ثراء الأشكال.. الأنظمة المسرحية المتباينة في سويسرا

 

ثراء الأشكال.. الأنظمة المسرحية المتباينة في سويسرا

((مقدمة))

نادرًا ما يُنظر إلى سويسرا على المستوى الدولي بوصفها بلدًا ذا ثقل ثقافي، كما أن المشهد المسرحي بها – إذا استثنينا بعض الحالات الفردية من ممثليها المشهورين مثل كريستوف مارتالر – ليست له أهمية كبرى. أحد أسباب ذلك هو وجود أربع لغات رسمية لهذا البلد الصغير في المناطق الثقافية المختلفة الملاصقة، فهو يشترك مع الحضارات الثقافية المجاورة ذات الأهمية. أما ما يميّز سويسرا في المقابل، فهي الحياة المسرحية المتنوعة والغنية على وسعها، حيث يتوازن فيها “المسرح المؤسسي”، و”المشهد المستقل” و”المسرح الشعبي” على حد سواء.

رغم كون سويسرا أحد أصغر بلدان أوروبا، فإنها متجانسة ثقافيًّا. هذا البلد متعدد الألسنة بين أربع لغات (الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والرومانثية)، مرتبط من الوجهة اللغوية بالدول المجاورة مثل ألمانيا والنمسا (الناطقتين بالألمانية)، وفرنسا وإيطاليا، وتمتلك الدول الأربعة معًا تقاليد ثقافية راسخة. كما أن الثقافة المسرحية السويسرية متصلة اتصالًا وثيقًا بالدول الأجنبية المحيطة بها. لذلك فإن المسرحيين المحترفين في سويسرا الألمانية – بالقول المبسط – على تواصل دائم مع المشهد المسرحي في برلين وفيينا، تمامًا كما هو حال المسرحيين في غرب سويسرا مع المشهد المقابل في باريس، والمسرحيين الناطقين بالإيطالية مع المشهد المسرحي أيضًا في ميلانو وروما.

هناك العديد من الفرص المتاحة أمام الممثلين، والمخرجين، والكتاب المسرحيين، والمصممين المسرحيين، ومؤلفي الموسيقى المسرحية السويسريين الناطقين بالألمانية، في ألمانيا – وبقدر أٌقل أيضًا في النمسا – لكي يحققوا نجاحات مهنية؛ والعكس أيضًا صحيح، إذ يعمل العديد من المسرحيين الألمان (والنمساويين) في سويسرا. أما بالنسبة للمسرحيين الناطقين بالفرنسية والإيطالية فإن تحقيقهم النجاح المهني في الخارج ليس بنفس السهولة. بالنظر إلى تلك العلاقات يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كانت سويسرا تمتلك حقًّا ثقافة مسرحية مستقلة من الأساس. لذلك فإن العرض التالي هو محاولة لإظهار، مواضع “خصوصية” النظام المسرحي السويسري.

العروض الجديدة.. ومسرح ”الريبرتوار“

إن التشابك القوي مع بلدان الجوار ينطبق بالقدر الأكبر على المسرح المؤسسي المموّل من الأموال العامة، والذي عادة ما يطلق عليه في سويسرا الألمانية اسم ”مسرح المدينة“. فكما هو الحال في ألمانيا، كذلك في المدن الكبيرة السويسرية الألمانية توجد عادة المسارح التي تكون ملتزمة بما يسمى نظام ”الريبرتوار“. فهي تقوم خلال موسم العرض الواحد بإنتاج عروض متعددة، لا تعرضها متتالية وإنما بالتناوب.

بذلك يستطيع ساكن المدينة أن يشاهد عرضًا من الدراما الكلاسيكية في إحدى ليالي الأسبوع، وآخر من كوميديا مسرح البوليفار[1] (الكوميدية الخفيفة) في الليلة التالية، ثم يشاهد في الليلة بعد التالية عرضًا لنص إشكالي معاصر. يشترط في مسرح الريبرتوار ألا يتكون فقط فريق الإداريين والفنيين من موظفين دائمين، بل ينطبق هذا كذلك على جزء كبير من فريق الفنانين – فبغير ذلك لن يكون من الممكن الحفاظ على مثل هذا النظام.

العديد من مسارح المدينة لا تقدم فقط العروض التمثيلية، بل عروض الأوبرا، والباليه كذلك، ومسرح الطفل في بعض الأحيان، وغالبًا ما تكون هناك عدة قاعات للعرض. مثل هذه المسارح التي يطلق عليها ”مسارح متعددة القاعات“ توجد مثلا في بازل، وبرن، ولوتسرن، وسانت جالين. ويتم توجيه مبالغ كبيرة من المال العام لدعمها، ولا تمثل إيرادات بيع التذاكر سوى حوالي 15 إلى 20% من مصروفاتها.

فمسرح بازل مثلًا بلغت مصروفاته خلال موسم 2013/2014 حوالي 59 مليون فرانك، ليحقق بذلك جدوى اقتصادية بما يعادل 24.4%. وتتضمن قائمة مسارح المدينة بالإضافة إلى ذلك عددًا من دور الضيافة المسرحية، التي تستضيف بعض الفرق المسرحية من بلدان أخرى. ويعدّ أكبرها هو مجمع مسارح فينترتور؛ هناك يتم أيضًا عرض بعض أشهر العروض المسرحية، منها عروض لفرقة المسرح القومي النمساوي (Burgtheater) من فيينا على سبيل المثال.

في المقابل يعمل النظام في سويسرا الناطقة بالفرنسية متبعًا مبدأ العروض الموسمية، وهو السائد في فرنسا، وإيطاليا، وبلدان أوروبية أخرى: ففي المسرح الواحد يستمر عرض العمل المسرحي ذاته لمدة أيام، أو أسابيع، وأحيانًا – وإن كان نادرًا – لمدة شهور. يتم تكليف الممثلين فقط بهذا العمل، الذي يعرض غالبًا بعد ذلك في مسارح أخرى سواء داخل البلاد أو ربما لاحقًا في الخارج أيضًا. يتم تقليص الأعمال الإدارية والتقنية وتقليل تكلفتها، ولكن يصبح ما يعرض في المسرح كذلك أكثر أحاديّة.

على كل حال تمتلك المدن الكبرى في غرب سويسرا العديد من المسارح، بحيث يظل هناك تنوع فيما يتم عرضه. هناك مجموعة من المسارح – من أهمها ”Théâtre du Grütli“، ومسرح ”Comédie“، و”Théâtre de Poche“ في جينف، ومسرح ”Arsenic“، و”Vidy“ في لوزان – صارت تشكل معًا محورًا للمسرح الأوروبي في الأعوام العشرين الأخيرة، كما شهدت– بعد تولي فينسينت بودريلّر إدارتها – انفتاحا أكبر بالمقارنة بفن الرقص. بفضل قاعاته الأربع صار باستطاعة مسرح ”Vidy“ التعاطي مع المهمة التي تجعله عرضة للنزاعات في كثير من الأحيان، وهي أن يكون في خدمة المشهد المسرحي المحلي، ويفتح نافذة على التوجهات وأشكال التعبير الأوروبية في الوقت ذاته.

[1] مسرح البوليفار: هو المسرح الشعبي الفرنسي الذي نشأ في فرنسا في القرن الثامن عشر، وكان يقدم في بوليفار دي تمبل في باريس. كان اهم ما سعى إليه الأدب الدرامي في هذا النوع من المسارح، هو التركيز على السطحيات، والقشور في معالجة المشكلات اليومية، فالدراما فيها خفيفة الوزن المعنوي، هشة في غير عمق فني، ومع ذلك فقد كسبت مسارح البوليفار جماهير عريضة للتسلية اليومية.

مسرح فيدي في لوزان © صامويل روبيو

وجهان ”للمشهد المستقل“

لا يمكن على أية حال مساواة المشهد المسرحي السويسري بمسرح المدينة. فمن ناحية يوجد مشهد مستقل شديد التنوع، يتحرك فيه أيضًا مسرحيون محترفون. ويختلف التمويل، وأسلوب العمل، والأهداف الفنية في المشهد المستقل تمامًا عن ظروف مسرح المدينة. فإن الفرق المسرحية المستقلة يكون عليها عادة تقديم طلب للحصول على دعم لكل عرض على حدة، وبذل الجهد لتنظيم إمكانية العرض – وهذا كله عادة في ظل ظروف مادية متأزمة، تجعل العمل في وظيفة إضافية أمرًا يصعب تفاديه. أما في مسرح المدينة بهيكله المالي والإداري الصلب، فإن الكثير من العاملين به يحصلون على تعاقدات تمتد لعدة سنوات، يصحبها في العادة دخل متواضع في الغالب، لكنه آمن.

في المقابل قد يكون العمل في مسرح الريبرتوار شاقًا جدًا، إذ يفرض الالتزام بالمشاركة في عدة عروض مسرحية خلال الموسم الواحد. أما من يتحرك في المشهد المستقل، يكون لديه مساحة أكبر للاشتغال على المشروعات الخاصة، وللتمتع باستقلالية اتخاذ القرارات بشأن إبداعاته. على كل حال فإن العالمين ليسا منفصلين تمامًا عن بعضهما: فالكثير من المسرحيين يتنقلون بين هذا وذاك، كما أن مسارح المدينة تستلهم بعض الجماليات من المشهد المستقل كذلك.

ينقسم المشهد المستقل بدوره إلى قسمين: أولًا توجد منذ الستينيات شبكة علاقات مترابطة بين المسارح الصغيرة. تكون العروض المقدمة عادة مصممة خصيصًا للمسارح الصغيرة: يعني ذلك قليلًا من المشاهد المسرحية، وتجهيزات متواضعة، وأداءات منفردة أو ثنائية – وبالتالي ميزانيات صغيرة. تكون العروض متنوعة جدًا ومستقاة إما من مسرح الكباريه، أومسرح الكوميديا؛ وقد يتولد أيضًا مزيج من الأشكال الفنية المبتكرة.

مرسح لا فوتا الصغير في لافين – استضافة عرض “فالسيشي وناتر” © جون دوشليتّا

كثيرًا ما يضطر صغار الفنانين للتخلي عن الدعم الرسمي (أحيانًا فقط بسبب عدم انطباق شروط أي من برامج الدعم عليهم)؛ ويتم توجيه الدعم – الذي يكون متواضعًا إلى حد كبير – للمسرح الذي سوف يقوم الفنان بتقديم العرض فيه. في الريف توجد العديد من الجمعيات الثقافية: يحصل بعض المنظمين المتطوعين على ميزانية من الجماعة ليجلبوا بعض الأعمال الفنية الصغيرة إلى القرية بضعة مرات خلال السنة. إلا أن الأعمال الفنية الصغيرة هي بمثامبة حجر صلب صعب التشكيل بالنسبة للفنان. فإن كانت توجد أجور ثابتة لليالي العرض، فهي عادة منخفضة إلى حد كبير، بل لا يحصل الفنانون في بعض الأحيان سوى على نسبة من المبيعات، فيكون عليهم بذلك المشاركة في المخاطرة المادية. القليلون فقط من الفنانين هم من يحققوا نجاحًا يمكنهم من تحمل نفقات المعيشة على مدى سنوات من عملهم هذا. يشارك بعضهم في الفعاليات الخاصة أو التي تنظمها الشركات، فيستطيع بذلك “تمرير هذا الدعم” للمشاركة في العروض العامة في المسارح الصغيرة. قليلون جدًا هم من يشاركون في أعمال على المستوى الدولي أيضًا.

ثانيًا يوجد مسرح حر ذو طابع طليعي، يحاول ترسيخ صورته من خلال الابتكار واستخدام أشكال المسرح المعاصر، بل و”التجريبي“ أيضًا في كثير من الأحيان. إلا أن هذا المسرح الحر يقتصر في الأغلب على المدن الكبيرة، ويتوجه عادة إلى جمهور النخبة الحضري. وقد تأسس منذ السبعينيات وسار بخطى ثابتة في السنوات العشرين الأخيرة نحو مزيد من المهنية والتنوع، كما تُخصص له بعض وسائل الدعم الحكومي الموجه؛ إلا أنه يظل يعاني من الحرمان الشديد، إذا ما قارناه بمسرح المدينة. فالتمويل الحكومي يتم في أغلب الأحوال عبر تمويل كل مشروع على حدة، واستثناءً عبر دعم بعض الفرق المسرحية لبضعة سنوات؛ بالإضافة إلى ذلك يوجد دعم غير مباشر من خلال دعم المسارح نفسها، التي تتولى توفير مكان للعرض وتكون شريكًا للمشهد المستقل في إنتاجه.

كما أن بعض المسارح – مثل مسرح Arsenic في لوزان ومسرح Kaserne في بازل – لديها شبكة علاقات دولية جيدة، وتتعاون مع مسارح مشابهة ومع العديد من المهرجانات في الخارج. هناك كذلك بعض الفرق أو الفنانين السويسريين، ممن يعملون بالإضافة إلى ذلك في سياقات عالمية مختلفة، فيقومون بتمويل مشروعاتهم – التي تكون تكاليف إنتاجها عالية جدًا في معظم الأحيان – من داخل شبكات علاقاتهم الدولية، ومنهم على سبيل المثال ماسيمو فورلان، وكريستيان كارسيا، وميلو راو الذي اشتهر بما يقدمه من إعادة صياغة للوقائع التاريخية.

بلاد المسرحيين الهواة

هناك ركن هام آخر للحياة المسرحية السويسرية، وهو ”المسرح الشعبي“، الذي تمتد تقاليده لمئات السنين في سويسرا. إنه مسرح للهواة، الذين ينظمون أنفسهم في منتديات ويجتمعون للإعداد لعرض إحدى المسرحيات مرة كل عام. وتوجد المئات من تلك المنتديات. يقدم الكثير منهم العروض الكوميدية الترفيهية، إلا أن بعضهم يجرؤ أيضًا على تقديم الأعمال المسرحية المعقدة، أو يقوم بتطوير نص خاص.

فرقة المسرح الشعبي “تياتر ماتّه” أثناء عرض “وردة الشتاء” © هانّيس تساوج – جراف

بالإضافة إلى ذلك تقام العديد من المسارح المكشوفة في فصل الصيف. منها التي تعرض بانتظام كل سنة مثل عروض مسرح ويليام تل في إنترلاكن، وأخرى تجتمع فقط من أجل إنتاج عرض واحد، وهم يكرسون وقتهم لإعداد مادة لها علاقة وثيقة بالمكان الذي يقدم فيه العرض، وهناك آخرون ممن يعرضون بعض الأعمال الكلاسيكية أو الكوميدية، سواء بانتظام أو كل بضع سنوات، مع تبديل أماكن العرض في كل مرة.

عروض ويليام تل في إنترلاكن

وحتى الآن لم يحصل المسرح الشعبي – أو لنقل مسرح الهواة – على أي نوع من الدعم الحكومي تقريبًا. وتثير هذه الحقيقة المزيد من الالتباس، إذ يظل هذا في عيون الكثيرين هو الإنجاز الأكثر أصالة لسويسرا في مجال المسرح. في النهاية لا بد من ذكر وجود عدد من المسارح التجارية كذلك، التي تستطيع العيش أيضًا من دون الدعم الرسمي. وينجح ذلك فقط، لأنها تكرس عروضها حصريًّا للترفيه من خلال تقديم مسرح البوليفار أوعروض المسرح الموسيقي.

لذلك يقع على عاتق المسرح المدعوم في المقابل مسئولية تقديم أشكال مسرحية راقية ومبتكرة، بالإضافة إلى حفظ التراث الثقافي. بينما تظل وسائل الإعلام الخاصة – التي تواجه فكرة الدعم بالنقد على الدوام – تطالب بتقديم العروض الأكثر شعبية، وجلب المزيد من إيرادات التذاكر بذلك، لكي يتم الحد من الإنفاق العام.

اللافت الآن هو أن الأشكال الثلاثة الأهم في المشهد المسرحي السويسري – مسرح المدينة، والمشهد المستقل، والمسرح الشعبي – تكاد تتعادل بشكل ما فيما يتعلق بالحضور الجماهيري، بل قد يحقق كل منها على حدة حضورًا جماهيريًّا يصل إلى المليون متفرج. وفي ظل وجود أشكال أخرى مما يقدم من عروض مسرحية، مثل المسرح التجاري، والمسارح المدرسية والجامعية، يتضح وجود حصيلة ضخمة من العروض المسرحية اليوميّة في جميع أنحاء البلاد. وقد أظهرت الدراسات المقارنة – فيما يتعلق بالتنوع المسرحي في أوروبا – أنه من الصعب جدًا التفوق على سويسرا في ذلك.

كما أن هذا التنوع يمكن استقراؤه بالمناسبة من خلال العدد المتزايد للمهرجانات المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. فمنها المهرجانات الكبيرة مثل مهرجان ”La Bâtie“ الذي يقام في جنيف، ويقدم برنامجًا ثريًّا، أو مهرجان ”Steps“ للرقص، الذي يقام في أماكن مختلفة، ومنها أيضًا المهرجانات الصغيرة التي تركز على موضوعات بعينها، مثل مهرجان ”Figura“ الذي يقام في بلدة بادِن على أطراف زيوريخ (مسرح العرائس)، أو مهرجان ”La Plage des Six Pompes“ في مدينة لا شو دو فون (مسرح الشارع).

المال المزعج: أموال الدعم وأسعار التذاكر

يعد المسرح من الفنون الأقصر عمرًا – والأعلى كلفةً في الوقت نفسه. فمن دون النقاش حول المال لاتكاد إقامة العروض المسرحية تكون ممكنة. ويرجع سبب ارتفاع تكلفة المسرح السويسري الألماني بالدرجة الأولى إلى ارتفاع أجور العاملين – فكثيرًا ما يتعلق الأمر بمئات الموظفين الدائمين. فالأعمال التقنية على وجه الخصوص تحتاج إلى عمالة مضاعفة، لأسباب عديدة أهمها إعادة بناء المسرح باستمرار، بسبب عرض أعمال مسرحية جديدة كل ليلة تقريبًا. يبلغ ثمن تذكرة العرض المسرحي في مسرح بازل بين عشرين وستين فرانكًا سويسريًّا، وسعر تذكرة الأوبرا أو الباليه بين ثلاثين ومئة وعشرين فرنكًا؛ ولو لم تكن المسارح مدعومة لبلغ سعر تذاكر الدخول أربعة أضعاف ذلك – أي لن يستطيع حتى أصحاب الدخول المرتفعة دفع ثمنها. وهذا يعني أن الشعب كله يشارك زوار المسارح في دفع ثمن تذاكر العروض، من خلال الضرائب. بالطبع لا يعجب هذا كل الناس، لكن عند التصويت حول الاستثمار في – أو دعم المسارح، يَثبُت دائمًا رغم ذلك أن أغلبية الشعب تقف وراء المسرح.

في سويسرا كلها تتحمل عادة مكاتب البلدية التابعة لكل منطقة القدر الأكبر من الدعم، إلا أن جزءًا آخر يتحمله كذلك الكانتون الذي تقع فيه المدينة، وكذلك بعض الجماعات في المناطق المحيطة، وبشكل ما أيضًا تشارك الكانتونات المجاورة. في المقابل لا تعرف سويسرا فكرة المسرح القومي. لايوجد مسرح واحد في سويسرا يتلقى الأموال من الحكومة الاتحادية، أي من إدارة الدولة؛ فهي تنسحب تمامًا – حسب التقاليد الفيدرالية السويسرية – حين يتعلق الأمر بالثقافة. أما المؤسسة الأهم على المستوى القومي فهي المؤسسة الثقافية السويسرية بروهلفتسيا، التي يتم تمويلها بالكامل من قبل الحكومة الاتحادية. ويعدّ ضمن أهم مهامها التعريف بالثقافة السويسرية في الخارج، وتحسين وضع التبادل الثقافي بين المناطق الناطقة باللغات المختلفة في الداخل، بالإضافة إلى دعم المشروعات الإبداعية في العموم.

كانتون زيوريخ” مثالًا“

يعد إقليم زيوريخ الكبير الأهم اقتصاديًّا على مستوى سويسرا، ففيه يسكن أكثر من مليون مواطن، وينشطون في الإفادة من المعروض الثقافي المركزي في المدينة. في الوسط تمامًا تقع دار أوبرا زيوريخ، الأغلى في سويسرا كلها: إذ تبلغ نفقات تشغيلها أكثر من 120 مليون فرانك. يدفع منها القطاع العام- ويمثله في هذه الحالة على وجه الخصوص كانتون زيوريخ – 80 مليون فرانك. تشكل هذه النفقات العالية عبئًا على عدالة التوزيع للدعم الرسمي للثقافة. في عام 1980 تسبب تمويل دار الأوبرا من جانب جهة واحدة – إذ كانت آنذاك تابعة للإدارة المحلية للمدينة بالدرجة الأولى – إلى اضطرابات من قِبل الشباب استمرت عدة أعوام.

احتجاجات الشباب في زيوريخ: أحداث الشغب خلال تجديد دار الأوبرا في الثمانينيات

وكان السبب في اندلاعها هو قرار مجلس المدينة باعتماد 60 مليون فرانك لتجديد دار الأوبرا، ورفض إنشاء مركز شباب مستقل في المقابل. أما اليوم فتعد مثل هذه الاحتجاجات خارج التصوّرات، بالرغم من أن عدالة التوزيع لاتزال غير متحققة بالكامل. فالمشهد المستقل على سبيل المثال مضطر لأن يرضى بجزء ضئيل من ملايين دار الأوبرا، رغم أن مسئولية الاشتغال على فنون الحاضر وخلق واقع ثقافي حديث تقع على عاتقه أكثر بكثير مما تقع على عاتق دار الأوبرا. كذلك فإن المبالغ التي يتم تخصيصها لمسرح ”Schauspielhaus“ بزيوريخ، أكثر بكثير مما يصرف في دعم المشهد المستقل، فهي تبلغ بالفعل حوالي 38 مليون فرانك، تتحمل المدينة القدر الأكبر منها. يتم عرض أكثر من عشرين مسرحية في الموسم الواحد، وينطبق ذلك على المسرح الرئيسي ”Pfauen“، الذي تبلغ سعته 700 مقعد، وكذلك على ما يسمى بمسرح ”Schiffbau“، حيث تقام العروض على خشبة المسرح الحديثة متعددة الوظائف، في قاعة مبنى صناعي قديم بديع.

مبنى شيفباو في مسرح شاوشبيل هاوس بزيوريخ © فوتوغرافيا تي + تي

ويعد مبنى ”Schauspielhaus“ هو الأهم تاريخيًا على مستوى سويسرا كلها، إذ أنه ظل صامدًا في مواجهة تأثير ألمانيا النازية بين عامي 1933 و1945، وصار ملاذًا لبعض أهم المسرحيين، كما قام بعرض العديد من المسرحيات المعاصرة. هكذا وصلت خلال سنوات الحرب وبعدها مباشرة أربع مسرحيات لبرتولد بريخت إلى قاعة العرض هنا. وفي العقدين التاليين اجتذب المسرح قدرًا أكبر من الاهتمام، بفضل عروض مسرحيات ماكس فريش ودورنمات الأولى، وهما أول كاتبين مسرحيين سويسريين يحققان شهرة عالمية. وأخيرًا صار المسرح محط اهتمام كبير بين عامي 2000 و2004، حين بلغ أكثر من ذروة فنية تحت إدارة كريستوف مارتالر. إلا أن أحواله المالية تدهورت رغم ذلك بسبب الظروف الهيكلية الصعبة وانخفاض عدد الزائرين. لذلك ارتأت الجهات المسئولة عن السياسات الثقافية ضرورة إقالة مارتالر. ومع أنها كانت مستعدة للتراجع عن قرارها لأسباب عدة، من أهمها الاحتجاجات العامة التي انطلقت ضد القرار، إلا أن مارتالر انسحب بالفعل غاضبًا. كانت سويسرا بذلك قد خسرت النجم السويسري الوحيد، وأحد أهم عظماء المسرح الأوروبي على الإطلاق. أما اليوم فإن ”Schauspielhaus“ يعد مسرحًا جيدًا، لا يختلف في طريقة عمله كثيرًا عن أي مسرح كبير في المدن الألمانية الكبرى.

في قلب الحي القديم بزيوريخ يوجد مسرح ”Neumarkt“، وهو مسرح صغير تابع للمدينة، له فرقة خاصة، كما يعرف تقليديّا بوصفه المسرح المفضل لدى سكان زيوريخ التقدميين والتابعين لليسار الليبرالي، إلا أن له أصداءه في المناطق الناطقة بالألمانية في العموم. وللمسرح محاولات تتفاوت في درجة نجاجها للحفاظ على موقعه كساحة للنقاش المجتمعي. أما مسرح ”Gessnerallee“، فإنه بلا شك ذا أهمية عابرة للمناطق والأقاليم، فهو بمثابة مركز تحكم في المشهد المسرحي المستقل، وكل أشكال “الفنون الأدائية”، وذلك على المستوى الإقليمي، والوطني، والدولي على حد سواء. فإن المبنى ذو الموقع المركزي وخشبات المسرح المتعددة هو أحد أفضل المسارح التي تحظى بالتمويل السخي بين المسارح المستقلة في سويسرا الألمانية (يقدر الدعم الحكومي الذي يحصل عليه بحوالي 2.5 مليون فرانك). إلا أنه يثير الغضب أيضًا بسبب سياسات التسعيرة العجيبة التي يتبعها: إذ يبلغ ثمن تذكرة العرض 16 فرانكًا، أي أقل من تذكرة السينما. الهدف من هذا الإجراء هو إثارة روح المغامرة والفضول لدى الجمهور للإقدام على مشاهدة فن المسرح المعاصر الغريب عليه. ويبدوأن الحسبة ناجحة، فقد ازداد عدد الجمهور، كما أن إيرادات العام الماضي استطاعت بالفعل بسهولة تحقيق معدلات زيادة. وإن كانت تلك الوصفة بالتأكيد لا تنطبق على كل المسارح الأخرى، إلا أن مسرح ”Tanzhaus“ هو أيضًا يخوض التجربة حاليًا، إذ قام بتوحيد سعر التذكرة ليصبح 15 فرانكًا.

مسرح جيسنر أللّيه بزيوريخ © komun.ch

تكمل العديد من المسارح الصغيرة المختلفة حالة التنوع المسرحي المحلي، من بينها كذلك المسرح التابع للإدارة المحلية بالمدينة، والذي يقع في ميدان هيتشتبلاتس في الحي القديم، وهي منطقة شديدة الحيوية بالنسبة للفنون الصغيرة. لكن ليست كل الثقافة المسرحية قاصرة على المدينة الرئيسية. فإن المسئولية تقع على عاتق مسرح كانتون زيوريخ لنقل عروض مسرحية راقية وقيمة إلى المدن الصغيرة والقرى في المنطقة. على الأقل فإن أعضاء المنتديات المسرحية يعدون أعضاءً في إدارة مسرح زيورخ التي تشبه في هيكلها الجمعية التعاونية. ويتم تمويلها أساسًا من قِبل كانتون زيوريخ (بحوالي 1.7 مليون فرانك). في النهاية لابد من ذكر إحدى قمم الحياة المسرحية في زيوريخ: هو مهرجان ”Theater Spektakel“ الصيفي، الذي يقام منذ عام 1980، وتقوم إدارة المدينة نفسها بتنظيمه. فكل عام يمكن مشاهدة برنامج متنوع بين العروض الصاخبة والطليعية على مدى أسبوعين، على مسارح عديدة مؤقتة، يتم بناؤها في ساحة جذابة تطل على البحيرة مباشرة. في هذا المكان يمكن رؤية فرق مسرحية من جميع أنحاء العالم – على سبيل المثال قدمت ليلى سليمان مشروعها “Lessons in Revolting” أو (دروس في الثورة) عام 2011. يتيح ذلك الفرصة للجمهور المحلي للاشتباك مع موضوعات وجماليات المسرح داخل دوائر ثقافية مختلفة.

مهرجان المسرح (تياترشبيكتاكل)، بحيرة زيوريخ © ZTS / كريستيان التورفر

ومع كل هذا التنوع تبقى بعض الثغرات التي يجب أن تخضع للفحص أيضًا: فحتى مدينة زيوريخ، التي يعيش فيها أناس منتمون إلى حوالي 170 جنسية – أي أن نسبة تتعدى 30% من مجموع السكان أجانب – وتستضيف الكثير من اللاجئين، وتعد مقرًّا للعديد من الشركات الدولية، لا تكاد تقدم للمهاجرين من الأوساط الاجتماعية المختلفة فرصًا كافية لزيارة المسرح. فمن أجل ذلك لابد من استقطاب دوائر أوسع من الشعب نحو المسرح، لأن جمهور النخبة المثقفة التقليدي يختفي أو يشعر بالاغتراب في كثير من الأحيان تجاه الأشكال المسرحية الحديثة. أما بالنسبة للشباب فقد اكتسبت المسارح الكلاسيكية منذ زمن صورة متربة، وصار وضعها ضمن المعروض الضخم من وسائل الترفيه وقضاء أوقات الفراغ صعبًا جدًا. مع ذلك هناك على الأقل بعض الشواهد على تغيير الفكر فيما يخص الدعم الثقافي. فإن الهدف لابد أن يكون هو استحضار سويسرا متعددة القوميات بشكل أفضل على خشبات المسرح. فإن الحياة المسرحية هنا يمكن أن تصبح قريبًا أكثر تنوعًا مما هي بالفعل الآن.

(الروابط)

مسرح المدينة، سويسرا الناطقة بالألمانية

www.theaterbasel.ch; www.konzerttheaterbern.ch; www.luzernertheater.ch; www.theatersg.ch;www.theater.winterthur.ch; www.opernhaus.ch; www.schauspielhaus.ch

مسرح غرب سويسرا

www.vidy.ch; www.arsenic.ch; www.comedie.ch; www.grutli.ch; www.lepoche.ch

مشهد حر

www.gessnerallee.ch; www.tanzhaus-zuerich.ch; www.international-institute.de;

مهرجان

www.batie.ch; www.theaterfestival.ch; www.figura-festival.ch; www.blickfelder.ch; www.jugendtheaterfestival.ch;www.steps.ch; www.bone-performance.com; www.laplage.ch; www.theatertage.ch

المسرح الشعبي

www.volkstheater.ch; www.tellspiele.ch; www.landschaftstheater-ballenberg.ch;

—————————————————-

المصدر: مجلة الفنون المسرحية – توبياس هوفمان – المؤسسة الثقافية السويسرية –  ترجمة المقال من الألمانية إلى العربية: نيفين فايق

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *