ثورة دون كيشوت وصناعة الوهم/هند سلامة

كيف تصنع وهما؟ ثم تعيشه واقعا ملموسا وكأنك صنعت شيئا حقيقيا يستحق الكفاح، ودون أن تدرى ستجد نفسك تحارب وتكافح طواحين الهواء فلا شيء حقيقى ولا شىء يستحق العناء، هكذا تفنن المخرج المسرحى وليد الدغسنى فى قراءة الواقع العربى من خلال آخر أعماله المسرحية «ثورة دون كيشوت»، وقد يتوهم المتفرج فى البداية أنه على موعد لمشاهدة رواية «دون كيشوت» فى عمل مسرحى، لكنه يفاجأ أنه أمام عمل يحمل قدرًا كبيرًا من عمق الرواية التى لم يشبهها سوى فى إطارها الفلسفى فقط، وبمزيد من الوعى ومن خلال مشاهد مسرحية مرتجلة قدم المخرج صناعة الوهم والسعى وراءه وتسخير كل شىء فى سبيل لا شىء.
بهذا التوجه فسر وحلل الدغسنى واقعنا العربى بعد ربيعه، فلا يتوقف وليد عن الإبداع فى تقديم رؤى مسرحية مختلفة ومختلقة بأعماله التى تحمل عادة هموما سياسية، لكنها فى الوقت ذاته تبعد كل البعد عن شبهة الخطابة أو المباشرة، وحتى الرمز الساذج الذى قد تتضمنه بعض العروض المسرحية فى اختلاق أعمال تتناول الساحة السياسية اليوم، فى «ثورة دون كيشوت» ثار المخرج على الأعراف والتقاليد المسرحية، المتعارف عليها فى بناء عمل درامى واضح الرؤى والمعالم، أو فى بناء شخصيات درامية مرسومة بدقة، وصنع عمل تبدو فيه الشخصيات والأحداث هلامية وغير منطقية لا يربط أبطاله صلة تذكر، ففى مجموعة متنوعة من الإستكشات واللوحات المتلاحقة استعان المخرج بالإطار الفلسفى لرواية دون كيشوت فى تقديم عمله المسرحى الثوري، أو بمعنى أخر أراد من هذا العرض أن يؤكد على أن كل ما نعيشه من واقع هلامي، أشبه بواقع «دون كيشوت» الذى عاش أوهاما خاض من أجلها حروبا وهمية ليس لها وجود وكأن كل ما نحياه من واقع ثورى ليس له وجود، وفى لوحاته الساخرة من الإعلام شدد على أنه يساهم فى ترسيخ هذا الوهم بشكل مبالغ فيه، فأنت أمام عمل بقدر ما يحمل من فلسفة وغموض مقصود، بقدر ما استطاع المخرج أن يضعك فى هذه الحالة الفلسفية الفكرية بمهارة شديدة أثارت أذهان وفكر الجمهور، فبعد خروجك من قاعة المسرح لابد أن تتساءل وتفكر.. ما هذا الذى شاهدته؟!
تبدأ أحداث العرض من خلال عربة صغيرة تحمل رجل وإمرأة تصرخ وتلد طفلا صغيرا تلقيه فى هذه العربة، ثم ينتج عن هذا الطفل عوالم أخرى لا نعلم من أين أتت ففى هذه المدينة الغامضة تستقيظ فجأة كائنات من رحم النفايات وتتمدد سريعا لتفتك كامل السلطات وتحتل مناطق حيوية تسيرها حسب رغباتها، وحرص المخرج على إظهار السيدة التى تصرخ فى بداية العرض بشكل بدائى وكأنها كائن غريب فى ملابسها وشعرها وكذلك الرجل وكأنهم كائنات بدائية لا تعلم كيفية التعايش مع الحياة، ثم خرجت من هذه الكائنات البدائية مجموعة من البشر، كنوع من استمرار وتكرار الفوضى والعبث فى ولادة أشخاص بلا معنى وبلا هوية وكأن الأحداث لا تزال تتكرر دون اختلاف وبلا تغيير، فالتاريخ يعيد نفسه دائما، وفى نهاية العرض تخرج نفس البطلة أمانى بلعج مرتدية فستانا طويل كتبت عليه أحداث عديدة ثم يقطع طرفه فى نهاية العرض، وينطفئ النور، وكأنها تقطع أحبال التاريخ المتكررة والممتدة على مدار السنوات عله يتغير يوما ما!
قدم الممثلون جميعا أدوارهم بمهارة شديدة واحتراف خاصة أمانى بلعج التى وقع عليها العبء الأكبر فى لعب أكثر من شخصية طوال العرض، تميزت أمانى بأدائها التمثيلى والحركى الرشيق واستطاعت أن تسيطر على المتفرج سيطرة تامة بأداء مختلف، ربما كان أنضج كثيرا من أعمالها السابقة، حيث سبق وأن شاركت نفس المخرج عروض «الماكينة»، «انفلات»، و«التفاف»، وشاركها بنفس المهارة والتميز منى التلمودى والتى حصلت على جائزة لجنة التحكيم بالدورة الثامن ةعشر لأيام قرطاج المسرحية فى مسابقة العروض التونسية، وكذلك الممثل يحيى الفايدى، ناجى قنواتي، ومنير العامرى، وبعد نجاح العرض ضمن فعاليات أيام قرطاج من المقرر أن يشارك بمهرجان الهيئة العربية للمسرح فى دورته التاسعة المقامة بالجزائر فى الفترة من 10 إلى 19 يناير 2017.

المصدر/ روز اليوسف

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *