ثُنائية “الحياة – الموت” في نص بيرانديلّو “الرجل ذو الزهرة في فمه” بإخراج غابرييلي لافيا

يواصل المخرج والممثل الإيطالي الكبير غابرييلي لافيا بحثة المسرحي، والوجودي، في ثنائيّتي «الحياة – الموت» و «الفرد – السلطة »، ويبلغ المخرج قمّة هذا البحث عبر عمله الأخير «الرجل ذو الزهرة في فمه» المعروض في مسرح «لا بيرغولا – La Pergola » التاريخي في فلورنسا، والمُعدّ من نص نثري بنفس العنوان للويجي بيرانديلّو والمطعّم باقتباسات ومقاطع من نصوص نثرية وشعرية أخرى للكاتب ذاته، وهو الذي تعامل مع هاتين الثنائيّتين أكثر من غيره من كتّاب المسرح والقصّة الأوروبيين.
 لافيا، الذي يؤدي كعادته بطولة العرض، اعتبر النصّ الذي أعّده أبقاه بذات عنوان «الرجل ذو الزهرة في فمه»، “إختزالاً لما أسّسه بيرانديلّو كنموذج أَمْثَلْ على فقدان القدرة في التواصل مع الآخرين، والدليل على الوحدة التي تتسبّب بها سطحيات الأشياء وجزئيات الحياة التي لا معنى”، وهو “محاولة لإيضاح جوهرية بلوغ أولوية الحياة على الموت”.
 
ويحاول غابرييلي لاڤيا، بصحبة رفيقيه على الخشبة، ميكيلي ديماريّا وباربارا آليسّي الإمساك بالحياة لحظة واحدة قبل نهايتها. فبعد «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للويجي پيرانديلّو وعبوراً بـ «حياة غاليلو غاليلِي» لبرتولد بريخت، يعود غابرييلي لاڤيا إلى خزين الكاتب الصقلّي الحائز الى نوبل للآداب ( 1934 ) لويجي پيرانديلّو، الذي أثّر في مسرح زماننا وأثراه أكثر من غيره .
 
ما يربط بين هذه الاعمال الثلاثة هو الإنسان، المدرك تماماً لوعيه، لكن الواعي تماماً بمخاوفه والمحتاج إلى إزاحة تلك المخاوف، من خلال التمترس وراء قناع يفرضه عليه الآخرون، وينتهي به الأمر بالقبول بذلك القناع ليضمن العيش الآمن. إنه حالة «المطهر» الدانتيّة ما بين الكينونة الحقيقية و ما يطفو على السطح من شخصية الإنسان.
 
تدور أحداث المسرحية داخل مقهى في إحدى محطات القطارات. أحد روّاد المقهى، رجلٌ مسالم يجلس هناك. يقترب منه زبون آخر ويبدأ بالحديث معه بإلحاح متصاعد. الحديث ساخر ويائس، ويُظهر قدرة استثنائية على اقتناص أعمق التفاصيل وأدقّها، والتي تبدو في الحياة اليومية الاعتيادية غير ذات معنى.
 
اعتبارات هذا الرجل وآراؤه المريرة تكشف عن حقيقة رهيبة: فذلك الرجل مُقبلٌ بالفعل على الموت، وما «الزهرة في فمه» إلاّ الورم الذي أصاب شِفّته العليا. وقد أحاله اقتراب الموت منه أكثر وعياً وقدرة على البحث في كنه الحياة وأسرارها وتَغَلْغَلَ في صُلبها، أي بمعنى أن ذلك الوضع منحه نوعاً من البصيرة الرائية يتمكن من خلالها تحديد ملامح وجود الأشخاص الآخرين، الذين لا يعيشون حياتهم بذات الاستقلالية التي يواجه بها هو حياته. وفقدان تلك المزيّة يجعل من الآخرين غاضبين وغير قادرين على الإدراك. فليس الزبون المسالم، وهو اسم الشخصية الأخرى إلاّ واحداً مثل الآخرين، تضبّب ذهنه بسبب رتابة الحياة اليومية وتتابع أحداثها.
 
———————————————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – عرفان رشيد –وكالة ( أٓيْ جي آي ) الإيطالية للصحافة – فلورنسا 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *