حازم كمال الدين يؤسس لمسرح الجسد من خلال التعرّي لإيجاد الذات / عواد علي#العراق

الشخصيات المسرحية تقودنا إلى ذواتنا وتكشف لنا من نحن في مسرح المخرج العراقي حازم كمال الدين.

لا يمكن أن يقوم المسرح في غياب الممثل، وكذلك لا يمكن قيامه من دون الجمهور، فالممثل والجمهور هما العمودان المؤسسان تاريخيا للمسرح كفن له حمولاته الجمالية والفكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها. لكن تبقى العلاقة بين الجمهور والممثل علاقة إشكالية، فلكل منهما تصوراته وجانبه من الرسالة المسرحية، بين باث ومتقبل، قد يتبادلان الأدوار، وهو ما يؤسس له مسرح العراقي حازم كمال الدين، الذي يحاول من خلال أعماله أن يخلق جدلية أخرى مختلفة في علاقة الممثل بالجمهور وبالعمل المسرحي ككل.

يعتمد المخرج والكاتب المسرحي العراقي – البلجيكي حازم كمال الدين منهج “المعاناة” أسلوبا في صياغة أعماله المسرحية، الأمر الذي دفع بمنطلقاته إلى التركيز على البحث الداخلي (العودة إلى الذات) وصولا إلى مركز الطاقة في الممثل.

ووفق هذا التمشي فهو يقضي مدة طويلة في تمارين متنوعة مع الممثل تحثّه على ملامسة ذلك المركز (الذات). وعندما يعثر عليه أو يشعر به يبدأ بالتعامل مع أدوات أخرى تقويّ المركز، وتدفعه إلى الحضور المجسَّد من خلال تطويره الداخلي وربطه بما هو خارج الممثل.

اكتشاف المركز

في هذا السياق بدأ كمال الدين عمله متنكّرا للأساليب التي يرتديها الجسد اليومي، أو الجسد المستخدم كوعاء لتجميع المعارف، ولم يعد يعتبر “المشاهدين” مجموعة عناصر استقبال يستخدمها لإيصال فكرة، أو للبحث من خلالها عن الشهرة أو يمارس عليها سلطة ما أو يقول لها أو يعلّمها شيئا، ذلك أنّ علاقة عمله المسرحي بالجمهور هي علاقة امتداد وتواصل ومجابهة، لا تتم إلّا عبر اكتشاف المركز، ثم تقويته وتطويره حتى يصل إلى مرحلة الاستعداد للوقوف وجها لوجه أمام العنصر الجديد؛ المشاهد.

أما في مرحلة التركيز على اتصال المركز (الذات) بما هو خارجه، فإنه يعمل مع جملة عناصر أهمها؛ الممثل الآخر، الفضاء المسرحي والنص.

إن علاقة الممثل بما هو خارجه في هذه المرحلة هي علاقة يكون شرطها الأساسي التعرية (كشف الذات)، وملامحها الامتداد والتواصل والمجابهة. كما أن هدف هذه المرحلة يكمن في توحيد ذات الممثل العارية مع عناصر العمل المسرحي الأخرى لكي يصبح الجميع “ذاتا واحدة” لها مركزها الخاص الذي يوظّبه، بحيث يتعامل مع عناصر جديدة خارج تلك الذات هي؛ المشاهدون.

ومن أجل الوصول إلى نتائج مرضية في هذا الصدد، يحاول جميع الممثلين أن يتعلموا بجديّة كيف ينسون ما تعلموه لكي يُسمح للتجربة الجديدة أن تتغلغل في كيانهم، لأنهم إذا ما استخدموا معاييرهم التي تعلموها لن يغتنوا إلّا بعدم الفهم لسياق التجربة، مما يدفع إلى الملل والكراهية الناتجين عن محاولة إجبار التجربة على الدخول في آليّات تفكيرهم وليس في بنيتها الذاتية.

التجربة أساس المعرفة

 

حازم كمال الدين: إنّ تجربة حالة محددة، وإعادة اكتشافها وصقلها وبلورتها والسماح لها بالتغلغل عميقا في ذاتي هي التي تمنحني المعرفة

 

إن المشاركين في العمل، وفق رؤية كمال الدين، يفترضون أنّ من يأتي إلى المسرح عليه القدوم بقلب دافق، وذهن لا تكبّله تصورات مسبقة عن أسلوب عمل، أو عن زملاء آخرين، أو عن نفسه، أو عن حلول فنية معينة. إنهم يبحثون في العمل المسرحي عن أنفسهم في سياق صيرورة مراحله من أجل اكتشاف “الأنا”، ولا يفعلون ذلك في التمثيل، أو بالحلول الأجمل، أو بالتساؤل عن الـ”كيف”، أو بتساؤلات من قبيل كيف ألعب الدور، كيف ألقي هذه الجملة، وكيف يبدو شكلي من الخارج؟

بمعنى آخر، يقول كمال الدين “نحن لا نبحث في تطبيق استخلاصات نظرية – أكاديمية على تجربتنا المسرحية، لأننا لا نبدأ من البعد النظري، ولا ندرس مدى تحققه في التطبيق العملي. بالعكس، نحن نحاول أن نتعلم من خلال التجربة العملية. إنّ تجربة حالة محددة، وإعادة اكتشافها وصقلها وبلورتها والسماح لها بالتغلغل عميقا في ذاتي هي التي تمنحني المعرفة. فأنا لا أدّعي المعرفة قبل التجربة. أنا أؤمن وبشكل قاطع أنّ التجربة هي من يقودني إلى المعرفة”.

وعلى هذا الأساس نفهم كيف يتنكّر العمل للكليشيهات التي يرتديها الجسد اليومي، أو الجسد المستخدم كوعاء لتجميع المعارف. كما يرفض استخدام الحواس كمتنصّت، أو كناقل للمعلومات عن العالم الخارجي.

إنّ الحواس (النظر، السمع، إلخ.) ليست مجرد وسائط لنقل معلومات بالنسبة إلى طريقة عمل الفريق المسرحي، بل عناصر تواصل – توازن بين العالم خارج الذات وبين الذات. فالإنسان الشرقي ذو طبيعة استقبالية أكثر مما هو ذو طبيعة إرسالية.

لذلك لا يشغلون أنفسهم بالمشاهدين، في هذا القسم من عملهم، ولا يثيرون تساؤلات حول كيفية استقبال المشاهد لذلك الحدث؟ أو هل هذه المعالجة واضحة بالنسبة إليه؟ أو أليس هذا معقّدا عليه؟

إنّ مثل هذه الأسئلة وأسئلة كثيرة في الاتجاه ذاته تُخرج عملهم من سياقه (مبدأ المعاناة) لتضعه في سياق آخر (مبدأ العرض)، الذي يشترط أوّلا كيفية إيصال المادة المسرحية إلى المشاهدين من طرفهم، فهم لا يعتبرون في نهاية المطاف، بالنسبة إلى هذا الأسلوب، أكثر من ناقلي معلومة، أو مروّجي أفكار أو أدوات تُستخدم لإيصال مقولات محددة.

إن الممثل هنا لا يمثل شخصية، يندمج فيها أو يحافظ على مسافة محددة بينه وبينها، فهذان المفهومان يدفعانه إلى البحث خارج ذاته عن ملامح شخصية ما (تاريخها، أبعادها…)، ومن ثم تطويعه لارتداء تلك الملامح، أو إرغامه على الاندماج في كيان مؤسس خارج ذاته، هدفه محاكاة الحالة الداخلية للشخصية المسرحية.

الشخصية بوصفها مشرطا

                                                                                                                                                                الفكرة داخل الممثل وخارجه
                                                                                                                                                                الفكرة داخل الممثل وخارجه

في هذا الصدد يقول كمال الدين “نحن نبحث في إطار آخر يدفعنا إلى أن نتعامل مع الشخصية المسرحية باعتبارها ملامح موجودة في الذات، لكنّها غائبة عنا بسبب القمع الواعي أو اللاّواعي الذي نمارسه عليها، أو بسبب إهمالنا لها، أو لأسباب أخرى. بحثنا هنا يريد تحطيم القيود أو العوائق التي تمنع ظهور ما هو كامن فينا”.

ويضيف “كذلك نتعامل مع الشخصية المسرحية (في أحيان أخرى ولأغراض محددة) باعتبارها مشرطا يقودنا إلى ذواتنا، يكشف لنا من نحن بالضبط، ما الذي تخفيه أرواحنا، وأين تكمن العوائق التي لا تسمح لنا بالإجابة عن سؤال من نحن؟”.

ويلفت كمال الدين إلى أنّ النزعات الشريرة، مثلا، موجودة داخل كيان كل ممثل، وما عملية الإلغاء لتلك النزعات أو محاربتها رغبة في انتصار الخير إلّا شكل من أشكال العوائق التي تعيق الممثل عن أن يكون كما هو؛ مكوّنا لوحدته الكلية. إنّ كشف الحالة الداخلية للممثل والتطهّر منها هي بالضبط ما نعنيه بإزالة العوائق. ذلك أنّ إماطة اللثام عن عناصر يريد الممثل أن يخفيها هو ما يدفعه إلى الاعتراف بوجودها وبوعيها، وللتحرر أو التطهر منها.

ويرى أن هذه الطريقة في العمل تشترط أيضا على الممثل أن يتعامل مع الفضاء المسرحي، ومعطيات العرض المسرحي الأخرى بعفوية وتلقائية وعمق أدواته؛ الجسد والإحساس والخيال والتجربة. وإنّه لمن واجبه الفني والإبداعي أن يكيّف نفسه في كل عرض لكي يلتقي بمشاهد جديد وأدوات مختلفة وكأنّه يصنع العرض للمرة الأولى، متحسّبا طوال الوقت لكل صغيرة وكبيرة في المعطيات الجديدة الحبلى بدلالات جديدة للعرض. أي أنّ عليه التصدي للتعامل مع كل ما هو غير متوقع، بما في ذلك الأخطاء الناتجة عن تغييرات اللحظة الأخيرة، والتي يجب عليه أن يستوعبها ويحتويها ويعيد إنتاجها وكأنّها جزء أصيل من العرض.

يُذكر أن أعمال حازم كمال الدين المسرحية الـ49، التي أخرجها لفرقتيه “محترف صحراء 93″، و”زهرة الصبار”، عُرضت في مختلف المهرجانات المسرحية الدولية، خاصة في بلجيكا وهولندا وبريطانيا وألمانيا وكندا وصربيا وأوكرانيا ومصر والعراق.

وألّف 25 نصا مسرحيا، نشر بعضها بصيغة كتب بين عامي 2018 و2000، منها “العدادة”، “عند مرقد السيدة” و”السادرون في الجنون”. كما أنجز العديد من الأبحاث المسرحية التخصصية نشرت ثلاثة منها حتى الآن هي “مسرح الصحراء”، “بيت القصب” و”المسرح والهوية”، وكُتبت عنه أبحاث وأطروحات جامعية عديدة في بلجيكا والعراق، وأقام مجموعة من الورشات المسرحية في التمثيل والدراماتورجيا وتكوين الممثل من حيث الصوت والإلقاء ولغة الجسد. إضافة إلى أنه نشر روايتين، “كاباريهت” و”مياه متصحّرة”، وعددا من المجاميع القصصية، وترجم نصوصا ودراسات مسرحية أبرزها “مسرحيات للممثل الواحد”، “أنتيجون في مولنبيك”، “قيصر الخسارة “، “ملك الانتحال” و”سادن الجمال”.

                                                                                                                                             علاقة الممثل بما هو خارجه تشترط التعرية
علاقة الممثل بما هو خارجه تشترط التعرية
 

المصدر / العرب
https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش