«جنون» في الأزقة الغامضة لمتاهات العقل/ناجية السميري

بالجنون مرضا ومعنى ومجازا وفنا انطلق الموسم الثالث من قراءات مسرحية التي ينظمها المسرح الوطني بالمقهى الثقافي لقاعة الفن الرابع، والتي صارت تقليدا جميلا وموعدا قارا يزدحم فيه طلبة المسرح وعشاق الخشبة عموما لحجز أماكنهم في الفضاء الحميمي وسماع نصوص تونسية وعالمية لأهم الأعمال المجسّدة ركحيا.

قراءات مسرحية تعيد تلك الأعمال إلى الأذهان فيكتشف سامعها كم كانت ثورية وسابقة لعصرها وكم كانت ترجمانا حقيقيا لمشاغل وهموم الإنسان في كل عصر ومصر.

في الحصة الأولى التي انتظمت في الحادي عشر من شهر جانفي تم إعلان أن قراءات هذا الموسم اختارت «الجنون» تيمة ومحورا لنصوصها المختارة، تسبر أغوار القلق المتجذّر وراء لفظ أفرغ من معناه «جنون» وتفسح المجال أمام السؤال الأزلي: كيف نشفي مرضا في الروح؟ ربما… عبر النص فحسب.

من وليم فولكنر إلى انتونين ارتو، من أرنست همنغواي إلى فرجينيا وولف من إدغار آلان بو إلى مارك توين … نجد أنفسنا مرارا وتكرارا أمام نفس الأسئلة: متى يتمزق العقل؟ متى يفقد توازنه الهشّ؟ وتترك العبقريّة مكانها للجنون؟

ألسنا جميعا مصابين بشيء من هذا الجنون الّذي قد يتسلّل إلى نفوسنا دون أن ننتبه؟

عصاب، ذهان، رهاب، مرض عقلي، اضطراب نفسي، اختلال، أو …مرض في الروح،عصب مؤلم، أطرف متشنجة… إرهاق.

في هذا الموسم تنغمس «قراءات» في الأزقّة الملتوية لمتاهة العقل، تستكشف خباياه الغامضة لمعرفة ما يثير هذا التّمرّد في العقل.

فالنصوص المختارة على عالميتها تشترك في طرح ذات الإشكالية: ما هي الصّور النّمطيّة الّتي تكمن وراء تمثّلنا للجنون؟ كيف تكوّنت هذه الصّور عبر تاريخ مستشفيات المجانين منذ القرون الوسطى وصولا إلى مؤسّسات الطّبّ النّفسي الحديثة حيث يقترن التداوي بالخدر؟ كيف نتجاوز الأفكار المسبقة الّتي ترتكز عليها فكرة الجنون؟ انطلقت «قراءات» في الحادي عشر من جانفي مع «كاليغولا» لألبار كامو ومع أحلام عبازة ونرجس بن عمارة ونجمة الزغيدي الذين تتبعوا رحلة امبراطور أعماه شغف بلا حدود.

يوم الأربعاء الماضي 25 جانفي كان الموعد مع نص «جنون» لجليلة بكار، المسرحية التي قدمتها «فاميليا» للإنتاج سنة 2001 عن يوميات مريض فصامي لناجية الزمني… لم يسبق للمقهى الثقافي أن غص بالشباب العاشق للمسرح كما كان في ذلك اليوم، فهذا الجيل الذي لم يتسن له حضور مسرحية مضى على تقديمها خمسة عشر عاما جاء متلهفا لمتابعة نص استثنائي بكل المقاييس والوقوف عند معاني الدهشة في تفاصيله، وعلاوة على هذا الجمهور الشاب حضرت وجوه مسرحية كثيرة من بينها محمد علي بن جمعة الذي لعب شخصية «نون» بإتقان وحرفية في «جنون».

سفر في الماضي المضطرب لفصاميّ راح ضحيّة سوء فهم محيطه، تتعقبه الطبيبة المكلفة بمتابعة حالته تحاصره بالأسئلة التي لا يجد لها جوابا واحدا، «نون» شاب ذهاني، شاعر في صميم الروح، سلخته الحياة بلا رحمة وأخصته أشكال السلط الأكثر محقا، يسقط في ارتكاب الجنح ثم في الجريمة… يلملم أشلاء «أناه» الممزقة بفضل امرأة، وبفضل شيء آخر… أما هي فطبيبة نفسية محنكة ومتمرسة تنحدر من آخر حلقات الطوباويين، مخلّصي البشرية.

يأتي الحوار بينهما هادئا أحيانا، متوترا غالبا، ويأخذ بعض أشكال العنف عندما تنغلق الحلقة على «نون» ويضجّ الصراع في رأسه بينه وبين الآخر، الآخر الذي يريد أن يقتل امرأة ويمثّل بجسدها ولا غرابة في ذلك فقد رباه أب عنيف أناني وأم مستسلمة خاضعة لسلطة الأب أولا ثم الأخ الأكبر المنحرف الذي لا يتردد في دفع أخواته للبغاء، مساهما في تعميق سقوط «نون» في الجريمة الجنونية. قضى «نون» حياته هاربا من البيت ثم المدرسة وبعدها الإصلاحية والمستشفى، تخنقه الأسوار فيهرب إلى المجهول باحثا عن ذاته، ومع بداية رحلة العلاج صار «نون» كلما يهرب من المستشفى أو البيت يجد الطبيبة ملاذه «يلزمها تمنعو، تخرجو من حتمية الربط ومنطق المريض حالة نحكيو عليها وموش انسان نحكيو معاه، كيفاش نعاودو نبنيو شخصية مشتتة إذا نلجّمو المريض؟»

يغوص النّص في كل أنواع الأمراض النفسية بما فيها تلك التي يصاب بها أطباء أعماهم التكبر أو قتلهم روتين الوظيفة فصار المريض عندهم جسدا بلا حس يحقنونه بالمخدر ليستمر في غيبوبته.

«نحب نتكلم، نحكي كيف ما جاء، لا نزين لا نلوّن، نحب نحكي، نداوي، نعيش… هذا قراري وما ثمة كان إنت تنجم تعاوني، عاوني. نعرف الكلمة تدمغ، الكلمة عندها قوة خارقة للعادة، قوة جبارة، الكلمة أقوى من العصا»، هكذا يلخص «نون» معاناته في مجتمع عنيف معنّف، ساديّ ومازوشيّ رمى به في عالم غريب شديد الخصوصية ومحكم الشفرات، عالم محتقر منبوذ ومطموس ومرفوض لأسباب غير مبررة… وبين عالمين لا يجد فيهما نفسه يغوص «نون» في ذاته متحدثا مع قرينه أو ضده أو توأمه وقد يكون عدوه الذي يحرّضه على القتل والجريمة فيظل باحثا عمن يتحدث إليه ويسمعه ويخرس ذلك الصوت لأن للكلمة قوة جبارة أقوى من العصا.

«قل لمن همهم في الناس وخـاف الكلمات/إنمـــــا أنـــت شفــــــاه ظمئــــت للكلمات/و نــــداء حــائر في الصوت بـــح الكلمات/آدك الصمـــت فهلا قلــت بعــض الكلمات/أو تخشى الـــناس والحق سجين الكلمات/أو تخشى النــــاس والحق رهين الكلمات/حيــــــوان أنــت لا تفقـــه لــــولا الكلمات/أنــت إنسان لـــدى الناس رسول الكلمات/فتكلــــــم وتألـــــــم ولتمــــت في الكلمات».

كلمات منور صمادح كانت حاضرة بقوة في هذا النص كيف لا وقد كتبها سنة 1969في مستشفى الرازي، هناك حيث تشكلت الخطوط العريضة لنص «جنون» وحيث قضى «نون» أحلى سنوات شبابه.

يتصاعد النسق الدرامي ليصل ذروته في الحوار الأخير بين الطبيبة ومريضها:

هي: إذا كنت شجرة أما شجرة تحب تكون؟

«نون»: نخلة ناطحة السماء

هي: وإذا كنت ريح؟

«نون»: ريح شراقي رابحة

هي: وإذا كنت ماء

«نون»: نابعة سيالة

هي: وإذا كنت مطرا؟

«نون»: عايمة نافعة

هي: وإذا كنت حرف؟

«نون»: لام صامد رافض

هي: «نون» اش تحب تكون؟

«نون»: حي/ حي/ حي… نعيش ونفرح.

قراءات مسرحية يوم الأربعاء قادتنا إلى مكاشفة عالم الجنون والإنحراف النفسي بعيدا عن الخطاب المستهلك والصور المألوفة، فكان نزولا حقيقيا في عالم المرض النفسي الذي عادة ما يتم التعامل معه بكثير من التكتم. وهي بالإضافة إلى هذا ومن خلال السرد والتقمص ذكرتنا بحلقة من حلقات مسرح الفاضل الجعايبي وجليلة بكار وإحدى أهم مراحله … مسرحية «جنون» التي وجب التوقف عندها والتذكير بها كواحدة من روائع المسرح التونسي. النص ترك انطباعا مذهلا لدى الجمهور الذي تابعه بصمت مدهش، أما الشباب منهم فقد خرج متحسرا على زمن لم يدركه… زمن عرض العمل سنة 2001.

المصدر/ اليوم

محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *