حكاية شكسبير مع الوباء والحجر الصحي أعقد قليلًا من الافتراض القائل بأنهما أعطياه فسحةً للكتابة – أحمد ضياء دردير

حكاية شكسبير مع الوباء والحجر الصحي أعقد قليلًا من الافتراض القائل بأنهما أعطياه فسحةً للكتابة

ولد شكسبير في عام انتشار الطاعون في إنجلترا، وعايش في حياته العديد من سنوات الوباء، مما انعكس على العديد من أعماله الشعرية والمسرحية.

     انتشرت، في ظل الحجر الصحي المخيم على العالم، مقولات ومقالات عن المسرحيات التي كتبها شكسبير، كما يفترض، في عزلته أثناء الوباء. إلا أن حكاية شكسبير مع الوباء والحجر الصحي أعقد قليلًا من الافتراض القائل بأنهما أعطياه فسحةً للكتابة.

     لعب الوباء دورًا مهمًا في عالم شكسبير وفي كتاباته. كانت موجات وباء الطاعون، أو«الموت الأسود» كما كانوا يسمونه، من الظواهر التي وسمت أوروبا في العصور الوسطى وظلت تلاحقها فيما عرف بعصر النهضة، وجعلت الحجر الصحي (أو الكارانتينا، أي الأربعينية، لأن الإيطاليين كانوا يعزلون المدن المصابة أربعين يومًا) أمرًا مألوفًا. وقيل إن شكسبير ولد في سنة من سنوات الوباء، في 1564 تحديدًا، وهناك نظرية تقول إنه اكتسب مناعة ضده لأنه تعرض له وهو رضيع. وقد عاد الطاعون في حياة شكسبير عدة مرات ليجد الكاتب نفسه مع ريشته في الحَجْر. إلا أن انتشار الوباء كان يعني كذلك إغلاق المسارح، أي قطع عمل شكسبير الذي كان يتقاضى أجره من الفرق المسرحية ويكتب النصوص بنيّة عرضها على المسرح، لا بنيّة نشرها في المستقبل.

     كان شكسبير قد ترك قريته الواقعة في غرب إنجلترا وسافر إلى لندن ليعمل في التمثيل ثم في صياغة الحكايات التاريخية المشهورة في شكل شعري-مسرحي لتمثلها الفرقة التي كان يعمل بها؛ لا نعرف الكثير عن حياة شكسبير في بداية إقامته في لندن ولكننا نعرف أن نجمه كان قد بدأ بيزغ في عام 1592.[1] وفي عام 1593، عمّ الوباء وفُرض الحجر الصحي، وأُغلقت المسارح.

وباء 1593 وقصائد الحجر

     عندما باغت الوباء شكسبير وهو ما زال في بداية عمله في الكتابة للمسرح، الأرجح أنه لم يجد الحجر فرصة لكتابة المزيد من المسرحيات وإنما تعطيلًا لعمله المسرحي الوليد، فالتجأ إلى كتابة الشعر المحض بدلًا من الشعر المسرحي.

      في هذه الفترة استلهم شكسبير التراث الروماني-اليوناني فكتب قصيدتيه المطولتين: «فينوس وأدونيس» و«اغتصاب لوكريشا»، والأرجح أن مجموعة القصائد القصيرة «السونيتات» التي يستلهم في آخرها كذلك الميراث الروماني-اليوناني قد كُتبت في نفس هذه الفترة. لم تحظَ هذه القصائد بنفس شهرة مسرحياته، ربما باستثناء القصيدة 18 التي يقول مطلعها «هل أقارنك بيوم صيف»، والتي تُجتَزأ من سياقها فتُعامل كما لو كانت قصيدة حب. المشكلة أن هذه القصيدة لو كانت قصيدة حب بالفعل لكانت قصيدة سيئة جدًا، فنصف أبيات القصيدة تذم الصيف بدلًا من مدح المحبوب المزعوم. وحتى لو افترضنا أنه يقول إن محبوبه أفضل من الصيف، فإن ذكر عيوب الصيف بدلًا من محاسن المحبوب يقلل من قيمة الغزل في هذه المقارنة. هذه القصيدة، كما يوحي عنوانها، هي الثامنة عشر ما بين 126 قصيدة عن «فتىً حسن [الهيئة/الأخلاق]»[2] يُرَجَّح أنه نبيلُ مدينة ساوثهامتون الذي أهدى إليه شكسبير كذلك قصيدتي «فينوس وأدونيس» و«اغتصاب لوكريشا». تبدأ القصائد الـ(126) بسبع عشرة قصيدة يُرَغِّب فيها شكسبير هذا الفتى اليافع في الزواج والإنجاب لتخليد حسنه وشبابه من خلال ذريته، ثم يمضي من أول القصيدة التاسعة عشرة إلى تخليده شعرًا، كأنما يقول له إن لم تخلد أنت نفسك من خلال ذريتك فسأخلدك أنا في كتابتي.

     والقصيدة الثامنة عشر تمثل هذا المفصل ما بين الخلود بمعناه الأول والخلود بمعناه الثاني. فبينما يقارن شباب هذا الفتى بالصيف، فإنه يذكره بأن الصيف قد تعتريه العواصف وأنه سيذوي يومًا. لكن شكسبير يخبر فتاه بأنه، على عكس الصيف، سيخلد في «خطوط أبدية»: والخط في هذا السياق قد يعني النسل، وبهذا يحيل إلى القصائد السابقة، وقد يعني السطر الشعري، وبهذا يمهد للقصائد التالية. طبعًا لا يخلو الأمر من غرور الشاعر، فبينما يمدح شكسبير شباب صاحبه، يذكره أن شعره هو الذي سيمنحه الخلود. وفي المقارنة مع الصيف ومع تقلبات الطقس هناك إشارة أيضًا إلى أن العشق والهوى يخضعان للتقلب. بينما الإعجاب بالجمال المطلق الذي لا يخضع لمنطق الهوى ولا للشهوة ثابت وخالد، وربما أيضًا إلى أن التناسل لا يخضع لتقلبات الهوى. (ربما يقول شكسبير لصاحبه بشكل غير مباشر: تزوج من ستنجب منك أطفالًا لا من يهواها قلبك).

فهل كان الوباء حافزًا لشكسبير ليفكر في التناسل وفي بث الحياة وفي الخلود، في مقابل الموت المحيط به؟ لا نستطيع أن نجيب يقينا، ولا يوجد في هذه القصائد ما يشير صراحة إلى الوباء، ربما باستثناء القصيدة 141 عندما يكون شكسبير قد انتقل من تخليد فتاه إلى التغزل بـ«سيدته الغامضة» إذ يقارن حبه لها بالوباء الذي لن يجني من ورائه سوى العذاب (ربما لأنها هي معذبته، وربما يشير إلى العذاب في الآخرة لأن حبه لها خطيئة). وكذلك في قصيدته المطولة، «فينوس وأدونيس»، لا نجد سوى إشارة لفظية واحدة للوباء، إذ تتغزل فينوس بشفاه أدونيس وتقول إنها «ما بقيا، فإن طلاوتهما/ تطرد العدوى من السنة الوخيمة/ حتى يقول المنجمون، من بعد أن تنبأوا بالموت/ أن الوباء نفته أنفاسك».

تجتمع الحياة والموت بشكل مكثف في هذه القصائد التي كُتبت على هامش الوباء والموت. قصيدة «فينوس وأدونيس» بالذات هي قصيدة عن الإيروس،[3] ليس فقط من حيث هو الشهوة (التي يجتمع فيها العشق بالرغبة في الإنجاب) ولكن أيضًا من حيث هو إرادة الحياة؛ ولكنَّ إرادة الحياة تجتمع مع إرادة الموت[4] إذ يصر أدونيس، أمام محاولات فينوس لإغوائه، على أن يذهب لصيد خنزير بري بالرغم من تحذيرات فينوس بأن في هذه المغامرة هلاكه؛ وبالفعل يقتل الخنزير أدونيس ليختلط اشتهاء فينوس له برثائها لموته، وتضع جروحه في موضع الأطفال الذين تمنت لو أنجبتهم منه، وتسهب في وصف دمه الذي يمتزج بالأزهار والذي ستخلق منه شقائق النعمان (إذ كانت الأسطورة الرومانية اليونانية تقول إن شقائق النعمان خُلِقَت من دم أدونيس ودموع فينوس).
نفس الامتزاج بين الحياة والموت نجده في قصيدة «اغتصاب لوكريشا»؛ إذ يغتصب الأمير الروماني سيكستوس تاركينوس (ابن الملك لوشيوس تاركينوس المعروف بلوشيوس المتكبر) لوكريشا زوجة النبيل الروماني كولاتينوس، التي تخبر زوجها وأهلها بالأمر ثم تقتل نفسها، فيثور النبلاء على آل تاركينوس فينفونهم جميعًا ويجعلون روما شورى. والقصة التي تستعيدها القصيدة هي الرواية التاريخية-الأسطورية لميلاد الجمهورية الرومانية. وإذ تسهب القصيدة في وصف شهوة سيكستوس تاركينوس وجمال لوكريشا، فإنها تجعل إرادة الحياة عند الأمير المغرور طيشًا وعدوانًا لا يؤدي إلا إلى الموت والخراب؛ ووصف شكسبير المفصل في الأجزاء الأولى من القصيدة لجمال لوكريشا الذي أذهب عقل تاركينوس ففعل ما فعل، يقابله في النهاية وصف مفصل كذلك لانتحارها وللدم الذي سال منها وأحاط بها وتجمع على وجهها ولونه وسيولته و/أو تجلطه. لم يكن شكسبير شاعرًا حالمًا؛ بل على العكس امتلأت قصائده ومسرحياته، إلى جانب أشعار الحب والإحالات الفلسفية والميثولوجية والألعاب اللفظية، بالموت وبصور الدم السائل والمتخثر والجثث المتعفنة والرؤوس المقطوعة: ربما أشهر الأمثلة على ذلك هي مسرحيته الدموية «تايتس أندرونيكس» التي تستلهم هي الأخرى التراث اليوناني والتي قُدمت للعرض في السنة التالية للوباء، وبالطبع «ماكبث» التي يُعتَقَد أنها كُتبت أثناء وباء عام 1609.

الوباء ومسرح شكسبير

     بعد انحسار الوباء، اشترك شكسبير مع مجموعة من الممثلين (من بينهم رفيق عمره ريتشارد بيربج) في تأسيس فرقة مسرحية، ليكون الأعضاء شركاء في الربح وليكون شكسبير كاتبهم المقيم (أحيانًا بالتعاون مع أعضاء آخرين يشتركون معه في عملية الكتابة أو يضيفون للنص أثناء إعداد العرض) وليحصل شكسبير، نظير مشاركته بالكتابة والتمثيل، على نسبة من أرباح التذاكر. وربما منحت هذه الترتيبات، بالإضافة إلى عبقرية شكسبير التي بدأت تعلن عن نفسها أكثر وأكثر، نوعًا من الاستقرار المادي والمعنوي، الذي مكن شكسبير، عندما حل الوباء ثانية، أن يستمر في كتابة المسرحيات، مطمئنًا إلى أن عمله المسرحي سوف يستمر إن نجا. وهكذا تصادف وباء العام 1609 مع كتابة ثلاث من أروع تراجيدياته: «ماكبث» و«الملك لير» و«أنطوني وكليوبترا».

      مرة أخرى لا نستطيع أن نجزم إن كان للوباء والحجر أثر مباشر في جو هذه المسرحيات القاتم والمليء بالموت (ربما كانت تلك القتامة مجاراةً للتراجيديا اليونانية التي استلهمها شكسبير، وربما أصبح هذا الاستلهام أكثر عمقًا وصدقًا بعد أن عاش شكسبير على حدود الموت). ولن نعدم كذلك من إشارات متعددة للوباء في مسرحه، فقد سمّى أمير الدنمارك هاملت على اسم ابنه هامنت الذي مات في أحد موجات الطاعون.[5] يتحدث الأمير عن الدنمارك وعرشها الذي اغتصبه عمه كلوديوس (بعد أن قتل والد هاملت) بمفردات العفن والمرض والتحلل، ويقول لصاحبيه شاكيًا وهو على حافة الجنون «انظرا: هذه السماء الرائعة، هذا السقف العظيم، مزينًا بالنار الذهبية، لا أراها إلا تجمعًا خبيثًا وموبوءًا من الأبخرة». ففي هذا العصر كانوا قد بدأوا في اكتشاف فكرة العدوى وأنها تنتقل بالهواء فمثلوها بالأبخرة وكانوا يظنون أن تجمع الأبخرة والروائح الكريهة في مكان من شأنه أن ينشر الوباء. ومثل ذلك حديث الملك لير عن «الوباء المعلق في الهواء»؛ وهنا تجتمع فكرة الوباء كعدوى بفكرة الوباء كلعنة، فالملك لير يجعل من الوباء لعنة تحيق بالأولاد (وبالذات البنات) العاقين لآبائهم (بعد أن طردته ابنتاه حين قسَّم مُلْكه بينهمًا).

     ويحل الوباء محل اللعنة في مواضع كثيرة، فيدرك الجمهور الذي مر بتجربة الطاعون فداحة هذه اللعنة: فعندما يَمُنُّ بروسبيرو، المستعمر الذي استقر في جزيرة شمال الجزائر، على كاليبان، الذي وجده بروسبيرو في الجزيرة فاستعبده، بأنه علمه اللغة، يرد عليه كاليبان «علمتني اللغة، ونفعي منها، هو أني أعلم كيف ألعن، فليأخذك الوباء الأحمر، لأنك علمتني لغتك!».[6] وفي مسرحية روميو وجولييت عندما يُقتَل ميركوشيو، صديق روميو، في صراع ما بين عائلة روميو وعائلة جولييت، يقول لروميو «وباءٌ على بيتيكما/عائلتيكما». هذا الوباء لا يلعب دورًا مجازيًا فقط في المسرحية وإنما يمتد إلى حبكتها. (في السطور التالية حرق لأحداث روميو وجوليت، فإن لم تكونوا قرأتموها فإني أدعوكم صادقًا إلى أن تضعوا هذا المقال جانبًا وأن تصرفوا وقت الحجر في قراءة هذه المسرحية ثم، إن أردتم وإن كان في الحجر بقية، أن تعودوا لهذا المقال).

     ففي نفس المشهد الذي يلعن فيه ميركوشيو روميو ويتمنى أن يصيب الوباء عائلته وعائلة جولييت، يقتل روميو قاتلَ ميركوشيو (وهو تيبالت ابن عم جولييت) فينفيه أمير البلاد إلى مدينة أخرى. ويحتال القس لورنس ليجمع روميو وجولييت مرة أخرى، فيعطي جولييت عقارًا يحاكي الموت ويرسل رسالة لروميو مع أحد القسيسين يخبره بأنها لم تمت حقًا وأن هذه خطة لتلحق به. إلا أن الرسالة لا تصل إلى جولييت لأن الرسول الذي أرسله القسيس لورنس يمر في طريقه بقسيس آخر كان يزور المرضى، فيظن مفتشو الصحة في المدينة أن القسيسين قد مرا «ببيت من تلك البيوت، حيث يستبد الوباء المعدي» فيفرضون عليهما الحجر الصحي ويعزلونهما حيث أقاما. فلا تصل الرسالة إلى روميو ويظن أن جولييت ماتت حقًا فيشتري سمًا ويتسلل عائدًا إلى المدينة وإلى قبر جولييت لينتحر هناك قبل أن تفيق هي فتراه يموت في أحضانها فتقتل نفسها.

     إلا أن تأثير الوباء والطاعون في ثقافة هذا العصر، وفي مسرح شكسبير، يتعدى هذه الإحالات. فقد كانت موجات الوباء من ضمن العوامل التي أفقرت أوروبا وجعلتها في نظر كتاب ذلك العصر أرض جدب ومرض في مقابل المغرب وفلسطين وتركيا (التي كانت تعني لهم تركيا والشام وأحياًنا بلاد الترك والعرب أو سائر أراضي الدولة العثمانية) والأمريكتين التي كانوا يرونها أراضي الرخاء والوفرة؛ وقد أثّر ذلك في تصور هذه البلدان في آداب هذا العصر كما أثر في سياسات أوروبا تجاه تلك الأراضي، وذلك حديث يطول.

أحمد ضياء دردير
(حبر)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش