ثالث عروض المنافسة ..”يا رب”: جدلية العاشق والمعشوق /م/ش

وقّع العرض المسرحي العراقي “يا رب” العرض البارد من العراق الليلة الرابعة من عمر المهرجان العربي التاسع للمسرح بالجزائر، في سهرة قدّم فيها منتدى المسرح التجريبي التابع لقسم المسارح عرضا من تأليف “علي عبد النبي” وإخراج “مصطفى الركابي” وتمثيل “سهى سالم” مع “فلاح إبراهيم” و”زمن الربيعي”.
العرض المسرحي الذي قارب ساعة ونصف من الزمن وعبر ثلاثة مراحل صممه سينوغرافيا “ابراهيم فلاح”، وبدأ من بهو مسرح وهران الجهوي، عندما تابع الجمهور ورجال الاعلام والنقاد عرضا تمهيديا عن علاقة الانسان بالخالق في زمن القهر والجمر والصمت والمعاناة والعبث أيضا، فكانت الدراما السيكولوجية حاضرة من البداية وكان التجريب سيد الموقف على مدارربع ساعة تقريبا في الظلام أمام خلفية عرض في القاعة قبل الدخول للخشبة، واقتصرت الشخصيات على أم في الخمسينات وموسى الذي يفوقها عقدا من الزمن والمكان واد كبير يسمى الواد المقدس.
الفلسفة تستنطق الإنسان
في مسرحية “يا رب” مقاربات فلسفية و استنطاق لعمق الإنسان والداخل، ثم علاقته بالخلق، من خلال محاولة استفزاز الآخر في يومياته بما تعرف من أسئلة كثيرة من المخلوق للخالق، ثم مآسي الإنسان منذ بدايات الحياة مع إحالات إلى عتاب العاشق لمعشوقه، عبر ثلاثية تبدأ العتاب وتمر للسؤال والدعاء وفي النهاية العودة إلى الرب ورجاء الأمهات الثكلى بأبنائهن.
الساعة في يد الأم والعرض يبدأ، ليتكرر المشهد في رد الله على الأمهات اللائي أوكلن الأم مهمة الترجي لله، صوت القرآن يصدح في المسرح من الخشبة وحديث عن الموت لمدة قاربت الثلاث دقائق في عرض مدته وفقا للقائمين على المسرحية تمتد لعشرة دقائق، وبين الدقيقة والدقيقة حكاية حياة وموت، مع تقديم مقطع نسوة يمشين في طريق الحياة رفضا للموت، مع القليل من الكوريغرافيا التي أحالت المشاهد لطائفية غير معلنة في العرض داخل دولة افتراضية لم يكشف المخرج عمدا هويتها، مع الاشارة الى مقطع من فيلم سينمائي للمخرجة نادين لبكي “هلا لوين”، التي قدمت ضيعة وحرب على التلة ومقبرة وأحياء فارغة تبحث عن الحياة في مشهد مرور النسوة بلباس أسود قاتم من نساء متحجبات إلى غيرهن وغناء حزين.
بداية سينمائية
برولوغ العرض قدم ثلاثة فضاءات منها الطاولة المائلة التي أخذت منحنى من مقدمة الخشبة إلى نهايتها، فيما توسطت طاولة بكرسيين الخشبة وبجانبها رجل يستلقي على سرير التمريض مع أكسسوارات خفيفة من كأسي ماء وأدوات تمريض وأدوية …وحمالة مصل قبل نهاية التسجيل السينمائي الأول الذي استعان به المخرج في خلفية الخشبة وعودة الإنارة أفقيا في مشهد ناجت فيه البطلة الرب قائلة “أنا أناجيك يا رب، أم تناجيك فقدت أولادها”.
على وقع موسيقى خافتة وإنارة الممثلة فقط، تواصل العرض عبر الدقيقة الأولى التي ظهرت في الخلفية ونطقت الممثلة وهي تستدير إلى نهاية الخشبة تحاكي الخالق، تلبس خمارا ولباسا أسود من الحزن والعزاء محمّلة بأماني الأمهات، قائلة أنها أرسلت منهن لأنها أكثرهن فجيعة ولأنها تحمل توكيلا منهن وأنها تعطيه أربع وعشرين ساعة للنظر في مصيرهن أمام حياة القتل والدمار والخراب والجرائم ضد الإنسانية.
الممثلة سهى سالم وهي ترافع للقضية الانسانية في الواد المقدس أحالت الجميع إلى قصة النبي موسى عليه السلام، مكررة رجاءها وأمانيها في غد منصف للأبناء، وهي التي فقدت الجميع ولم يتبق لها سوى حلم واحد لابن قد يعود تنتظره وتعتقد أنه قادم، غير أنها تصدم مجددا لأنه لن يأتي رغم وقع الاقدام التي وظفها المخرج.
تتوقف ويتغير الديكور بخروج الطاولة والممر الكبير المائل بتوقيت الرابعة صباحا، حتى برزت شخصية موسى وهو يتقيأ ويتأوه في وجود الطبية صاحبة الشعر الطويل واللباس الأبيض في إحالة أخرى على الشخصية التي تبذل ما تستطيع على وقع إضاءة ممثلين يتحركون أكثر من مرة لتتغير الإضاءة بتغير الموقف والحركة.
صورة النافذة في الخلفية بأربع إطارات أعطت العرض بعدا آخرا عما يحدث خارجا بسقوط متقطع للمطر وبدون سماع الصوت في درجة حرارة 23.5 تحت الصفر، يرتفع صوت سهى ونسمع ” لن أكلمه حتى يعيد الأطفال”.
استحضار العقول
صراع آخر يظهر في العرض عندما ترفض الأم الحوار مع النبي، لأنه لن يغير شيئا ثم مشهد ترفض العصا فيها الانصياع، لنصل الدقيقة الرابعة عندما يبكي النبي لله ثم تأتي الدقيقة الخامسة ويسود الصمت مع حوار ثنائي يطالب فيه النبي بالصبر، ثم يذكرها بمتاعب الأنبياء ومضحكات العصور ليشرعا في ضحك هستيري ساخر، قبل دخول الممثلة في حوار لا ينتهي مع النبي يصل بهما الى الجنون بفعل الجرأة والجرعة الزائدة، لكن مع استحضار عقل المتلقي عندما تطالب سهى النبي موسى برجاء الله ليقف أمام المأساة، في وقت يدعوها الى الاستغفار والصلاة، وتصر على الرفض ثم تعود للصلاة حتى لا يحاسبها الله يوم الحساب.
تتوقف بأمر النبي عن الصلاة ليناجي الله بعدما يدخلان عالما عبثيا عميقا بداية من مشهد الكؤوس المملوءة بالماء وحالة التطهر التي تدخلها الأم، إلى حالة مناجاة النبي للخالق باسم الأنبياء من سيدنا يونس إلى النبي نوح وابراهيم ثم يخرج بطاقة تعريف في الدقيقة السادسة ويختار البقاء في جنة الدم على الجنة لأنه لا يستطيع العيش على وقع أنين الأمهات، في حين تتسارع الدقائق لتصل العاشرة.
حينها تعود الخلفية السينمائية ليكتب أن النبي عاش في بيت الأم وساعدته في الشفاء من ألامه على وقع صوت الماء وتصفيق الجمهور.
النص الثاني
تمكّن المخرج من تقديم إضافة للنص المكتوب عبر نص ثاني للخشبة، رغم حذفه عدة مشاهد منها الاتصالات الهاتفية بين الأمهات وهي في الواد المقدس ثم عريضتهن في مواقع الاتصال الإلكتروني وفيسبوك مثلا، فكان “مصطفى ستار الركابي” وهو يقدم العمل المشترك الثالث الذي يخرجه لنفس صاحب النص، الكثير من المفاتيح التي وظفها في رؤيته الإخراجية لصناعة العرض، ورؤيته في هذا العرض، من خلال عديد الجوانب التقنية مع استعمال قصديته في إحداث الصدمة بالجرعة الدرامية النفسية الزائدة لدى المتلقي بعدما حضره نفسيا في الظلام لولوج و استقبال شخصية موسى النبي.
المسرحية التي استحضرت الأديان، إنما قدمت المؤسسات الدينية التي وجب عليها تأدية دور ريادي في مجتمعاتنا العربية الباحثة عن سد للفراغ الروحي الذي نحياه من نتاج الأزمات الأمنية والاجتماعية التي نقبع فيها، ثم دعوتها إلى ترميم ما يمكن وقدرتها بإيجاد علاج سريع لما يحدث من زلزال يومي في حياة.
يا رب أعادت الحديث عن علاقة العبد بربه في سينوغرافيا راقية استغلها المخرج رغم بساطتها وانتقل بها من مشهد إلى آخر مع استعمال تقنيات سينمائية في العرض أثثت للمسرحية التي استعمل فيها المخرج صداما معلنا وإن خفت أصواته المتعددة بين النبي والعبد.

المصدر/ محمد سامي مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *