جديد الصواري البحرينية ..  منزل فوق غيمة .. بين مسرحة الرواية وتحييد العرض  بقلم : يوسف الحمدان

 

 

جديد الصواري البحرينية ..
منزل فوق غيمة .. بين مسرحة الرواية وتحييد العرض
بقلم : يوسف الحمدان

كعادته في مشاكسة ومغايرة تجاربه المسرحية التي يخوضها ويعترك معها ، يقتحم المخرج الصديق عبدالله السعداوي في عرضه الجديد ( منزل فوق غيمة ) للروائي محمد عبدالملك ، إعداد الفنان حسين عبدعلي ، إنتاج فرقة مسرح الصواري الأهلية ، يقتحم عالما سرديا مونولوجيا مركبا وموغلا في تفاصيل ودقائق الذات المثقلة والمتورطة بأعباء وأنصال الشك والهزيمة والعزلة الفادحة والقلق المأزوم بمتاهات هذه الذات وخياراتها المتأرجحة على شفير الخيانة بمختلف تبايناتها ومستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمعرفية والإنسانية ، والذي تمكن الروائي المبدع محمد عبدالملك من أن يجعل من هذا العالم في بنيته السردية للرواية ، أشبه ما يكون بعالم عبثي تحكم مساراته الممزقة الحيرى والمهترئة مونولوجات تستليذ لعزلتها وغربتها بوصفها الآخر الذي يوجه بوصلتها التائهة والمضطربة نحو ما توغل في قبوله تارة ورفضه تارة أخرى والحيرة بين القبول والرفض تارة أخرى ، فكيف تمكن السعداوي من الوقوف على هذا الشفير النصلي الذي يتكيء على سرد الذات المأزومة وتكوين رؤيته الإخراجية من خلال من يقف على حوافه الشوكية الحادة ؟
هذه التجربة التي تصدى لأدائها إثنان ممن خبروا العمل مع السعداوي منذ يفاعة اختبار طاقتهما الأدائية في معمله ، وهما خالد الرويعي وحسين الرفاعي ، وممثلة متمكنة سجلت حضورا لافتا في أدائها المسرحي عبر مسرحيات أخرى خاضتها مع مخرجين آخرين ، وللمرة الأولى تخوض غمار هذه التجربة مع السعداوي ، وهي ريم ونوس ، وشاب آخر لا يزال ينهل من رحيق مسرح الصواري ، وهو محمد بهلول ، إضافة إلى حسين المبشر الذي تجده في أغلب أعمال الصواري مشاركا في مهام فنية عدة من بينها الحضور العابر في أغلب عروضه التي قدمها ، هذه التجربة تقودنا نحو كيفية العمل على إعداد النص الرواية للعرض ، وقد تولى هذه المهمة واحدا يعد من أهم الممثلين في مسرح الصواري ، بل والمسرح البحريني ، وهو الفنان حسين عبدعلي .
إن ما وجدته في هذا العرض ، اتكاء مبتسر على مواقع سردية من النص أشبه بالمانشيتات العريضة السريعة منها إلى الاختزال أو التكثيف ، ولم أجد مساحات أخرى مقترحة من قبل المعد أو المخرج لقراءة ما لم يسرد حركيا أو بصريا أو إيمائيا ، كما ظل السارد في هذا العرض بعيدا عن كونه فاعلا أو فعلا فيه ، وسطت في هذه القراءة النصية ، الحالة التعريفية الموجزة للشخصية أكثر من الوقوف على قلقها الذاتي ومأزوميتها التي من شأنها أن تشكل منعطفات تجذي حالة الوهج الأدائي والمواقفي في العرض ، هذا دعك عن الابتعاد كثيرا عن قراءة فحوى محور العرض أو تفعيله في ذوات المؤدين ، وأعني بذلك المنزل ودلالاته ، ليس بوصفه عنوانا للعرض بقدر ما هو شخصية محورية فيه .
إن النص الروائي ( منزل فوق غيمة ) لمؤلفه محمد عبدالملك يعج ويكتظ بتحولات متنوعة ومتعددة كثيرة ، كان من الممكن الوقوف عليها ومحاورتها وتأملها بدلا من المرور عليها وكما لو أنها لم توجد أو لم تكن ، ولعل أهم محور في هذه الرواية وقف عليه بعمق مؤلف الرواية عبدالملك ، هو الخيانة ، هي القضية والحدث والفعل ، شك إبراهيم الزجال في زوجته نوال أحمد وشكه هو فيها بعلاقتها مع وليد الجاسر ، وخيانة الجاسر لزوجته ، بجانب الخيانة المالية التي تناولها عبدالملك وشرحها بمشرط حاد في هذه الرواية ، والتناقضات والتقاطعات والصراعات التي تنشأ عن هذه الخيانات القلقة المركبة .
إلى جانب ذلك ، وقوع الإعداد أو الرؤية الإخراجية في فخ سارد الشخصية والالتباس في موقف الرائي لها معدا كان أم مخرجا ، وكما لو أن كل الشخصيات في هذا العرض متوارية خلف سارد آخر لحكاياتها مضافا إلى سارد الشخصية ( الذات الفعل ) في الرواية الأصلية ، هذا إلى جانب كونها شخصيات مبهمة في تكوينها الوسائلي ، فهل هي شخصيات بريختية عارضة لحالاتها ومواقفها ، أم هي وفق نمط أدائها المتشابه نموذجا واحدا للعرض ؟ كل ذلك في رأيي ينبغي الوقوف عليه لتعميق الرؤية في العرض وفك لغز الالتباس .
الرؤية الإخراجية في العرض اعتمدت خطوطا متقاطعة متنافرة من شأنها أن تبعد أو تنأى بالمتلقي عن تحديد موقف متجانس من العرض بشكل عام ومن المؤدين فيه ، وهي رؤية عميقة لا شك ومشاكسة ، وتجوس عميقا في قاع العزلة الذاتية لشخصيات العرض ، ولعل ما زاد من عمق هذه الرؤية السعداوية في العرض ، تحييده لزمن العرض عبر بقع وجداول وخطوط الإضاءة ، وتسليط الضوء على البقع الزمنية الداخلية لذوات هذه الشخصيات ، وهي رؤية لا شك أنها عميقة ومخاتلة لمن يعتقد أن المسرح قائم في مختلف عناصره على ضرورة تحقيق شمولية التركيب الجمالي ، وهي رؤية تنطلق من فلسفة المابعدية في قراءة زمن العرض بوصفه لوحة مسطحة مفتوحة غير محكومة بتفسيرات نمطية لتضاريسها المبهمة ، وهنا لا نقف على السينوغرافيا في هذا العرض من منطلق كونها مادة بصرية جمالية تسبح في فضائها شخصيات وأحداث العرض ، إنما ننظر إليها من زاوية قراءة العرض فلسفيا وفق مقتضيات تحولاته الداخلية العصفية والمأزومة .
كذلك استوقفني في هذا العرض تحييد السعداوي لأداء الممثلين ، إلا أن هذا التحييد من وجهة نظري كان غير موفقا من حيث تشابه أداء الممثلين الصوتي وتسارع إيقاعه القرائي ، حيث تأخذك مثل هذه اللحظات إلى قراءة طاولة مسرحية أعدت لحفظ الأدوار أكثر من كونها حالة أعدت لمطبخ المختبر المسرحي في العرض ، وإذا كانت هناك ثمة استثناءات فهي في حالة المؤدي خالد الرويعي في منولوجه المأزوم وهو على كرسي بدا وكما لو أنه أعد للمقعدين ، والذي اختزل أزمنة نفسية متعددة في موقع واحد تحولت فيه حالات وتحولت فيه إيماءات ، فكان من أبدع لحظات وهج العرض المسرحي ، إضافة إلى لحظات القلق في أداء الممثلة ريم ونوس والتي في رأيي كان من المفترض الاشتغال على شخصيتها أكثر مما بدت فيه ، خاصة وأنها محور القلق الصعب في هذا العرض ، ففي هذا العرض بدت ريم ونوس أشبه بفرس ملجوم .
كما أن الطريقة الأدائية الحفظية في هذا العرض غيبت الخيوط الحريرية الدقيقة للصراعات الداخلية للشخصيات ، وجعلت منها أشبه بحالة مصمتة ينفي ويلغي أداء الممثلين أهمية وتفاصيل كل لحظة تحول وقلق فيها ، وكما لو أنك تشاهد عرضا تسمع فيه كلمة القلق بعيدا عن أي قلق نراه متجسدا في أداء الممثلين ، وهذه الطريقة من شأنها أن تغيب ملامح العلامات الدالة والمتوالدة في أداء كل ممثل لهذه الشخصيات ، ويصبح مثل هذا الأداء مؤتمتا دون معنى أو تبرير لهذه الأتمتة ، لا من حيث الاشتغال على الجسد أو على فعلنة الأداء الصوتي في العرض ومسك لحظات تحولاته المؤثرة .
يالها من عزلة نفسية قهرية فاتكة تلك التي جاس أعماقها الروائي محمد عبدالملك في روايته هذه ، إذ كان بإمكان السعداوي الجوس فيها أكثر عمقا ، خاصة وأن هذه الرواية تعتمل بصراعات قلقة لا تتوقف ولا تنتهي ، صراعات بين المباديء والقيم السياسية وبين اغراءات المادة وطفحها بعد الطفرة النفطية في الخليج العربي وبين الحياة الوادعة والحياة القلقة ، بين الحلم والمستحيل ، بين الشعر وفجاجة الواقع والحياة ، مثل هذه الصراعات بحاجة إلى ممثل أشبه بالغائص يجوب قاع الروح والنفس وليس إلى ممثل معلن أو مشهر .
وإذا وقفنا على الشاشة الفيلمية الصامتة في العرض والتي تتوسط عمق الخشبة ، فإني أرى أن لا لزوم لها طالما هي غير قادرة على إضافة ما يضفي لأداء الممثل في المسرح روحا وحياة ، كما أنها لم تكن من وجهة نظري قادرة على اختزال الأحداث أو المواقف في العرض ، فهي أشبه بوسيلة إيضاحية شروحية ، إذ كل ما احتوته ممكن تجسيده في فضاء العرض وبشكل أعمق مما بدت فيه .
ولعل النهاية الفيلمية الاطمئنانية ، وهي خاتمة العرض ، والتي اختتمت بأغنية ( آنه وياك وانته وياي ) للفنان خالد الشيخ ، كانت أشبه بنهاية الأفلام المصرية القديمة التي كان في رأيي لها ما يبررها ، وكانت هذه النهاية لا يوجد حتى ما يبررها من خلال العرض الذي اتكأ على لحظات أشبه بالمانشيتات العريضة منها إلى فعل المسرح ، ولم يقف على تفاصيل هذه الصراعات والتحولات الداخلية النازفة التي ذكرناها في قراءتنا للعرض وكيفية الخروج منها حتى نجد لها ما يبررها ، بل أن هذه الطلة الفيلمية في نهاية العرض أشبه بمانشيت آخر يضاف إلى ما نشيتات الإعداد والرؤية للعرض .
ختاما وليس أخيرا ، سعدنا بعودة مخرجنا الكبير عبدالله السعداوي للمسرح بعد توقف ليس بقليل ، وكم سنكون أكثر سعادة لو كانت رؤية السعداوي لهذا العرض في مستوى بحثه العميق الذي اعتدناه في مختبره المسرحي مذ شاغبنا العمل في المسرح وإياه .. فالسعداوي تصدى لعرض لم تمطر غيمته بعد ..

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *