حنين حار.. انتصار النص على العرض المسرحي – د. منتهى طارق المهناوي#العراق

حنين حار… انتصار النص على العرض المسرحي

سابدأ من النص، وامارس الحنين الى اللغة السردية التي تكاد ان تكون قد تضاءلت على خشبة المسرح، لهيمنة الصورة المسرحية مؤخرا، من خلال فعل التذكر واستعادة الماضي بحنين لهذا الزمن عبر عبارات وكلمات متناسقة بين اللغة الفصحى واللهجة العامية (العراقية)، ببنى سردية كثيفة الدلالة، همها الكشف عن العمق الرؤيوي للأحداث ضمن تجسيد أبطالها حنينا حارا للماضي، بالاسترجاع والتذكر عبر بنائية درامية سردية، قام عليها العرض المسرحي بتصاعدية لغوية ضمن تلاعب حركي بالزمن بين الحاضر والماضي، ليخلق لنا مؤلف النص تنوعا حكائيا ممتدا عبر تواصلية الحاضر بالماضي، مستعينا بأفعال الذاكرة ومنطلقا من فلسفة البيئة المحلية متجها بها بحكي مستقبلي وآني في ذات الوقت.

حين يشتغل المؤلف على فعل التذكر، فإن ذلك يوسع من نطاق السرد الذي تجاوزه المؤلف بـ (فعل متقن وايقاع منضبط) للممثلين (الأقطاب الثلاثة للعرض)، الذي عمل على إتصاله وانفصاله وكأنه يحكي ويسرد الحوار العليم للمؤلف الضمني الذي يتصل وينفصل ضمن انية الحدث الماضي، وآنية الان وهنا من خلال التنقل بين الوجع والحب. لتعميق حدة الإحساس بين مفارقة الموت والحياه في اختيارات لغوية مقصودة، وظفها المؤلف لتمرير رؤاه بعيدا عن المجاز، مزخرفا بها صورا حكائيه تتحدث عن الواقع ضمن صياغات مكثفة ومفارقات متلاحقة بتجليات للأغاني التراثية، التي صمدت في ذاكرة المؤلف وليبثها ضمن نصه وعرضه المسرحي ولتظفي دفقا طقوسيا ممتدا برمزية عالية وبتواصلية جمالية خبيثة مقترنا بها.. بالحاضر وما يحدث الان، مثل (هذا مو انصاف منك)…؟! (الف حيف والف وسفة) …؟! .

ليحولها إلى صورة ماكرة ضمن صياغة مكثفة ليوميات عراقية، بوعي مؤلف حاذق وبشفرات قادرة على ارسال رسائل تثير الدهشة لتلقي واعي لما يحدث على خشبة المسرح، والتي صورها المخرج ببوابة تتوسط ارضة اشبه ببوابة الجحيم، بوابة الفصل بين الموت والحياة، خط للمقابر، خط النار، خط الاعلام الحر، خط لساحات التظاهر، قصد به برمز تعويضي لإفضاء التعبير اللافت للمنظر التقليدي الذي تكرر لدى المخرج ( الاسدي) باستخدامه المفرط للديكور وفخامته ضمن منظور استرجاعي للصورة التي تجسدت برزم الجرائد المتراكمة على يمين المسرح زمن تهرء، مضى وذهب لم يبقى منه سوى الورق واستذكارات للأحداث.

وضعت الجرائد على المناضد والرفوف ونسيت، يحيلنا في صورة أخرى الى شراشف بيضاء تسحب من وسط اسفل المسرح الى خارجه ليخبرنا برمزية الزمن ومرور السنين التي ترحل ببطء لتحل بعدها سنين أخر ومازال البحث عن الاب الذي سيطر على ذاكرة (شفيقة) ابنته، هذه الشخصية العابثة بمهارة التجسيد، رمز آخر للمرأة العراقية الزوجة والعاشقة والصابرة التي تمثل الوجع فيها بكل اركانه. وجع مفقود بسقوط جنينها رغبة عالية للحفاظ عليه، بواسطة الموت نفسه. مفارقة ساخرة تنسج بغائية مقصودة، يكشف بها عن مفردات وجع الحياة العراقية والمرأة بالذات، وليقع الاختيار لتجسيد هذه الشخصية على الفنانة (آلاء نجم) التي كانت تثير الدهشة بأدائية إتقانيه وبرؤيا سردية عالية للمخرج ضمن اتباع إيقاع منضبط وانسجام متواصل لشخصية الزوج الرسام التشكيلي صاحب الألوان المختلفة استعارة لتنوع الحياة بألوانها المفرح والحزين، الفنان (مناضل داود) الذي أسس زخرفية أخرى تضاف للعرض ضمن أداء ايقاعي متقن، رغم ثقل الجسد الذي احسه المتلقي واتعبه في أحيان عدة، الا انه حاول ان يزخرف الخشبة بأدائه وخبرته اللافتة وتاريخه وحنكته في التمثيل، منسجما ومتراشقا معهم الكمان الذي اتحف العرض بمقطوعاته الموسيقية هذه المفردة المتكررة في عروض الاسدي اداها العازف الممثل (امين مقداد) بأداء موسيقي ناجح، وتمثيل اتجه الى سقوط إيقاع العرض لقلة خبرته في عالم المسرح. هذا الشاب بذل الجهد الكبير كي يصل إلى القطبين المرافقين له، إلا ان برودة تعابيره منعته من الوصول الى قمة الأداء.

هذا العرض الذي لون ساحات التظاهر بكل اماكنها بجماليات اللغة التي وضعته بصلب الحدث الان. واغدقت علينا من الوجع الذي نعيشه لمسة جمالية للنص الذي انتصر انتصارا باهرا على الإخراج، الذي صعد كفة اللعبة للنص تحت طائلة السرد المحكم بانزياح تام للمثل وهذا لا ننكره في عروض الاسدي الذي عودنا في مسرحه ان نرى ممثلا مبدعا مبتكرا.. اذا ماقارنا ذلك بالاخراج الذي ارتكز بشكل تام على اقطاب التمثيل دون عناصر العرض الأخرى.

لقد قدم لنا الاسدي حنينا لمسرح سردي تقليدي حار، اوشكنا على فقدان الامل برجوعه. ليضفي به ضمن دائرة الألوان التي فرشت ساحات التظاهر بوجع عراقي يعلوه كل الوان الكون واطيافه.
حنين حار للتصفيق، حنين حار للسرد، حنين حار للمثل المبتكر المبدع، حنين حار لمخرج متقن، حنين حار لمسرح عراقي اصيل.

د.منتهى طارق المهناوي – العراق

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش