الجمهور – الموصل، 1972 .

(2)   اسمه الكامل هو حنا بولص حبش ولد في بغديدا” قرقوش” عام 1820 كان شماسا ثم سيم قسا وخدم في الموصل وزاخو وتوفي في مدينة زاخو عام 1882. وكان أخوه إيليا بولص حبش كذلك شماسا ثم سيّم قساً، وعائلة حبش هي من العائلات المعروفة في بغديدا

(3)   أحمد فياض المفرجي – الحياة المسرحية في العراق- فصل البدايات- الكتاب منشور في الانترنت في موقع فرقة مسرح بغديدا.

(4)   د. عمر الطالب: المسرحية العربية في العراق، مطبعة النعمان، النجف، 1971 ص9 .

(5)   المصدر نفسه ص6.

(6)   على موقع منتدى مسرحيون: http://www.masraheon.com

(7)   د. علي الزبيدي- المسرحية العربية في العراق- معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة ، 1967 ص46 .

(8)   روفائيل بابو اسحق- تاريخ نصارى العراق، ص125.

(9)   صباح الأنباري – الشماس حنا حبش.. جذر المسرح العراقي وحجره الأساس- دراسة في موقع  اتحاد أدباء الانترنت العرب على الرابط التالي : http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=486

(10)   د. عمر الطالب – المسرحية العربية ص10 .

(11)   صباح الأنباري – المصدر نفسه .

(12)   د.عمر الطالب – المسرحية العربية في العراق ص7 ود. علي الزبيدي –المسرحية العربية في العراق ص44 .

(13)   خضر جمعة حسن- حصاد المسرح في نينوى، مطابع الجمهور، الموصل، 1973 ص19

(14)   د. علي الزبيدي: المسرحية العربية ص57

(15)   انظر مقال صالح جواد الطعمة، لطيف وخوشابا، مجلة الأديب، ج5 السنة 25، مايو 1965

(16)   د. عبد الإله أحمد – نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2 ، 1986 ص14

(17)   صالح جواد الطعمة- مسرحية الأديب البيروتية، عدد 5 السنة 25 مايو 1965 ص 17-18 نقلا عن د. عبد الإله أحمد ص14

(18)   د. علي الزبيدي- المسرحية العربية …ص47

(19)   المصدر نفسه ، ص67

(20)   د.عمر الطالب- المسرحية العربية في العراق، ص19

(21)   خضر جمعة حسن: حصاد المسرح في نينوى ص20

(22)   سليمان صايغ ، تاريخ الموصل، الموصل 1928- ج2 ص273-274

(23)   علي الزبيدي- المسرحية العربية في العراق- مجلة الأقلام ج9السنة1 مايس”أيار”1965 ص48-49. نقلا عن عبد الإله أحمد ص14

(24)   د. عمر الطالب – المسرحية العربية ص31-32

(25)   د.علي الزبيدي: المسرحية العربية في العراق ص70

(26)   انظر الأعداد 9و 36 وو128 و191 للسنوات 1909-1913

(27)   د. عمر الطالب- القصة القصيرة في العراق ص14و خضر جمعة حسن- حصاد المسرح في نينوى ص21-23

(28)   د. عمر الطالب – القصة القصيرة في العراق ص17

(29)   د. عمر الطالب – المصدر السابق ص33

(30)   خضر جمعة حسن- حصاد المسرح في نينوى ص23

(31)   د. عمر الطالب: المسرحية العربية في العراق ص43

 ————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – د. سعدي المالح

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *