جوزيت فيرال وكتابها ‘مسرح/شعبي’/عواد علي

لنظرية النسوية بالنسبة إلى الباحثة الكندية تعد بمثابة الجسر الذي قادها من توجهها الأصلي كباحثة أدبية إلى باحثة مسرحية.

في كتاب المنظّرة المسرحية والباحثة الكندية جوزيت فيرال وهو آخر ما صدر لها عام 2014، بالاشتراك مع الباحث الفرنسي كرستيان بيت، ثمة تركيز على “الموجة الفلمنكية” التي تمّحي في عروضها الحدود بين المسرح والرقص والغناء.

تستعيد فيرال، في تقديمها للكتاب، التساؤل الذي طرحته مجلة “إكسبرس” الفرنسية الأسبوعية عام 2002 “كيف يمكن لمقاطعة فلاندرز الصغيرة أن تصبح في غضون سنوات قليلة مركزا لتجمع الفنانين الفلمنكيين الأكثر إثارة في اللحظة الراهنة؟”. وتضيف أنه “بعد عشر سنوات تبدو ‘موجة الفلمنكية’ محتفظة بطابعها الابتكاري، تعمل إجرائيا ضد الأشكال الأدائية السائدة حاليا في المسرح، ويواصل فنانوها تجديد البانوراما الفنية، ويفجرون الحدود بين المسرح والرقص والغناء في أشكال شعبية من الأداء”. لكن إلى جانب ذلك ثمة مفارقة غريبة، فرغم وجود هذه الأشكال الشعبية بصورة منتظمة في المسارح والمهرجانات العالمية، لم يخصص إلا القليل من الجهد، خلال عشرين عاما، لجمع ما كتب عن هؤلاء الفنانين المتمردين المدهشين.

بدأت شهرة فيرال، التي تُعدّ من أشهر المشتغلات في حقل الدراسات المسرحية والسينمائية الحديثة ذات الاتجاه النسوي، إلى جانب جيل دولان، لورا ميلفي، كايا سيلفرمان، ماري آن دون، آنيت كون، روبي ريتش، وجيليان سوانسون، بعد نشر كتابها “العرض والمسرَحَة” عام 1982، وهو الكتاب الذي تتبنّى فيه الموقف النظري لكل من فرويد ولاكان ودريدا، وآخرين من تيار ما بعد البنيوية، مفترضة، أن الرغبة تمثّل مركز القلب من فن الأداء المسرحي، كما تسعى إلى التعرف على الملامح الجوهرية لهذا الفن، والتي تبرز بدورها حدود المسرح التقليدي، حيث لا يستند العرض المسرحي إلى مفاهيم السرد والتمثيل، بل الأهم من ذلك أنه يرفض المعنى، فهو يقوم بإعادة تعديل كفاءات المتلقين، وتوزيعها في ترتيب لا يخضع لنظام محدد. وانطلاقا من ذلك لا تتعامل فيرال مع علامة ذات طابع نظري لساني، بل مع علامة حقيقية، ونظام تشفيري. ويمثل العرض، من وجهة نظرها، تحديا للمسرح في هذا الإطار، وكذلك لأيّ مفهوم يتبناه. إنه يعمل على إعادة رسم توجهات هذه المفاهيم، وذلك بدفعها إلى المكاشفة، واستكناه ما همّشه المسرح.

العرض المسرحي هو أحد الحقول التي تتغير فيها الحدود على نحو مستمر، والأنساق الرمزية تعاد مساءلتها، ويكون الجسد مركزيا، ومفهوم التمثيل محطّما. وثمة تكامل بين معالجة الفضاء المسرحي والمتلقي والعمل الفني وعلاقة الفنان بها، في شكل من اللعب اللامنتهي

كانت النظرية النسوية بالنسبة إلى فيرال بمثابة الجسر الذي قادها من توجهها الأصلي كباحثة أدبية إلى باحثة مسرحية. لكنها تعتقد بأن قلقها على النظرية النسوية هو الذي أحضرها إلى المسرح، أو ربما يكون قلقها على المسرح هو الذي ثبّتها في مواقفها النسوية، لأنها جاءت إلى المسرح من خلال كتابات جوليا كريستيفا، ولوسي إيريجَراي (باحثة فرنسية من أصل بلجيكي معنية بالنظرية النسوية)، وكثير من المنظّرات اللواتي حاول بعضهن تضخيم الانقسام بين المجتمع البطريركي وعالم النساء، ليس فقط فيما يخص الجنس، بل في معظم الأنساق الرمزية في الحياة والأدب.

هذه الانشغالات قادت فيرال إلى الفن الأدائي، حيث تكون السيمياء بالمعنى الكريستيفاوي (نسبة، إلى جوليا كرستيفا) حاضرة فيه إلى حدّ ما، فالعرض المسرحي هو أحد الحقول التي تتغير فيها الحدود على نحو مستمر، والأنساق الرمزية تعاد مساءلتها، ويكون الجسد مركزيا، ومفهوم التمثيل محطّما.

ترى فيرال أن المؤدي والمؤدية يستخدم كلاهما جسده في العرض كالرسام الذي يستخدم الخيش (الجنفاص) في الرسم، وتصف هذا الجسد بأنه جسد حرباء، جسد غريب من حيث رغبات الموضوع ومظهر الكبت، وتعترف بالخطر الحديث للجسد، شاعرة بأنه “ينفجر في فراغ الماكنة”، على حد قولها، و”أن المؤدّي لا يزال بإمكانه أن يحافظ على حضوره بوساطة اللعب بالمفارقة القادرة على التلاعب بالماكنة التي تتحسسها وتنوب عنها”. وتذهب فيرال إلى أن ثمة تكاملا بين معالجة الفضاء المسرحي والمتلقي والعمل الفني وعلاقة الفنان بها، وتُعد المسرَحَة من نتاج هذا اللعب اللامنتهي، وهذه الانزياحات المستمرة لوضع الرغبة. وبعبارة أخرى لوضع الموضوع في العملية داخل فضاء خيالي. وهي، أي المسرَحَة، يمكن النظر إليها بوصفها ذات طبيعة مزدوجة، إذ تكون نتاجا لفعل المتخيّل في حالين: عندما يحدث التشديد على العرض، وعندما يحدث التشديد على الطابع المسرحي للهياكل الرمزية المحددة.

يكشف عدد مؤلفات فيرال المنشورة خلال العقود الثلاثة الماضية، ومنها “الثقافة ضد الفن”، “مسارات الشمس”، “نظرية المسرح وممارسته”، “آريان منوشكين ومسرح الشمس”، “ممارسات الأداء: تطويع الجسد”، و”شفافية النص: الكتابة المعاصرة لخشبة المسرح”، أنها منتجة بغزارة. وتكشف القراءة المعمقة لأطروحاتها أن المرجعيات التي وجّهتها أو تأثّرت بها، هي مرجعيات تتمثل في بعض الدراسات المسرحية الحديثة، ونظرية التحليل النفسي لعمل الحلم، والتحليلات النسوية للفن. وتمكن ملاحظة الأولى في كتابات أوبرسفيلد عن لذة المتلقي في المسرح، التي أثار اهتمامها بها رولان بارت، فهي تؤمن بأن اللذة تعتمد على الرغبة في أن يرى المرء تقليد العالم بإمكانياته المحدودة والحرفية، وأن اللذة المسرحية هي نتاج لجميع العناصر التأثيرية مجتمعة، إضافة إلى عملية التباعد التي نحتاجها لكي نشعر بالسكينة.

ورغم ما يطرحه تأثّرها بالتحليل النفسي من إشكالية فعلية بالنسبة إلى أيّ منظّرة نسوية، بسبب ما يوصم به التحليل النفسي من بطريركية، فإنه تمكن إحالة موضوع الرغبة لديها إلى بحث فرويد لها في كتابه “تأويل الأحلام”، فمن المعروف أنه عرّف الحلم بأنه تحقق مقنّع لرغبة مكبوتة، أو أنه انحراف عن الرغبة الأصلية المستكينة في أعماق النفس. ونجد لمنهج عالم النفس لاكان صداه، أيضا، في مقابلة فيرال بين الفضاء الخيالي والنسق الرمزي للمسرَحَة، بوصفها ذات طبيعة مزدوجة، وثنائية الخيالي-الرمزي.

أما فيما يتعلق بتأثر فيرال بالتحليلات النسوية للفن، فيمكن أن نشير إلى أنموذج واحد، تمثيلا، لا حصرا، وهو دراسة تأسيسية لـلورا ميلفي بعنوان “اللذة المرئية والسينما السردية”، تحلل فيها الكيفية التي يقوم بها لاشعور المتلقي ببناء رؤيته للعرض، مؤكدة أن لا شعور المتلقي (الذي يقوم ببناء الاستجابات حسب أنموذج لاكان) يتشكل من خلال النظام السائد، فالفيلم السينمائي بوصفه نسقا، تمثيليا، متطورا، داخل إطار النظام السائد يقوم بتشفير ما هو جنس، على سبيل المثال، من خلال لغة هذا النظام، ولهذا السبب فإن المرأة دائما، ما تُقدَّم من خلال دور سلبي، ومن ثم فالأنثى على الشاشة يُنظر إليها بوصفها صورة أيقونية، فهي موضوع جنسي بالنسبة إلى الشخصيات داخل الفيلم، وبالنسبة إلى المتلقين في قاعة المشاهدة أيضا. وهكذا تكون رغبة المتلقي، حسب فهمنا لنظرية فيرال، متجهة على نحو غير واع، في بداية الأمر إلى الإمساك بالموضوع، أو العالم الخيالي للعرض المسرحي وامتلاكه، لكن هذه الرغبة تصطدم بجدار النسق الرمزي للعرض الذي يقوّض المعنى الراسخ، أو يُفقده، ويقوم بإعادة تعديل كفاءة المتلقي، وتوزيعها في ترتيب لا يخضع لنظام محدد، وغالبا، ما يحول دون بلوغه مدلولات نهائية خالية من الشوائب للدّوال التي يتألف منها العرض، لأن المدلولات في عملية متواصلة من الانزلاق والاختفاء تحت الدّوال العائمة، كما يقول لاكان، وأن حدود العرض نفسه عرضة للتغيير بشكل مستمر، ومفهوم التمثيل فيه محطَّم، وجسد الممثل جسد حرباء، يتلون نشاطه بين حين وآخر.

المصدر/ العرب

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *