جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة ( شواطئ الجنوح ) أنموذجا

مسرحية شواطئ الجنوح للمخرج العراقي منعم سعيد
المسرحية بطريقة البانتوميم او مسرح الصورة

 

 

 

 

جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة

( شواطئ الجنوح ) أنموذجا

                                                             

                                                  أ.م.د. حيدر جواد كاظم العميدي

                                     جامعة بابل كلية الفنون الجميلة/قسم الفنون المسرحية

الفصل الأول :- مشكلة البحث 

           يعد مصطلح السينوغرافيا من المصطلحات الحديثة والبارزة في مطلع القرن    العشرين ، وهذا لا يعني أن المصطلح لم يعرف منذُ بدايات المسرح ، فهو موجود تحت مسميات أخرى ، فمكونات المصطلح يعود قدمها إلى قدم المسرحية ، فالترجمة الحرفية للمصطلح تعني ” رسم المنظر ،ورغم وضوح المصطلح ومهمته فان البعض من المسرحيين عندما يخطئون في تفسيره ويعتقدون إن السينوغرافيا تتعدى تصميم المنظر المسرحي إلى معالجة الفضاء المسرحي كاملاً بجميع العناصر المرئية بما فيها جسم الممثل والزي الذي يرتديه والإضاءة الموجهة على منطقة التمثيل ”  .

         تعد السينوغرافيا من العناصر الأساسية التي تمتلك زمام نجاح العرض المسرحي ، فهي تشمل جميع العناصر المطروحة على أرضية خشبة المسرح فضلاً عن العنصر السمعي .

        تهدف السينوغرافيا إلى خلق إطار معين وتحديد فراغ ما ، وإضفاء طابع على مكان ما من اجل شخوص معينة ، وحكاية ما ، وصياغة وجهة نظر أو أكثر وعلى ذلك فهي ” الفن الذي يرسم التصورات من اجل إضفاء معنى على الفضاء والسينوغراف الذي ينتج هذا الفن بين تقنية الديكور ، والإضاءة والأزياء ، فيشكل من معطياتها وفق رؤية موحدة ، تكوينات بصرية – مشهدية تنطوي على علامات مكانية وزمانية ذات قدرة على التوليد الدلالي أو الدال على ما وراء الدلالة الحقيقية من دلالة ثقافية أضافية إيحائية ”  .

      تتأتى جماليات سينوغرافيا العرض في الفضاءات المفتوحة ، من خلال ما تحققه منظومة خطابه من تمثيل وأزياء وديكور وماكياج ومؤثرات موسيقية وصوتية وملحقات ….من خلق أبداعي وبما تنشئه من تكوينات معتمدة على تطويع الخامات وابتكار التشكيلات وبما تحمله من علامات ودلالات وإشارات رمزية تفتح المجال أمام المتلقي الخوض في غمار القراءات المتعددة وتحميل العرض بوصفه كلاً عدة معاني تكاد تؤدي إلى معاني ثانوية  ( فرعية ) وبما يضمن سلامة التأويل وقواعده وحدوده .

    تأسيسا ً على ما تقدم فان مشكلة البحث الحالي تتمحور حول التساؤل الأتي : 

( هل حققت السينوغرافيا في عروض الفضاءات المفتوحة ،وما تحمله من معاني ودلالات في العرض المسرحي العراقي لاسيما عينة البحث – الأنموذج – ( شواطئ الجنوح ) وظيفة جمالية إلى جانب وظائفها الأخرى من نفسية ودلالية ودرامية ؟ ) . 

أهمية البحث والحاجة أليه :

        تكمن أهمية البحث الحالي في دراسة موضوعة السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة وما تحمله هذه الموضوعة من قيم جمالية في أثناء المشاهدة والقراءة المفتوحة لمنظومة خطاب العرض المسرحي لاسيما العراقي منه ، والذي يراه الباحث نصا ً مفتوحا ًللقراءات المتعددة ، إذ لايمكن الإقرار عند معنى واحد له وفي كل مشاهدة من المشاهدات المتعددة له ، وحسب مرجعيات متلقيه الابستمولوجية ، فضلاً عن عدم تناول هذه الموضوعة في دراسات سابقة ، لاسيما في الفضاءات المفتوحة ، لذا وجد الباحث ضرورة لتناولها بالدراسة .

   فيما تكمن الحاجة أليه في انه :

1 . يفيد طلبة كليات الفنون الجميلة ومعاهدها بتعرفهم بطبيعة السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة وما تحققه من وظيفة جمالية مضافة إلى وظائفها الأخرى من نفسية ودلالية ودرامية . 

هدف البحث :

      يهدف البحث الحالي إلى :

1 . تعرف جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة من خلال تلمس وفحص شبكة العلاقات المتبادلة فيما بين منظومة خطاب العرض المسرحي .

حدود البحث :

 يتحدد البحث الحالي فيما يلي :

أولا ً : مكانيا ً : العراق / الديوانية /مهرجان نيبور الثقافي الثالث .

ثانيا ً: زمانيا ً : 1 – 3  /12 / 2010م .

ثالثا ً: موضوعا ً : جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة ….قراءة جمالية في عرض      ( شواطئ الجنوح ) .

تحديد المصطلحات : 

الجمالية : 

      تعني الجمالية ” نظرية في التذوق ، وأنها عملية إدراك حسي للجمال في الطبيعة والفن ” .

     ويعرفها ( هربرت ريد ) بأنها ” وحدة العلاقات التشكيلية بين الأشياء التي تدركها       حواسنا ”  .

     وعرفها ( علوش ) على أنها ” نزعة مثالية تبحث في الخلفيات التشكيلية للإنتاج الأدبي والفني وتختزل جميع عناصر العمل الفني في جمالياته ”   .

  التعريف الإجرائي – الجمالية :

     هي صفة تتحلى بها السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة  التي تنطبق عليها المقاييس المتفق عليها بالإجماع ، كونها تثير شعورا ًبالرضا والارتياح في نفس المتلقي منمية ً ذائقته الجمالية من خلال قراءتها نفسيا ً ودلاليا ً ودراميا ً .

السينوغرافيا :

    تعرفها ( باميلا هاورد ) ، بأنها ” خلق فضاء فوق خشبة المسرح ، وتصف اتجاها ً          كليا ً ًلصناعة المسرح من منظور بصري ”  .

    وتعرفها أيضا على أنها ” تركيب وتلوين فضاء المسرح ”  .

   وعرفها ( الدسوقي ) بأنها ” عملية تشكيل بصري – صوتي لمساحة الأداء التي يشارك المتلقي في تشكيلها بوجوده وخياله ”  .

     وعرفها ( كمال عيد ) على أنها ” فلسفة علم المنظرية الذي يبحث في ماهية كل ما على خشبة المسرح ”   .

     ويعرفها ( مارسيل فريد فون ) بأنها : ” فن تنسيق الفضاء والتحكم في شكله بغرض تحقيق أهداف العرض المسرحي ، أو الغنائي ، أو الرقص الذي يشكل إطاره الذي تجري فيه     الأحداث ”  .

     وعرفها ( ناجي كاشي ) بأنها  : ” المشهد في لحظة ثبات الصورة ”   .

التعريف الإجرائي – السينوغرافيا :

     فن تشكيل الفضاء المسرحي المفتوح بمنظومات العرض السمعبصرية ، تشكيلا ً فكريا ً وجماليا  ًومعنائيا ً ، وبما يضمن تحقيق حالة من التفاعل والتواصل الفكري والجمالي والمعنائي ما بينها وبين المتلقي .

التعريف الإجرائي – الفضاء المفتوح :

     هو الحاوي للمتكون السينوغرافي ، والذي يتيح لمصمم عناصره  – السينوغراف –  إمكانية بناء نظامه التصميمي ، وبالتالي يسمح لعناصره بالإفصاح البصري عن نظم توزيعها الفضائي وما تحمله من قراءات في ذلك الفضاء فضلا ً عن انه بالنسبة للسينوغراف دعوة للإبداع الفكري والمعنائي والجمالي . 

الفصل الثاني :-جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة

     احتلت السينوغرافيا في العروض المسرحية المقدمة في الفضاءات المفتوحة مكانة مهمة لاتقل عن مكانتها في المسارح المغلقة ولاتقل عن عمل المخرج فيها ، إذ أن المخرج المتمكن العارف ، يتعامل مع أدواته التقنية هو من يقرن عمله مع عمل السينوغرافيا  ، من اجل الحصول على معلومات تقنية تخدم العرض المسرحي فـ ” السينوغرافيون معماريو الفراغ الدرامي وهم جزء من الإخراج ، فهم من يضعون أخراج الخشبة حيث يجب أن يكون ، وفقا ً للون وتركيب الكتابة لفراغ الخشبة أو الصورة البصرية للعمل ”  .

     التطور الذي شهده العالم في كل مجالات الحياة كان له انعكاسه الواضح على إبداعات السينوغرافيا حتى أصبحت ” فنا ً وعلما ًمعقدين ، فهي فن لأنها تعتمد على التصوير والنحت والزخرفة والعمارة ….وهي علم لأنها تستخدم التكنولوجيا والصوتيات والمرئيات في إحداث الأثر الفني المطلوب فهي تجمع بين الفن والتقنية ”   .

     تشمل السينوغرافيا جميع العناصر البصرية والسمعية المكونة لبنية المشهد في العرض المسرحي ، فهي شاملة لجميع المكونات المتداخلة في حيثيات العرض ، فالقائم على السينوغرافيا هو قائم على خلق صورة فضائية في ملء المكان المسرحي والتي يمكن من خلالها البوح للمتلقي على فتح أفق واسعة في ذهنه ومن ثم فهمه لفكرة المسرحية حتى أصبحت ” تشكل نوعا ً من الخصوصية ولها سمات بناء علمي مدرك ووظيفي يمكن أن يستعان به لتثبيت ركائز العرض المسرحي وجوهر مرونته ، أو أن السينوغرافيا قد أصبحت اليوم تحمل اطر العرض المسرحي وحيويته وتبلور فكرته وتعبر عن أحداثه ورؤيته الجمالية والوظيفية والإدراكية ، بعد أن كانت عبارة عن مجموعة نظم مختلفة كالديكورات ….أي أن بدأت تلعب دورا ً اكبر وأكثر عمقا ً واختصاصا ً وشموليا ً ”   .

     تؤدي السينوغرافيا في عروض الفضاءات المفتوحة دورا ً مهما ً في بعث الجمال في العرض المسرحي ، أذا ما عرفنا أن قضية البناء الشكلي للسينوغرافيا يعد من المرتكزات المهمة التي يعتمدها التصميم المسرحي في تقويم العرض المسرحي بوصفه موضوعا ً جماليا ً وفنيا ً وذو قدرة على الاحتفاء بالشكل ، بل انه التعبير الأمثل عن الشكل الاشاري لما ينطوي عليه من علامات سيميائية بصرية ذات دلالات تعبيرية تتصل بنمط من الشفرات الدالة . 

     تحتل السينوغرافيا دورا ً مهما ً في الخطاب المسرحي المعاصر الذي يقاطع نظرية المحاكاة بنزعته الحداثوية التي ترى أن قيمة المدرك البصري تكمن في تنظيم عناصره المتقنة للأنساق البصرية المؤسسة لبنيته فضلا ً عن اصطدامها بآفاق توقعات المتلقي وتحريرها الذات الإنسانية من اسر القيود العتيقة بما يجعل السينوغراف المخرج – المخرج السينوغراف حرا ً في اختياراته التقنية المعاصرة ومتحررا ً من ثقل الادلجة باتجاه تأكيد سلطة السينوغرافيا وأثرها في صياغة العنصر الجمالي في الصورة المسرحية للعرض المسرحي ، وعليه تبنى المخرجون المحدثون والمعاصرون قضية السينوغرافيا في مقاربة خطاب العرض المسرحي لتصعيد القيمة الجمالية والفلسفية لمعنائيته .

      تظهر جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة من خلال ما تحققه عناصرها من خلق أبداعي للأشكال والرسوم الزخرفية والتزينية وما تنشئه من تكوينات معتمدة على تطويع الخامات وابتكار التشكيلات فضلا ً عن كشفه لبيئة العرض بوصفها واقعا ً ينسجم مع حياة ذلك العرض ، كما تراعي فيها طبيعة تلقي المشاهد للعمل المسرحي ، لما تحمله من دلالات وعلامات وإشارات رمزية ، ومن خلال هذه المنظومة العلاماتية يمكن أن يفهم الموضوع الجمالي الكامن في الوعي الجمالي عند الجمهور ، لذا تسعى عناصر السينوغرافيا بما تحمله من خطوط وألوان وأشكال بصرية متنوعة إلى خلق العرض المسرحي وإثرائه ، وبما يبهر أنظار المتلقين ويثير إعجابهم عبر الارتباط الوظيفي والجمالي وعبر اتساق الشكل مع المضمون . 

     جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة ، تتحكم فيها مستويات استجاباتنا اتجاه  الجميل ، والتي تنبع من عواطفنا الإنسانية وهي الأخرى موضع تفاوت ولا تخضع لقياس واحد ، فما يراه البعض جميلا ًقد يبدو قبيحا لآخرين والعكس صحيح ، ولهذا من الصعب الوقوف عند ثوابت تصف الجميل ، لان الجمال نسبي وليس مطلق .

      فالسينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة ، لها قيمة في ذاتها تطرح نفسها جماليا ً، وكأن     شيئا ً قد زاد في تعقيدها ، لكن قدرة الإدراك الحسي في التعرف عليها وصولا إلى الدهشة التي تخلقها عند المتلقي – المشاهد – سواء عن طريق اللذة والإحساس بها ، أو الوجه الآخر للقبح والنفور منه ، إذ كلا الحالتين هي محاكاة لأشياء أخرى . 

    وينبع أدراك الجمال للسينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة بالضرورة من الشكل المميز لها     – أي الفضاءات – ، لذلك يأتي الحكم عليها حال إدراكها جماليا ً، وإلا فقدت القيمة الحكمية في قدرتها الايجابية على مخاطبة الوعي ، عندها يحس المتلقي بالحرية والتلقائية في تقبل العرض المسرحي .

      وتتحدد أبعاد السينوغرافيا جماليا ً، بأثر التشكيل الفعلي لمواد عناصرها المشكُلة في الفضاء المفتوح ، بمعنى أخر ، تمتع المادة بحضورها الفعلي ، فعناصر السينوغرافيا قبل عملية تشكيلها ليست إلا مادة ، وبعدها تصبح محظ أشكال ، ومن الصعب أعطاء تصور عن شكل عناصر السينوغرافيا دون أدراك شدة صلاتها أو علاقاتها مع بعضها البعض ، واقعية كانت أم متخيلة ، وبفعل مهارات السينوغراف ، تأخذ الأشكال الفنية طابعها المطابق لما هو خارجها مقتربة من حقيقتها الصناعية ، مع هذا فعناصر السينوغرافيا مهما تعددت أشكالها ، لابد وان تتفاعل مع بعضها البعض وفي وحدة فنية واحدة متكاملة من مفردات ديكورية وأزياء وأداء تمثيلي وإكسسوار وماكياج وملحقات ومنظر مسرحي وموسيقى ومؤثرات ، حتى تكتسب جماليات مضافة إلى جمالياتها .

     أحدثت سينوغرافيا العرض في الفضاءات المفتوحة تغيرات في المعالجة والاشتغال الإخراجي ، محققة ً بذلك انتقالا ًمن ” ممارسة النص فيها والذي يشكل المعنى إلى ممارسة كل شيء فيها ، يشكل المعنى ويدخل في دراماتورجية جماعية وهذا يفسر بالذات هجر كلمة           ( decoration )   بمعنى الزخرفة ، إلى كلمة ( سينوغرافيا ) التي تعني علاقة جوهرية مع الفضاء ، وأيضا ً في العلاقة بالمشاهد ”  .

      ثمة تداخل  في عمل السينوغرافيا مع عمل الديكور أو بالمعنى الدقيق ( تداخل اصطلاحي ) وهذا ناتج عن ” صراع بين السينوغرافي ومصمم الديكور من ناحية وبين السينوغرافيا والديكور من ناحية أخرى . ويظهر هذا التعارض جليا ً في استخدام خشبة المسرح والتعامل مع المكان …”   . لاسيما وان هذا التعارض يكون أكثر وضوحا ً واشتغالا ً أذا كان العرض مقدما ً في الفضاء المفتوح على اعتبار يكون المكان غير محدد وتدخل فيه الطبيعة وكل ما يتواجد في المكان الأكثر انفتاحا ً وهنا على السينوغراف والمخرج والمصممين الأخذ بنظر الاعتبار كل طارئ يدخل في العرض ، ربما يحمل بقراءة من قبل المتلقي تكاد هي الأخرى تتعارض مع ما يصبو أليه العرض من أفكار يراد إيصالها إلى المتلقي على اعتبار أن المكان غير محدد بحدود ثابتة .

       السينوغرافيا لاتقل عن مهمة المخرج المسرحي والديكور ، فقد تم في القرن العشرين أحياء وظيفة أساسية في المسرح تكون معادلة موضوعية في أهميتها مع وظيفة المخرج وهي السينوغرافيا وهذا ما تجلى في قول السينوغرافي ( يانيس كوكس ) بقوله أن ” السينوغرافيا هي منظومة تشمل جميع مهن المسرح ، إنا لااتصور أخراجا ًمستقلا ً، فالمسرح نفسه هجين تدخل في إطاره فروع مختلفة . وهذا ما يشكل قوته التي لايمكن أبدالها ، ولعله من اجل ذلك يمثل انعكاسا ًللمجتمع ، وحتى في أسوأ حالاته ”  .

     العلاقة بين السينوغرافيا والديكور علاقة تكامل مبنية على عدم نجاح العرض بدون     أحداهما ، ولا تتم عملية خلق جمالية العرض بدون أحداهما أيضا ً، على اعتبار أن السينوغرافيا في تعريفاتها الجديدة تفرز ” استعارات مسرحية أو بشكل أكثر فعالية أجهزة للهو وتهدم أشكال الخشبة التقليدية لتستثمر أماكن جديدة مستعيدة بذلك فضاءات كثيرة بهدف مسرحتها ”   . ومن هذه الأماكن هي الفضاءات المفتوحة المستثمرة في العروض التجريبية المعاصرة ، التي تحمل في جنباتها المشاركة الفعلية الحقيقية من قبل الجمهور والتي تكون أكثر قربا ًمنه من عروض العلبة التقليدية انطلاقا ً من أن المشكل والهم الإنساني هو واحد ، معبرا ً – أي المسرح – عن قضاياه وهمومه ومشاكله .

      أن الجمالية اللونية لعناصر منظومة العروض المفتوحة تعتمد على أسس وحقائق متغيرة تحكمها طبيعة المكان ( الفضاء ) المفتوح ، على العكس من مسرح العلبة التقليدي التي تكاد تكون فيه هذه الأسس ثابتة ومتعارف عليها والتي تكون مدروسة ومحسوبة ربما لايمكن    تجاوزها ، ولكي تتحقق الجمالية في الفضاءات المفتوحة لابد أن تكون هذه الأسس والحقائق منسجمة ومتوافقة كي تسهم في أخراج عمل خلاق من خلال ابتكار أشياء حديثة موظفا ً المخرج السينوغراف في ابتكارها على ما متوافر في المكان المقدم فيه العرض ، إذ يدخل ضمن خياله ومعرفته ومهاراته ، لان ” عقلية المصمم تتطور مع عقلية الجمهور والتطورات الحديثة والذوق العام ”  .

     وان الذي يثير الإحساس بجمالية العناصر البنائية – التكوينية الداخلة في تشكيل عناصر السينوغرافيا من ( خط ولون وشكل وملمس وقيمة ضوئية ….) هو أسلوب توزيعها وتأثير وانعكاس كل ٌ منها على العنصر الثاني ، وهذا يعتمد على وعي السينوغرافي الدقيق لعملية الخلق الفني للصورة المسرحية وذاكرته الثقافية وقدرته على تنظيم أفكاره وترتيبها في وحدة إيقاعية مصممة ومتوازنة مع إيقاعات العناصر البصرية وتصميماتها للحصول على وحدة الانسجام والتنوع والتوازن وتشغيل العناصر البنائية المذكورة أعلاه وبما يقدم تعبيرا ً معنائيا ذا مدلولات جمالية وفلسفية للعرض المقدم ، لان ” وحدة الشكل الديكوري بانسجام وتوافق ألوانه والإضاءة المسرحية مع نظام الصور الفنية للمسرحية ككل هي جزء من عملية التكامل الفني لأي عرض مسرحي ”   .

       أن معالجة السينوغرافي لعناصر الإضاءة ، الماكياج ، الأزياء ، والديكور…يجب أن تكون ككل وفي وحدة فنية واحدة من خلال اختيار الوسائل والأساليب التي تضمن سلامة هذه الوحدة حتى ترتبط كل لوحة عنصرية مع اللوحات الأخرى للعناصر الأخرى ومن ثم ترتبط كليا ً بمضمون وطبيعة المسرحية والبناء التكويني فيها ، وفي كل تمفصلات العرض انطلاقا ً من الخصائص الأسلوبية للمسرحية ، والخطة الفكرية – الفنية للعرض .

       أن لكل سينوغرافي تقنياته وأفكاره التي تظهر من خلال ما يقدم على المسرح ( في حالتيه المغلق أو المفتوح )  وعلى المستويات كافة ، أي انه من خلال جهده الخاص وذكائه وقدراته المهارية في التصميم والتوزيع ، يكون دوره محركا ً ومحفزا ً لإثارة شعور الجمهور               ( المتلقي ) ، والتي تعمل على إيجاد لغة مشتركة بينهما ، فضلا ً عن أن السينوغرافي لن تتوقف حدوده الإبداعية فقط بتصميمه للمشهد المسرحي ، وإنما إبداعه يجب أن يكون في الموقع المسرحي ، وهذا معناه التنظيم بحدود الفضاء لاسيما المفتوح منه ، تنظيم مساحات التمثيل ، وتنسيق وانسجام هذه المساحات المفتوحة مع عناصر وتقنيات الفضاء المسرحي . 

      يمكن قراءة السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة عنها في المغلقة من النواحي أو الخواص النفسية والدلالية والدرامية الجمالية ، وكلها تعمل لانجاز وتنمية الذائقة الجمالية الداخلة في العرض المسرحي فتزيده غنى ً وقوة تأثيرية ، فمن الناحية النفسية ففي الفضاءات المفتوحة كل شيء فيها حقيقي وطبيعي تعود المتلقي على مشاهدتها يوميا ًوعيانيا ً من خلال ممارسة نشاطاته الحياتية اليومية ، وعليه يجد المتلقي نفسه اقرب إلى الصورة الطبيعية وأكثر ارتياحا ًمنها في الفضاء المغلق المصطنع الذي يشعر فيه المتلقي بحقيقة اللعبة التي تستخدم تقنيات صناعية لغرض إيصال الصورة إلى ذهن المتلقي ، أما من الناحية الدلالية فسينوغرافيا العرض في الفضاء المفتوح تكون أكثر قرائية ومعنائية – سيرورة – تأويل – في الفضاء المغلق ، لأنه في الفضاء المفتوح يكون المكان مباح تدخل فيه أشياء ربما لم تكن في حسبان المخرج السينوغراف أو السينوغراف المخرج بغير قصدية ، لذا تقتضي قراءة من قبل المتلقي لأنها في حدود اللعبة المسرحية المعروضة . أما من الناحية الدرامية يعيش المتلقي الأحداث وكأنها حقيقية لأنها من وجهة نظره تكون اقرب أليه ومن واقعه ، وكأنها تحكي قصته وقضيته وهذا ما تجلى بشكل جلي في عروض المخرجة الباكستانية ( فوزية أفضل خان ) . أما من الناحية الجمالية والتي تكون نابعة من القوة الجمالية التي تقدمها الطبيعة نفسها والتي تكون مسافتها أكثر تأثيرا ً في نفس المتلقي منها في الفضاء المغلق . 

       تشير ( باميلا هاورد ) بان نظرة العالم للسينوغرافيا تكشف ” أن الفضاء هو أول وأهم  تحد يقابله مصمم المسرح ، فالفضاء جزء من المفردات السينوغرافية ونحن هنا نتحدث عن ترجمة الفضاء وتكييفه وعن خلق فضاء موح وعن ربط الفضاء بالزمن الدرامي ، أننا نفكر في الفضاء داخل الحدث ، وفي كيفية عمل الفضاء الصحيح ، وعن كيفية تكوين الفضاء بالشكل واللون لتعزيز الإنسان والنص ”   .

       يوصف الفضاء ” بديناميكيته . أي بالهندسة وبخصائصه. أي بالجو المحيط . فالهندسة إحدى طرق قياس الفضاء ووصفه حتى يتمكن شخص آخر من تصوره . وفهم ديناميكية الفضاء تعني التعرف عليه من خلال ملاحظة هندسته والمكان الذي تكمن فيه قوته ”  . فضلا عن ذلك وجوب ” وضع خاصية الفضاء موضع الجد من أول لحظة من لحظات التخطيط ، فجو الفضاء ونوعيته يؤثران تأثيرا ًعميقا ً في كل من الجمهور والممثلين ، فالفضاء شخصية حية لها ماض وحاضر ومستقبل ”  .

        يرى الباحث ، أن جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة تتحقق من خلال تقليل المسافة ما بين عناصر السينوغرافيا والمتلقي ، فكلما ضاقت الهوة في عملية التلقي ، ازداد فعل التأثير الجمالي ، فكلما تداخلت وتفاعلت مع ذائقته كلما اقتربت المسافة الجمالية ، وأصبحت أكثر احتكاكا ً وتفاعلا ً وجدلا ً مع المتلقي الذي يصبح قريبا أليها ، فيتبادل الاثنان مواقفهما داخل تلك المسافة ،فيتغلب فيها المتلقي في فترات وتتغلب عليه في فترات أخر . فهذا الجدل ينمو كلما فتحت السينوغرافيا وعناصرها المشكلة لها مساحة للمتلقي كي يسافر داخلها ، وتنغلق كلما ضعفت الموارد الثقافية والمرجعيات المعرفية للمتلقي ، هكذا أذن هو الإحساس بالجمال ينتقل ما بينها – أي السينوغرافيا – والمتلقي ، وهذا معناه إبداء الحكم عليها بالإيجاب أو بالسلب، أي أننا كلما كنا ايجابيين في التعامل مع المسافة الجمالية ، ارتفعت القيمة الجمالية وسمت بالسينوغراف وعناصره إلى الجمالية . فتظهر القيمة الجمالية للسينوغرافيا من خلال تحليل شكلها ومضمونها وحصر وظيفتها وقدرتها التعبيرية في التفاعل مع المدركات الحسية والعقلية وتحويلها إلى دلالات تنتخب بوساطة الاستعارات المكثفة للرموز عند المتلقي .

     ومن هذا ، فأن الوظيفة الجمالية للسينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة ترتبط بقدرة الإدراك في استيعاب ( الشكل والمضمون ) ، والدلالات والرموز ، وفي القدرة التحليلية ( تفكيكا ً      وتركيبا ً ) وإعادتها إلى الواقع بشكل فني يخلق بينها وبين المتلقي مسافة جمالية . 

المؤشرات التي أسفر عنها الإطار النظري

1 . تنطوي جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة على إعادة نظر وإعادة ترتيب للدلالات والمعاني التي تحملها عناصرها .

2 . تتشكل جماليات السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة عبر الفضاء الحواري القائم على التفاعل بين العرض ومتلقيه . 

3 . تكتسب السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة قيمة جمالية مضافة من خلال العملية التفضيلية لمعنى على معنى ودلالة على دلالة .

4 . للسينوغرافيا  في الفضاءات المفتوحة تأثيرات درامية وتأثيرات جمالية بصرية .

5 . السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة لاترتبط أهميتها المادية بالشكل فقط بل هي أيضا وسيلة للتعبير عن مضمون يضيف أليها قيما ً معنوية – من المعنى – .

6 . تؤدي السينوغرافيا في عروض الفضاءات المفتوحة دورا ً مهما ً في بعث الجمال في العرض المسرحي من خلال احتفائها بالشكل وما ينطوي عليه من علامات سيميائية بصرية ذات دلالات تعبيرية .

7 . تبنى المخرجون المحدثون والمعاصرون قضية السينوغرافيا في مقاربة خطاب العرض المسرحي لتصعيد القيمة الجمالية والفلسفية لمعنائيته . 

8 . أمكانية قراءة السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة عنها في المغلقة من النواحي النفسية والدلالية والدرامية ، وكلها تعمل لانجاز وتنمية الذائقة الجمالية الداخلة في العرض والتي تزيده غنى ً وقوة تأثيرية .

9 . الفضاء مكون حيوي من مكونات السينوغرافيا والفن المسرحي ، وبإضافة اللون والصورة والكلمات يصبح الفضاء مشحونا ًبالحياة والحدث اللذين يلتقيان معا ً من خلال الخطاب المباشر والحوار مع الجمهور . 

10 . تخضع السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة لنسق من التشفير مما يتيح للمتلقي تحميلها عدة دلالات أو استنطاقها ضمن سياقها . 

11. تعبر السينوغرافيا عن الروح الداخلية لشخصيات العرض فضلا ً عن إنها تعبر عن الفكرة .

12 . تشترك عناصر العرض مع الضوء في الفضاء المفتوح في خلق تكوينات مسرحية بدلالات معرفية .

الفصل الثالث

أولا : إجراءات البحث 

– عينة البحث :

     اختار الباحث عينة البحث ( شواطيء الجنوح ) ، تأليف :  قاسم محمد  ، وإخراج :  منعم سعيد ، والمقدمة في مهرجان نيبور الثقافي الثالث 1 – 3 / 12 / 2010م ، من قبل جماعة الديوانية للتمثيل الصامت في فضاء قاعة الحرية في الديوانية ، بالطريقة القصدية واتخاذها أنموذجا ً في التحليل وللمسوغات الآتية :

1 . عرض مسرحي مقدم في الفضاء المفتوح ، قراءاته  قائمة على السينوغرافيا  وتشكيلاتها في ذلك الفضاء .

2 . عرض مسرحي يسمح بتعدد القراءات ، وبالتالي يدخل في الدائرة الجمالية للعمل الفني . 

3 . عرض مسرحي متكامل في أثناء أجراء – تجربته – في الفضاء المفتوح .

4 . اعتماد العرض الرمز والتجريد والتشفير مما يفسح المجال أمام المتلقي – الباحث – من السيرورة القرائية المعنائية له .

5 . تسنى للباحث مشاهدة العرض والتعقيب عليه وتناوله بالنقد والتحليل في الصحف المحلية .

6 . توافر النص الأصلي والصور الفوتوغرافية وشريط العرض ، مما يساعد الباحث في معرفة مدى التشابه والاختلاف بين العينة ومصدرها والإضافة والحذف عليها .

7 . أغناء سينوغرافيا العرض بالصور والدلالات والقراءات المتعددة مما تفسح المجال أمام الباحث خوض فعالية التحليل والقراءة الدلالية .           

– عينة البحث –

اسم المسرحية المؤلف المخرج سنة العرض

شواطيء الجنوح قاسم محمد منعم سعيد 2010

– أداة البحث :

      اعتمد الباحث المؤشرات التي أسفر عنها الإطار النظري بوصفها أداة البحث المعتمدة في اختيار العينة وتحليلها .

– منهج البحث :

     انتهج الباحث المنهج الوصفي ( التحليلي ) في البحث من حيث وصفه وتحليله الدقيق والتفصيلي لنوعية العرض المسرحي بكافة عناصره السمعبصرية وما تحمله سينوغرافيا العرض من جماليات في قراءاتها ومعانيها واستخداماتها للفضاء المفتوح وبما ينسجم ومعطيات العرض وصولا ً إلى النتائج المتوخاة من عملية التحليل هذه . 

ثانيا ً : تحليل العينة .

( شواطيء الجنوح ) 

تأليف : قاسم محمد

سينوغرافيا وإخراج : منعم سعيد

تقديم: جماعة الديوانية للتمثيل الصامت

     عرض سينوغرافي معتمد على الطين ، بأداء مسرحي صامت ، يمتزج مع فن النحت ، ومثله مثل عروضه الأخرى ، بنى المخرج السينوغراف ( منعم سعيد ) عرضه على ثيمة صراع الخير مع الشر ، فضلا ً عن تناوله مشاكل الحياة ومصاعبها ساعيا ًمن خلال العمل المسرحي فهمها وتحقيق مطالبها ، أي مطالب الحياة والتعامل معها بأساليب مرنة وناجحة .

      حُمل عرض ( شواطيء الجنوح ) بدلالات ورموز وصور متعددة موظفا ًفيها المعد المخرج السينوغراف ( منعم سعيد ) عناصر السينوغرافيا لإعطاء جمالية للعرض ، فتارة تتراءى للمتلقي قراءة السفينة والإبحار إلى ضفة الأمان ، وتارة الساحل المؤمن ( الأمل    المنشود )- العالم الآخر ، وتارة الصليب والتعايش السلمي بين الطوائف ، وتارة الضياع الذي تعددت أسبابه ، وتارة التمزق ، وتارة إعادة الشمل ولملمته بعد أن فرقته الحروب والطائفية الدخيلة والنهوض من جديد والتطلع إلى المستقبل .

       اتسمت القيم الجمالية في سينوغرافيا العرض باعتمادها المؤكد على الموروثات التقنية والتي كانت نابعة عند ( منعم سعيد ) من التجارب الخزينة عنده والتي عملت على تأكيد العلاقات السينوغرافية المصحوبة بالحركات الإيمائية مع المتلقي عبر ما يعززه العرض من معطيات جمالية في العناصر السينوغرافية والتي تسهم في صياغة قراءاته الخاصة للعرض سواء في لحظته الآنية ( في أثناء فعل المشاهدة ) ( ها هنا – الآن ) أو فيما بعد عبر التلقي ألبعدي وهو ما يؤكد فاعلية المتلقي العراقي لاسيما إذا ارتبطت عناصر السينوغرافيا بموجهات متعددة حملت في جميع العناصر المكونة للسينوغرافيا وهذا ناتج من طبيعة السينوغرافيا التي قدمها (منعم سعيد) في هذا العرض والتي تقوم على المشاركة بالموقف من قبل المتلقي وهذا ما تبغي أليه عروض الفضاءات المفتوحة أو بمسمياتها الأخرى ( مسرح الشارع ، المسرح البيئي ) على اعتباران الهم والمشكل الإنساني هو واحد وان المسرح من الشعب والى الشعب كما يؤكد (ألكسي بوبوف) في مؤلفه ( التكامل الفني في العرض المسرحي ) ، بغض النظر إذا كنا نتفق أو نختلف عن طبيعة تلك المشاركة وأهدافها فالمهم من وجهة نظر السينوغراف هو أن يحقق العرض أثره ووقعه في الجمهور ( المتلقي ) .

     ( شواطيء الجنوح ) قراءة جديدة لموضوعة عايشتها الذات العراقية ، قراءة بالتجريب والرمز والشفرة وقابلية التجدد فيها هو قيامها على الرمز في الديكور والضوء والزي والرقص التعبيري والتي تؤثر في تداولية الموضوعة نفسها على مستوى الدال أو على مستوى المدلول بوصفه فكرة، ويرتبط كل ذلك بقدرة المخرج وعناصره على خلق التغيير والتطور لملاحقة ما يعتري المجتمع من عمليات هدم وبناء ، بمعنى انهيار علاقات ( التشاؤم ، الشر ، الحزن ، الانتظار ) واستبدالها بأخرى ( الأمل ، التجلي بالخير والإشراق والفرح ) ، مما يغير في وظيفة الشفرة في خلق وإبداع نص جديد . الشفرة كانت حاضرة في ( شواطيء الجنوح ) ، قادته إلى الابتكار أولا ً، ثم حمايته من الذوبان في السياق ثانيا ً، بوصفها – أي الشفرة – خصوصية العرض وروح تميزه .

      آثار العرض إشكالية الفضاء الأدائي العلاماتية بين الرؤية الإخراجية وأداء المؤدي الإيمائي ( الشخصية الرئيسة والمجموعة ) والذي امتاز في العرض بجدة الإيماءات ، ابتكارية الثغرات ،وتميز في الخطاب الإيمائي ومألوفية التواصلية مع منظومة خطاب العرض ( السمعية – البصرية ) ، فضلا ً عن استعراض التكوين الشمولي ومنه المظهر البدني   العاري ، والمباداة الدرامية ايقونية ، علاماتية معينة فيزيقية ، ونفسية مع امتيازها بالحركات الإرادية واللاإرادية ، الإيماءات المقصودة المصنعة والمنتجة فيها ، وتأكيدية العلاقة مع الآخر – مع  ( المتلقي – المؤول ) خاصية الحضور ، والتعبير عن الروح الداخلية وانعكاسات إشعاعاتها على المتلقين أصحاب الحدث .

      جعل المخرج السينوغراف جميع شخصياته المسرحية ( الرئيسة والمجموعة ) تحمل إرهاصات داخلية رغم تجسيدها الإيمائي الصامت ، كان المتلقي – الباحث – يسمعها بأصوات عالية ومتوهجة باستفهامات يومية حياتية وكأنها حياتهم كانت ذات سماء ملبدة بالقلق ونجومها مضيئة داكنة أو بالأحرى ألوان تحمل البؤس والقلق والاضطراب وربما هذه سمة طاغية على عروض ( منعم سعيد ) ، فمثلما قرأ الباحث عرضه السابق ( القلق ) المقدم   عام 2007 م على المسرح الوطني في بغداد ، قرأ ( شواطيء الجنوح ) ، إذ ثمة محايثة في المعنى الذي يريد المخرج السينوغراف إيصاله إلى المتلقي .

     استأثر المخرج ( منعم سعيد ) بطرق فنية ممحدثة في العرض المسرحي العراقي        المألوف .. من حيث استخدامه للفضاء المفتوح وجعل المتفرج ( المتلقي ) جزءا ً مهما ً من اللعبة المسرحية ، للقول بان الشخصيات ( الممثلة والمتلقية ) تتمرد بالأجواء الحلمية والغرائبية لان اليأس والبحث عن مستقبل أفضل ملء حياتهم اليومية المضطربة ، متأملين وجود حلول للمشاكل التي يعانون منها . 

     حملت الشخصية الرئيسة – والتي أداها بنجاح المخرج السينوغراف ، انطلاقا ً من احترافيته للتمثيل الإيمائي  – ثورة من العلامات التي تختزن داخلها ، وكأن هناك أشياء ما تغلي في دواخلها ، تعذبها ، تطعنها مرارا ً، فجاء العرض مشحون بالانفعالات وملغم بالإحداث المتداخلة التي عايشها المتلقي لقرب المسافة الجمالية ، بوصفه جزءا ًمن الأحداث ، جالسا ًفي فضاء العرض المفتوح ، مترقبا ًما تؤول إليه أحداث العرض من نتائج سواء أكانت ايجابية أم سلبية .

     الديكور ( المنظر ) قد حمل طابعا ً حلميا ًبوصفه مختزلا ًذو خلفية ترابية – طينية ، موروثة قراءت من قبل الباحث عدة قراءات منها الانتماء للوطن ، الانتماء للأرض ، الانتماء والاعتزاز بالموروث الحضاري ، خشونة وصلابة الإنسان العراقي ، قساوة الحياة ،     معززا ًالمخرج السينوغراف إياها – أي هذه القراءات – باستخدامه خامة الجمفاص( الكونية ) محققا ًقيما ً جمالية عالية ، إذ كان هناك أكثر من تنوع في استخدام الخامات المتناقضة ، الداخلة في تصميم عناصر السينوغرافيا ، تناقضا ً لونيا ً ملمسيا ًفي الأنسجة ، ارتخاءاً وشدا ً، خشونة ونعومة – لإبراز أو عكس الصراع بين طرفي التناقض ( الخير – الشر ) ، فضلا ً عن أن نوعية الخامة ( الملمس ) وطريقة تنفيذ نسيجها ( مادة ً وتصميما ً) أثرت في الرؤية البصرية، بوصف المكون – البناء – ألملمسي يدرك بالإدراك البصري ، وخزن الصورة في الذاكرة حتى تصبح العودة إليها في أية لحظة من لحظات العرض ثابتة في التكوين الشكلي البصري مع تحولات في الأنساق بما تحمله علاماتها من سيرورة دلالية ، سيرورة معنائية مع الاحتفاظ بالسياق العام للعرض ، إضافة إلى خلقه رموزا إيحائية ودلالات إيمائية تخدم حركات الممثل ، كان بمثابة بؤرة تنطلق منها الشفرات فضلا ًعن الحركات – الممثل – آنية في بعض المواضع خالقة ًعدة تشكيلات حركية ، لذا عمد المخرج في تعميق المنحى الدرامي في العرض من خلال خلق مشاهد ( موتيفات ) جديدة ومتجاورة مع المشاهد السابقة  . 

       العرض كان مزيجا ًمن الواقعية والتعبيرية والتجريدية والرمزية ( ثمة تداخل مذاهبي مسرحي )، فالمكان قد تأسس افتراضيا ًعلى وفق معالجة تجريدية المنظر من خلال استخدام خامة واحدة ، الغالبة والسائدة على العرض ( خامة الجمفاص – الطين )  . احتوت هذه المفردات ( التراثية المرمزة ) المؤثثة من هذه الخامات والتي تكونت منها كل بيئة العرض وفضائه على انثيالات جوانية ( باطنية ) في بعثرتها في فضاء المسرح المفتوح وفي لملمتها في تكوين دلالي مؤثر ومثير وتحول الدلالة الطبيعية إلى علامة دوغماجية مؤدلجة أستر بما أورثته في الذات .   

الفصل الرابع

النتائج 

1 . تكمن السمة الجوهرية المميزة لجماليات السينوغرافيا في عرض ( شواطيء الجنوح ) في السيرورة المعنائية التواصلية اللامحدودة بين العرض ومتلقيه . 

2. تكمن جماليات السينوغرافيا في عرض ( شواطيء الجنوح ) في محاولة الباحث– المتلقي– لملأ الفراغات واكتشاف الدلالات على وفق ما يعطيه أفق الانتظار من قوة دفع له. 

3 . حملت الخامة ( الجمفاص – الطين ) في عرض ( شواطيء الجنوح ) الكثير من الصور الحاملة للدلالات مما فتحت أمام المتلقي مساحات التأويل الذهنية التي يمتلكها بمداخلات من مرجعياته ومعرفياته وثقافته وموروثه الحضاري . 

4 . وضع المخرج السينوغراف – السينوغراف المخرج ، عناصره السينوغرافية بتغيرات وتحولات أغنت الشخصية وعلت من حدة الصراع السيكولوجي الداخلي لها ، فأبعدتها عن حالات التماثل.

5. جاءت السينوغرافيا في عرض ( شواطيء الجنوح ) بوصفها منظومة من منظومات الخطاب البصري ، مكثفة بالاستعارات ، وبحملها أكثر من مدلول ، فتتشابك المدلولات فيما بينها لتعبر في النهاية عن القيمة الجمالية .

6 . حملت السينوغرافيا في عرض ( شواطيء الجنوح ) نمط العلامات المبتكرة التي أنتجها المخرج السينوغراف – السينوغراف المخرج ، سواء أكانت بقصدية أو غير قصدية ، قرأها المتلقي – الباحث – وفق اللحظة الآنية المعيشة بمعزل عن وجود أو عدم وجود آصرة بينهما وبين الموروث التعبيري الذي يحمله المتلقي .

– الاستنتاجات .

1 . تستجيب عناصر السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة لنسق من التشفير مما تتيح للمتلقي – الباحث – تأويلها واستنطاقها ضمن سياقاتها الرمزية .

2 . تشترك عناصر العرض السينوغرافية مع منظومة الضوء في خلـق تكـوينات مسـرحية بـدلالات معرفية .

3 . السينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة ، لها قيمة في ذاتها تطرح نفسها جماليا ً.

4 . ينبع أدراك الجمال للسينوغرافيا في الفضاءات المفتوحة بالضرورة من الشكل المميز لهذه الفضاءات .

5 . تتحدد أبعاد السينوغرافيا جماليا ً، بأثر التشكيل الفعلي لمواد عناصرها ( الخامة ) المشكُلة في الفضاء المفتوح.

الهوامش

 

   .عبد الحميد ، سامي .السينوغرافيا وفن المسرح ، مجلة الأقلام ، ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، العددان 5-6 ، ايار –  حزيران ، 2005 ) ، ص7 .

   . علي ، عواد . نحو قراءة سيميائية في سينوغرافيا العرض المسرحي ، ( الأردن : الجامعة الأردنية ، 1996) ، ص1 .

  Harold Osborne , the oxford  companion to art ,great Britain ,1988 ,p.12 .         .

   . ريد ، هربرت . معنى الفن ، ت : سامي خشبة ، ( القاهرة : دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ،   ب ت) ، ص 41 .

   . علوش ، سعيد . المصطلحات الأدبية المعاصرة ، ( الدار البيضاء : المكتبة الجامعية ، 1984 ) ، ص36 .

   . هاورد ، باميلا . ماهي السينوغرافيا ، ت : محمود كامل ، ( القاهرة : وزارة الثقافة  – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ، 2004 ) ، ص200 . 

  . المصدر نفسه ، ص89 .

   . الدسوقي ، عبد الرحمن . الوسائط الحديثة في سينوغرافيا المسرح ، ( القاهرة : أكاديمية الفنون – دفاتر الأكاديمية 12 ، 2005 ) ، ص17 .

  . عيد ، كمال . سينوغرافيا المسرح عبر العصور ، ( القاهرة : الدار الثقافية للنشر ، 1997 ) ، ص5 .

   .فون ، مارسيل فريد . فن السينوغرافيا ، مجلة السينوغرافيا اليوم ، ت : حمادة إبراهيم وآخرون ، (القاهرة : مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ، وزارة الثقافة والفنون ، 1993 ) ، ص7 .

   . ناصر ، ستار جبار . السينوغرافيا المصطلح والدلالة ، جريدة الزوراء ، ( بغداد : العدد 67 ، الخميس 17 أيلول  ، 1988 ) ، ص6 .

   . هاورد ، باميلا . مصدر سابق ، ص123 .

   . عبد العزيز ، صبري . القيم التشكيلية في الصورة المرئية المسرحية  ، ( القاهرة : مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2001 ) ، ص92 .

   . كاطع ، سيف الدين . سينوغرافيا العرض المسرحي المفهوم والمنظور والقيمة الجمالية المتحولة ، مجلة سينما ومسرح ، ( بغداد : العدد 8 ، السنة الثانية ، شباط 2008 ) ، ص22 . 

   . رينجير ، جان بيير . قراءة المسرح المعاصر ، ت : حمادة إبراهيم ، ( القاهرة : مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ، 2004 ) ، ص65 .

   . فون ، مارسيل فريد . فن السينوغرافيا ، مجلة السينوغرافيا اليوم ، ت : حمادة إبراهيم وآخرون ، (القاهرة : مهرجان القاهرة للمسرح  التجريبي  ، وزارة الثقافة والفنون ، 1993 ) ، ص14 . 

  . رينجير ، جان بيير. مصدر سابق ، ص65 .

   . فون ، مارسيل فريد . مصدر سابق ، ص15 .

   . العيوطي ، عبد الله . عمل المنظر مع المسرح ، مجلة المسرح ، ( القاهرة : السنة الثانية ، العدد 7، 1965) ، ص61 .

   . بوبوف ، ألكسي . التكامل الفني في العرض المسرحي ، ت : عبد الباقي محمد إبراهيم ، ( القاهرة : مؤسسة طباعة الألوان ، 1968 ) ، ص112 .

   . ينظر : اسعد ، سامية . مفهوم المكان في المسرح المعاصر ، مجلة عالم الفكر ، ( الكويت : المجلد 15 ، العدد 4 ، يناير – فبراير – مارس ، 1985 ) ، ص68 .

   . ينظر : الكواز ، عماد هادي عباس . جماليات المنظر في الفضاءات المفتوحة للعروض المسرحية العراقية ( نماذج مختارة ) ، رسالة ماجستير ( غير منشورة ) ، كلية الفنون الجميلة / جامعة بغداد ، 2004 ، ص43 – 44 .

   . هاورد ، باميلا . مصدر سابق ، ص11 .

   . المصدر نفسه ، ص12 . 

   . المصدر نفسه ، الصفحة نفسها .

 . عرض مسرحي قدم في مهرجان نيبور الثقافي الثالث 1 – 3 / 12/ 2010م، من قبل جماعة الديوانية للتمثيل الصامت  ، في فضاء قاعة الحرية في الديوانية ، تمثيل ( منعم سعيد ، مشكور ناصر ، مصطفى مهدي، محمد الكناني ، صفاء محمد راضي ، امجد جلاب ، علاء كاظم ، احمد رياض العراقي ، سيف الدين علاء الدين ، منتظر سعدون ، سيف علي مشكور ) . ديكور : رياض الشاهر . موسيقى : فاضل سالم . إضاءة : أياد ألساعدي .

  . منعم سعيد : دبلوم فنون جميلة 1979م، مؤسس فرقة الديوانية للتمثيل الصامت ، من أعماله المسرحية (بغداد لن تسقط ) ( الموجز ) ( الطريق ) ( خمسة في المعتقل ) ( الكابتن )( طبيب الطائر )  ( القلق ) (النحات يراقب ساعته )( صورة ملونة ) ( خمس لوحات بانتوميم ) ( حواء وادم )( اسكتوا الضجيج رجاءا ً) (فصل بلا كلمات ) ( ابيض واسود ) ( العزف على أوتار الجسد ) .

قائمة المصادر والمراجع

أولا : الكتب :

1 .  بوبوف ، ألكسي . التكامل الفني في العرض المسرحي ، ت : عبد الباقي محمد إبراهيم ، ( القاهرة : مؤسسة طباعة الألوان ، 1968 ) .

2 . الدسوقي ، عبد الرحمن . الوسائط الحديثة في سينوغرافيا المسرح ، ( القاهرة : أكاديمية الفنون – دفاتر الأكاديمية 12 ، 2005 ) .

3 . ريد ، هربرت . معنى الفن ، ت : سامي خشبة ، ( القاهرة : دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ،  ب ت).

4. رينجير ، جان بيير . قراءة المسرح المعاصر ، ت : حمادة إبراهيم ، ( القاهرة : مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ، 2004 ) .

5.  عبد العزيز ، صبري . القيم التشكيلية في الصورة المرئية المسرحية  ، ( القاهرة : مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2001 ) .

6 . علوش ، سعيد . المصطلحات الأدبية المعاصرة ، ( الدار البيضاء : المكتبة الجامعية ، 1984 ) .

7 .  علي ، عواد . نحو قراءة سيميائية في سينوغرافيا العرض المسرحي ، ( الأردن : الجامعة الأردنية ، 1996 ) .

8. عيد ، كمال . سينوغرافيا المسرح عبر العصور ، ( القاهرة : الدار الثقافية للنشر ، 1997 ) .

9 . هاورد ، باميلا . ماهي السينوغرافيا ، ت : محمود كامل ، ( القاهرة : وزارة الثقافة  – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ، 2004 ) . 

ثانيا :الدوريات والنشريات:

10 . اسعد ، سامية . مفهوم المكان في المسرح المعاصر ، مجلة عالم الفكر ، ( الكويت : المجلد 15 ، العدد 4 ، يناير – فبراير – مارس ، 1985 ) .

11 . عبد الحميد ، سامي .السينوغرافيا وفن المسرح ، مجلة الأقلام ، ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، العددان 5-6 ، أيار –  حزيران ، 2005 ) .

12 . العيوطي ، عبد الله . عمل المنظر مع المسرح ، مجلة المسرح ، ( القاهرة : السنة الثانية ، العدد 7، 1965) .

13 . فون ، مارسيل فريد . فن السينوغرافيا ، مجلة السينوغرافيا اليوم ، ت : حمادة إبراهيم وآخرون ، ( القاهرة : مهرجان القاهرة للمسرح  التجريبي  ، وزارة الثقافة والفنون ، 1993 ) .

14 . كاطع ، سيف الدين . سينوغرافيا العرض المسرحي المفهوم والمنظور والقيمة الجمالية المتحولة ، مجلة سينما ومسرح ، ( بغداد : العدد 8 ، السنة الثانية ، شباط 2008 ) . 

15 . ناصر ، ستار جبار . السينوغرافيا المصطلح والدلالة ، جريدة الزوراء ، ( بغداد : العدد 67 ، الخميس 17 أيلول  ، 1988 ) .

ثالثا :الرسائل الجامعية:

16 .  الكواز ، عماد هادي عباس . جماليات المنظر في الفضاءات المفتوحة للعروض المسرحية العراقية ( نماذج مختارة ) ، رسالة ماجستير ( غير منشورة ) ، كلية الفنون الجميلة / جامعة بغداد ، 2004 .

رابعا : المصادر الأجنبية:

17. Harold Osborne , the oxford  companion to art ,great Britain ,1988 . 

——————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *